سينوغرافيا الجسد في المسرح /بقلم يوسف الحمدان

عندما يرد الحديث عن السينوغرافيا في المسرح العربي ، فإنه يتحدد ، بل يتأطر في كونها فن الديكور ، وإذا كانت هناك ثمة إضافة ، فإنها فن الديكور والإكسسوار، وإذا كانت ثمة رؤية أشمل فهي فن الديكور والإكسسوار والأزياء ، بينما المجالات الصوتية والضوئية والمعمارية والتشكيلية والشكل الداخلي للبناء المسرحي وكل ما يتعلق بتكنولوجيا المسرح الحديث في دول العالم المتقدم، هذه المجالات وهذا الشكل وكل ما يتعلق ، لم تكن في حيز الرؤية للسينوغرافيا في المسرح العربي إلا إذا استثنينا ، وعن الاستثناء لنا حديث لاحق في هذه الورقة .
إن السينوغرافيا على الرغم من كونها مصطلحاً قديماً عرف لدى الإغريق فيما ق.م بفن الزخرفة ، إلا أنها حديثة العهد في المسرح العربي ، بل إن بعض مسرحيينا العرب في بعض الدول المجاورة لم يسمع عن فن يطلق عليه السينوغرافيا ، أستثني من ذلك المسرح التونسي الذي له دور أساسيّ في تصدير هذا الفن لكثير من المسارح في الوطن العربي حد (التوريط) خصوصاً في غياب الرؤية الاجتهادية ذات الصلة بالميدان الفلسفي والبحث المختبري .
وعليه ..
فإن هذا الفن عندما يخضع للتجربة يكون فناً تكميلياً أو تزيينياً أو تجميلياً للعرض المسرحي ، يتحول مادة تتشكل بمعزل عن تصور المخرج للعرض ، أو تتشكل بمعزل عن تصوره من أجل الالتزام بمواقعها ، إن حدود علاقة المخرج بالسينوغرافيا تتمحور في الحيز النصي للمكان ، بمعنى أن لا ضرورة لقراءة السينوغراف لأبعاد النص أو رؤية المخرج لها ، وإذا كان هناك ثمة اتصال بشخصيات النص ، باعتباره مصمم أزياء فصلته بها لا تتجاوز هيئتها الخارجية أو تقاليد زي بيئتها أو تاريخ عصرها ، وكلما أفرط السينوغراف في ترفيه المكان والشخصية ، بدا العرض المسرحي في رأيه وفي رأي المخرج محتملاً ومهماً ومعبراً أو مؤثراً ، وإذا أهمل ذلك بدا العكس .
إن أغلب السينوغرافيين في المسرح العربي ، مخرجين كانوا أو مصممين لبيئة العرض يلجأون للمجال السينوغرافي بغرض تدارك عيوب الممثل الأدائية وحمايته من مواجهة الضوء الفاضح لجسده ، وبغرض تدارك قصورهم الرؤيوي تجاه هذا الممثل ، ولعل ترف هذا المجال السينوغرافي يبدو جلياً في العروض الاحتفالية أو المهرجانية أو الفرجوية ، إننا نرى في عروض كهذه حياة للزي والضوء واللون والديكور والمؤثرات ولكن لا حياة لمن يعنيه شأن هذه السينوغرافيا ونعني به جسد الممثل ، إنه أسير تصور مظهري لا يتفعل أو يتجلى فيه وبه ، وكل ما يملك إزاء هذه التخمة السينوغرافية أصداء صوت أعياه الصراخ فراح يبحث عن نقطة للعبور من خانوق الموت .
وإذا كان هناك ثمة اجتهاد بالنسبة لهذا السينوغرافي المعني ، يتجاوز حدود حيز النص المكاني فإنه يتجلى بتجريب فضاءات التشكيل بكل معطياته ومشتقاته، ممعناً – غالباً دون وعي – في ردم العلاقة بين ما يجربه والعرض الذي يتصدى له ، فنجد أنفسنا أمام تجربة أخرى لا نعرف أحياناً ما نسميها ، عرضاً مسرحياً أم رؤية تشكيلية مقترحة لعرض مسرحي حر ! إن سينوغرافيا كهذه لاشك أنها تضطلع بدور امتهاني لفضاء العرض المسرحي ، ولأن هذه السينوغرافيا مشروطة بتصور وبممارسة كهذين فإن العرض المسرحي هو غير المتحقق في فضاء التجسد المفترض ، بمعنى أن يظل العرض المسرحي ضحية أخلاط فكرية وفنية شائهة ، ولعل أكثر العروض المسرحية تورطاً بهذه الأخلاط هي العروض التي غالباً لا تنمو في معامل المختبر المسرحي وبالتالي لايمكن أن يتمخص عنها سينوغرافيٌّ مفكر قادر على خلق علاقة تفاعلية تخاصبية مع فضاء العرض المسرحي ، وإذا كان ثمة استيعاب لابأس به لدور السينوغرافيا فإنه يأتي من زاوية التحكم التقني في مادة العرض المسرحي والتي غالباً ما تأتي موازية لحركة وأداء الممثل ، قلنا موازية وليس متخاصبة أو متحاورة أو متفاعلة معه ، فالجهد الذي يستفرغه هذا السينوغراف في العرض لا يقل عن جهد المخرج في خلقه ، وقد تحقق دور فاعل في تخلق التجربة ودفعها باتجاه العرض المسرحي المبدع ، ولكن تبقى العلاقة في حيز تنسيق فضاء العرض المسرحي ، في استنطاق دلالات جديدة في مادة العرض، أما فيما يخص العلاقة التفاعلية بين رؤية المخرج ورؤية السينوغراف والتواصل مع فضاء العرض المسرحي فإنها غير متحققة ، بمعنى أن التطور التقني الرؤيوي لفضاء العرض المسرحي يعوزه محور التفعيل ، ألا وهو الممثل الجسد ، هذا الممثل الذي لا يتحقق في رؤية كهذه إلا باعتباره مادة غير متحولة ، على خلاف مادة السينوغراف ، مادة متجاذبة بين رؤية السينوغراف والمخرج وليس مادة فاعلة في رؤيتيهما ، إن مشكلة كهذه يتحمل مسؤوليتها بدرجة كبيرة مخرج العرض المسرحي ، فهو الذي يمكن أن يقيم علاقة بين رؤيته لأداء الممثل ومادة السينوغراف في العرض ، ولعلنا نلحظ أنه حتى بعض المخرجين المختبريين لدينا حين يتعاملون مع الممثل فإنهم بقدر ما يتوجهون لغنى طاقته الجسدية يتوجهون أيضاً لفقرها خاصة إذا ما انصرفوا للمادة المهيأة لجهدها وتظل حينها علاقتهم بالسينوغرافيا بمعزل عن مدى إمكانية تحقق هذه الطاقة فيها .
أتساءل أحياناً : لماذا السينوغراف في أغلب مسرحياتنا العربية دائب القطيعة مع تجربته الفنية ؟ لماذا يغيب في العرض المسرحي تصوره الفلسفي والجمالي ؟ إننا فقط نقرأ جهده التقني مجرداً وبمعزل عن رؤيته الفلسفية ، ولعل ذلك نلحظه بشكل جلي حين يقوم بتصميم سينوغرافيا لتجربة إخراجية لمخرج تنبثق عروضه المسرحية من ورشة مختبرية مستمرة ، إننا نستطيع من خلال هذه التجربة الإخراجية أن نتلمس رؤية المخرج الفلسفية والجمالية والتجسيدية بينما لا يمكننا أن نتبين علاقة السينوغراف برؤية المخرج ، هل لأن هذا السينوغراف غير دائب البحث والتفكير والممارسة في ورشة مختبرية كما هو حال المخرج ؟ أم هل يعوز المخرج بعض التواصل مع فن السينوغرافيا ؟ سؤال يدعونا للوقوف عنده ومحاورته .
ويأخذني الشطط وأسأل :
كيف يمكننا الحديث عن سينوغرافيا المكان المسرحي ونحن لم نتوفر بعد على تقاليد للمكان كما هي راسخة في أوربا مثلاً ؟
إن مسرحنا العربي لم يحسم علاقته بعد بالمكان المسرحي ، بمعنى أن المكان الذي ستجسد فيه العروض وسيقصده المشاهدون لم يخضع لدراسة باحثة تؤسس على ضوئها علاقتنا به ، وهناك مشكلة أخرى ويبدو لي أنها من الأهمية بمكان ، وهي أنه لم يتوفر لدينا حتى الآن مصممو صالات أو قاعات أو بيئات عروض مسرحية ثابتة وعالية الإتقان وذلك على طول عهدنا بالمسرح ، وإن توفر ذلك المصمم فهو بندرة العطر في الزهور ، ولعل جولة سريعة في أمكنتنا المسرحية كافية بأن تؤكد هذه المشكلة ، على خلاف الأمكنة المسرحية في أوربا ، إذ يمكننا الحديث مثلاً عن مكان مسرحي ومصمم معماري للمبنى المسرحي ، يمكننا الحديث مثلاً عن مسرح ‘’شايوه’’ وفلسفة المكان عند « انطوان فيتيز» ومسرح «لافارم دوبويسون» أو مصممه المهندس المعماري «برنار هويه» والمسرح الخشبي لـ «جان لوي بارو» ومصممه المهندس المعماري «كلود بيرسي» هذا فيما يتعلق بالمكان المسرحي ومصممه ، ولكن ماذا عن المباني الأثرية والساحات العامة والمعابدالقديمة ؟ لماذا تمنع بعض الجهات الرسمية استغلالها مسرحياً ؟ إن رؤية السينوغراف بحاجة ماسة لأن تتجاوز حيز الخشبة الصغير ، بحاجة ماسة لأن تختبر طاقتها في مكان آخر وأوسع ، ولو افترضنا أنه قد تمت إجازة المكان لهذا السينوغراف فإنه حتماً لن يستغله كما يطمح وذلك نزولاً عند قائمة المحذورات الرسمية فيما يمس المكان مسرحياً ، إذاً كيف يمكننا الحديث عن المكان المسرحي والحال هذا في أغلب مسارحنا العربية ؟
أعتقد أن دور السينوغراف في المسرح العربي بدأ يبرز ويتجلى عندما أقيمت المهرجانات المسرحية العربية والدولية ، العربية كمهرجان بغداد المسرحي بالعراق ومهرجان دمشق المسرحي بسوريا ، والدولية وبالذات التجريبية كمهرجان قرطاج بتونس ومهرجان القاهرة بمصر ، حيث التجارب المسرحية العالمية المتميزة أغوت السينوغراف العربي ودفعته للتفكير فنياً وفلسفياً وجمالياً في أهمية بيئة العرض المسرحي وضرورة إبداعها ، حينها بدأ يختبر إمكانياته وخياله ولو أن هذا الاختبار لا يزال في كثير منه رهن الموسم المسرحي وليس في سياق تجريب المكان بشكل مستمر ، ولعلنا نجد أكثر المتحققين سينوغرافياً في فضاء العرض المسرحي بوطننا العربي هم المخرجون المختبريون ، فلو تتبعنا عروضهم المسرحية لوجدنا أنهم يمعنون في اختزال المادة المحيطة بالممثل من أجل إبراز الممثل الجسد باعتباره محور العرض المسرحي ؟ أحياناً يجب أن نشكر الظروف التي جعلت من بعض سينوغرافيي المسرح لدينا غير تشكيليين بالمعنى الحرفي الدقيق والاختصاصي ، الأمر الذي جعل من اجتهاداتهم التقنية ، بالرغم من تواضعها ، متواصلة مع جسد العرض ، والأمر الذي جعلنا نرى فضاء العرض المسرحي في كل تحولاته وتجلياته وتشظياته بمعزل عن التركيز على البؤر الجمالية للنحت التقني الحرفي ، كما أن الوسائل التقنية البسيطة كالإضاءة مثلاً ، أعطت مجالاً رحباً لمخيلة السينوغراف ، الأمر الذي جعلها في متناول جسد العرض المسرحي ، بعيداً عن الإبهار اللافت له لا إلى المتشكل فيه ، كما أنها استطاعت أن تندغم في طقس العرض بحيث يصبح الممثل فيه إحدى جلواته الأساسية ، شيئاً أكثر مما يشاهده المتفرج من تلقاء نفسه ، هدفها الملموس هو خلق هيكل غير منظور والسيطرة عليه مع إبراز الوجود الإنساني ومواكبة مسار الدراما والتعبير عنها بطريقة تخلقية فوق خشبة المسرح أو في بيئة العرض المسرحي .
إن السينوغرافيا تخلق كما هو العرض المسرحي ، بل إنها المسرح ذاته ، إن مفهومها يتسع ليشغل فضاء المسرح ودلالاتها تتكثف لتستقر في جسد الممثل وتنطلق منه ، فإذا كانت السينوغرافيا هي الفن الذي يرسم التصورات من أجل إضفاء معنى على فضاء المكان فإن الجسد هو الكفيل بإضفاء هذا المعنى على الفضاء الأمر الذي يجعل هذا الفضاء قادراً على أن يقوم بدور أدائي وتمثيلي .
إن مهمة المخرج المسرحي صعبة جداً الآن ، لأنه في مسرحنا وحده المطالب بإنجاز عرضه ، وحده المتحقق في سينوغرافيا الجسد ، إن جسد الممثل المسرحي يشكو من فراغ غير اعتيادي ، يجب البحث فيه قبل البحث عن مكان التجسد في العرض المسرحي ، إن الجسد المتمكن من إدراك فضاءه هو حتماً القادر على أن يشغل حيز جسد المسرح بما يحوي من ديكور ومجال صوتي وأزياء وما شابه ذلك ، كيف يمنح الجسد وهجه ودلالاته فيها ؟ كيف تصبح جسداً تتفاعل مع جسد الممثل ؟ كيف يصبح هذا لفراغ الموجود في فضاء المسرح جسداً نتبينه ونحاوره ؟ كيف نستطيع البحث عن مفهوم مسرحي موحد تندمج فيه كل عناصرالعرض في الجسد ، بدلاً من أن تتضافر بمعزل عنه كما هي لدى «أدولف أبيا» أو « جوردن كريج» ؟ كيف نستطيع تأسيس العلاقة المكانية والبصرية بين الدراما والمسرح والمتفرج في الجسد من أن تكون خارجة عنه كما يطرح «جان شوليه» ؟ كيف تنقل صعوبة التمييز بين الديكور والمكان في مسرح «آريان مونشكين» إلى الجسد والعرض المسرحي ؟ كيف يمكننا أن نتحدث عن السينوغرافيا في ظل عدم تحقق تطبيقات مختبرية على الجسد ؟ كيف يمكن لخشبة المسرح والتجهيزات والديكور والعروض والتي يراها «لوي جوفيه» تشكل جميعها كلاً واحداً في الجسد ؟ «بيتر بروك» يسأل نفسه : هل يجب إلغاء الديكور ؟ ويجيب بالنفي ، أعتقد أنه الجسد الممدود بين الإخراج والمكان ، وهنا يتحول الديكور في فضاء بروك جسداً حياً يشغل العرض المسرحي ويؤسس علاقته مع جسد الممثل ، كيف يمكن للفن والتقنية المتوفرين في السينوغرافيا أن يجتمعا في الجسد ؟
إن بحوزة الجسد إمكانيات خارقة ، والمخرج السينوغراف هو الذي يمكنه أن يوجه أنظارنا لهذا الجسد الخارق قبل أي شيء عداه ، وهو الذي يمكنه أن يستقطب كل ماعداه فيه ، وأن يجعله مؤثراً على ماعداه وليس العكس ، إن الجسد في مسرحنا العربي ، غالباً ما يعاني من عطل المخيلة ، جسد غير متخيل أو جسد بلا خيال ، إن المخيلة هي التي تستثير كل شيء في خلايا الجسد ، صحيح أن هذا الجسد يخضع لتدريبات استقصائية ومهمة ولكن التدريبات التي تدفع هذا الجسد لأن يتخيل شبه معدومة .
إن السينوغرافيا التي نطمح لتحققها في مسرحنا العربي هي التي تتماهى في الجسد بحيث لا نستطيع أن نميز مثلاً بين طقس الشمعدان والكرسي الهزاز في ترنيمة الجسد لـ «عوني كرومي» ، وبين طاولة المواجهة والجسد المشتعل في اغتصاب «جواد الأسدي» وبين قسوة العمر وزمن الوجه المتحول إبداعياً في فاميليا «فاضل الجعايبي» وبين اللون المبهم وخارطة الأداء الحركي المتواتر في مجنون توفيق الجبالي وبين استقصاءات الطقس الشعائري وتحولات الجسد المقهور في كمّامة « عبدالله السعداوي» وبين مخدع الموت والميلاد وصخب الصمت في شخوص غزير الليل لـ « حسن الجريتلي» وبين مدرج الرأي العام اللبناني وأتمتة الصوت في جيب « سهام ناصر» السري وبين استوديو اللون وغرائبية الصورة الحيّة في حلم «صلاح القصب» الضوئي وبين مقعد العجز وجفاء الجسد في قمره طاح لـ«عز الدين قنون» ، وبين آلية الظل وخيال الجسد في مذكرات أيوب لـ«روجيه عساف» وبين استراحة محطة القطار المهجورة وأجساد العمال المطوّحة في جرب حظك مع سمك القرش لـ« محمد بصطاويسي» وبين حبال النجاة الخشنة والجسد المتأرجح بعذاباته في شاطىء الزيتون لـ«عبدالرحمن عرنوس» وبين ضجيج المدن المكتظة وتهويمات دون كيشوت الحالمة في صانع الأحلام لـ«مارون جبارة» وبين السقّالات المتداخلة الشائكة وتوهان جسد حنظلة «ناصر عبدالمنعم».
إن تجارب إبداعية كهذه في مسرحنا العربي وغيرها ممّا لم تتح فرصة مشاهدة تجارب إبداعية لها ، من المهم أن تلتقي أو تتاح لها فرصة اللقاء من أجل تأسيس مركز للدراسات والبحوث السينوغرافية على غرار مركز برنار جيومو في فرنسا .

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *