سعد الله ونوس.. سخر منا جميعا

كرار العامل

 
 ونحن نحاول قراءة ونوس سنعرض بريشتيته ،و سخريته و دعوته هو لمسرح عربي  ، يحمل وجها ونوسيا جديدا، وتنظير ونوس لهكذا مسرح في مقالنا هذا المتواضع ، على نحو عام ، وقراءة خاصة لمسرحيته “مغامرة رأس المملوك جابر، التي حملت بين طياتها ،مرارتنا ،واقعنا الباعث على السخرية ! ،برؤية ونوسية تستحق التبجيل، فونوس كاتب ذكي و له قدرة عجيبة في تناول القضايا الاجتماعية الآنية تناولا عظيما يحدث الأثر التحريضي الذي يريده هو ونوس ، ولأنه بريشتيا ومتأثر بالبريشيتة فقد أستطاع- بمحاولته في دفع المشاهد الى أتخاذ القرار – أن يجعل المتفرج في مجال السيطرة على الواقع الذي يعرضه ومن ثم منع إغترابه بدلا من وضعه في حالة التطهير (١) .هكذا فعل ونوس والبريشتيين الآخرين. ويبدو تأثر ونوس بمسرح بريخت واضحا ،ليس على مستوى الأسلوب فحسب ،بل على مستوى المضمون أيضا،فجابر في مسرحية ونوس تلك تشبه شخصية “شجاعة” في مسرحية الأم شجاعة لبرتولد بريشت ، ” وفيها تستغل الأم ظروف الحرب تنتهز لتكسب المال وتحقق ربحا  ولكنها تكوى بنارها ، وتدفع ثمن إنتهازها  ، إذ تفقد أبناءها الثلاث وكان يراد منه اثارة مشاعر الازدراء والمقت والادانة ، ولكنها اثارت مشاعر الإعجاب والشفقة والعطف ” (٢) .إن ونوس في مسرحه آثر أهمية الهدف و الدور الاجتماعي وراء العمل على أهمية الشكل ، فهو يقول ” إننا نضع مسرحا لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية ، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعا ” (٣)، فكان يناقش مع جمهوره تلك المواضيع الشائكة المتصلة بلحضته تلك ومكانه ذاك ، و منها يمكن المشاهد من رؤية التناقضات المعروضة في العمل حينها ليدفعه الى التغيير ، بمنع أغترابه . فهو يثير الغرابة والدهشة فيه لتلك التناقضات (أي تغريبه) وعندما يدفعه بعدها لإتخاذ موقف منها ،يحقق منع التغريب (٤).و أدواته في إظهار ذلك، مرة في تقطيع الحدث الى مشاهد منفصلة دون إهتمام بالتتابع في خط مستقيم ، ومرة يقوم بعزل الممثل عن دوره و يعرض الشخصية بحيادية لا أن يحاكيها ، او يجعل الشخصيات تتبادل الأدوار فيما بينها ، او الإنفصال عن الحدث عن طريق السرد بدلا من التشخيص و أستخدام الراوي كوسيلة لكسر الإيهام المسرحي من خلال تعليقه على الأحداث وشرحه لها (٥).  كما إن الرفض ذاك للمتقبلين من قبل الحكواتي يدفع بالمشاهد نحو التغريب ، كون هذا الرفض جاء مخالفا للعادة ، مخالفا للمألوف ، هو فعل يجعل المشاهد يقظا ، يمنعه من الإنبهار والإندماج والسقوط في شرك الإيهام المسرحي الارسطي  ،”يحدث التغريب أحيانا بخرق العرف والقاعدة والتمسّك بالإستثناء مثال:
*الحكواتي في العرف القديم أنه يستجيب لرغبات المستمعين.
* أبطال الحكايات في الموروث القديم غالبا ما ينتصرون أو يثأرون لمن يغدر بهم ويتحداهم.
- تعمد المؤلف المسرحي كشف قوانين اللعبة وتقطيع أوصال الحكاية من الداخـــل والسخرية مما يقدّم واللعب به لعبا:
”زبون: بعد من قدامنا يا أبومحمد. 
(يغير الخادم مكانه… بينما جابر يوالي كلامه ولعبته دون أن يتوقف(٦). أن ونوس يربط بواسطة الحكواتي زمانين مع بعضهما ، ويقارن بينهما مثل ما قلنا سابقا، زمان وقوع أحداث الحكاية المروية وزمان المتقبلين. ويشير بعقلية فذة الى تشابه الأحداث بين الزمانين . فاللأمبالاة واحدة ، هنا وهناك.فرواد المقهى في المسرحية الذين يمثلون عامة الناس ،يحتسون الشاي ببرودة أعصاب ، وليس بأستطاعة أي حدث مهما كان عظيما – و هذا واقعهم المزري المثقل بأصناف الهموم- أن يهز سكونهم الطاغي ذاك. منتظرين قدوم الحكواتي الذي يحضر مع حضوره ماضيهم . وهم لا يريدون غير الماضي ، ماضي الأمجاد وأنتصارات الأجداد ،لا يريدون غير البكاء على أطلاله . ويحاربون اي فكرة تفصلهم عنه ، ولكن  ونوس ومن خلال الحكواتي يرفض ذلك ويصر على سرد حكاية آخرى قاتمة ، في محاولة منه لإعادتهم الى حاضرهم بقمائته و بؤسه. يحاول صفعهم ليؤكد لهم بأن الواقع يسكن هنا ، على مقربة منهم ،لا خلف سطور حكاية سيرة الضاهر وأنتصاراتها الوهمية.أن ونوس في مغامرة رأس المملوك جابر لم يقرأ واقعنا فحسب، بل سخر منه ، ببلاغة الكاتب المتمرس وقراءة الدارس المتمعن،ومادته في إظهار ذلك كله ؛ اولاً في المقارنة بين واقعين -رسمهما ونوس بعناية وقارب بينهما – وفي اختيار الشخصيات اختيارا يبعث على السخرية ثانياً ،يقول علي البوجديدي (وتتجلى السخرية في مسرحية رأس المملوك جابر واضحة في المكان وتخير شخوص المسرحية. ولقد أتخذ ونوس من المقهى العربي التقليدي فضاء المسرحية الاول ، كما تخير فضاء المقهى/ المدينة في تقابل بين الداخل والخارج ،بين الحاضر والماضي ،وهو يشي ببعد المسرحية الساخر)(٧) . وعامة بغداد وهم شخوص حكاية الحكواتي في محاولاتهم المستمرة للتملص من الصراع الدائر بين الوزير والملك وحرصهم على الغياب عن ساحته ،يشبهون اللامبالاة تلك التي يبديها رواد المقهى للاحداث اليومية ، و لواقعهم المرير .فيؤكد على وجود تشابه في الاوضاع القائمة بين كلا الزمانين ،زمان المتلقي وزمان الرواية المحكية على لسأن الحكواتي ورواد المقهى ” الحكواتي :الحكايات مرتبطة مع بعضها البعض .. سيرة الضاهر بيبرس يحل دورها عندما نفرغ من قصص هذا الزمان … زبون ثاني: اي زمان؟ ..الحكواتي : زمن الاضطرابات ..زبون ٢: هذا الزمان نعيشه .. زبون ١: نذوق مرارته كل لحظة… زبون ٣: فلا تقل من أن ننسى همنا في حكاية مفرحة …زبون ٢: حكاية البارحة كانت كئيبة يسود لها قلب السامع.. الحكواتي: هذه الحكايات ضرورية ..الزبائن ضرورية …الحكواتي : وينبغي أن نرويها”(٨) .وهو عندما  يتناول الحكاية بشيء من الإختلاف، لا يريد خلقها في ثوب جديد ، او تفسيرها تفسيرا مختلفا ،هو يريد أن يقارب فقط بين زمانين ،بين حدثين لا أكثر،حدث ماض وحدث معاصر ،يقول احمد زياد محبك  “أن رد سقوط بغداد الى تقصير في تحمل مسؤولية الواقع ،هو سقوط معاصر على الماضي ،لا يراد منه تفسير التاريخ تفسيرا جديدا ،لأن المسرحية لا تعتمد التاريخ أساسا مصدرا لها ،إنما تعتمد الحكاية الشعبية ، لتصنع بواسطتها المناخ التاريخي ، وإنما يراد به تفسير لحدث معاصر من خلال تفسير حدث ماضي ،يشبهه ويماثله” (٩)  .إن ونوس يعرض شخصية بطله جابر عرضا ساخرا ممتعا جدا ، فيسخر منه ويسخر منا ، من فرديته وفرديتنا المفرطة ، فاذا كان يؤكد على تقارب الازمنة ،فهو يؤكد أيضا على تقارب الشخوص في كلا الزمانين . “فلقد حاول جابر الصعود من العبودية والفقر الى ما به يحقق منفعته و يجوز زوجة فاتنة ويغنم مالا وفيرا ، وفي محاولة صعوده تلك يرتكب رذيلة الصعود الفردي على حساب خدمة عدوه الطبقي و وطنه ،فيكون مصيره القتل”(١٠). ففي صعود  جابر الفردي ذاك – الذي لا يحبذه ونوس – إشارات بليغة الى ما يحدث من خيانات في حاضرنا لعامة الناس والوطن .فكم شهد تاريخنا و حاضرنا شخصيات كشخصية جابر. أناس تسعى للحيازة الفردية ، حتى وإن كان في ذلك السعي خيانة للوطن . وعندما يضع ونوس الموت كنهاية لخائن مثل جابر فهو لا يسخر من شخصية كهذه فحسب ،بل يتعدى ذلك ليشمل رواد المقهى -الذين يمثلون عامة الناس في زمان ما ، ربما يكون زماننا هذا او زمان آخر. “و تتجلى السخرية الاكثر دلالة في إعجاب طوائف من المجتمع بنماذج ممسوخة من الابطال ،وهو ما يكشف عن تدني وعي زبائن المقهى”(١١).ونوس يحمل الشعب هذا السقوط ، ويراه ناتجا عن عدم مبالاتهم وتراخيهم و أنسحابهم عن الشأن السياسي ،فيعود ليؤكد رأيه في ختام المسرحية على لسان المجموعة” تقولون : فخار يكسر بعضه ومن يتزوج أمنا نناده عمنا،لا احد يمنعكم من أن تقولوا ذلك ، لكل واحد رأي وتقولون هذا رأينا ، لكن اذا   يوما و وجدتم أنفسكم غرباء في بيوتكم …الرجل الرابع: إذا عضكم الجوع و وجدتم أنفسكم بلا بيوت ..المجموعة: إذا هبط عليكم ليل ثقيل ومليء بالويل ..الجميع : لا تنسوا أنكم قلتم يوما ؛ فخار يكسر بعضه”(١٢) .وعندما يوجه الكلام في المشهد الأخير الى رواد المقهى ورواد المسرح فهو يشركهم في الحدث،وكأنه يقول لهم ؛ إنكم يا رواد المقهى ومن ورائكم رواد المسرح مسؤولين عن واقعكم ،عن سقوطكم هذا ، ولا تنسوا إن النكبات التي نتعرض لها كعرب -من قبيل نكبة ٥ حزيران-هي بسبب قولنا هذا ؛ فخار يكسر بعضه . ونوس في حله الميلودرامي هذا للعقدة وبنائه الدرامي اللاحتمي يحدث فينا أثرا تغريبيا ومن ثم يخلق في بالنا حزمة من التساؤلات. ” فبدلا من بناء الشخصيات بشكل يساعد المتفرج على توقع النتيجة فإنه يعمل على إدراج كل ما يمنع اي تأويل ممكن ، بالتالي الوقوع في خلق الفكر كمسبب رئيسي ، لإعادة النظر في العالم ،كما تختلف أيضا فيما يتعلق بالنهاية وحل العقدة التي تتميز بالتنافر و اللا تناسب مع مجريات الاحداث ، الشيء الذي يجعل المتلقي يغادر القاعة وفي جعبته عدة تساؤلات “(١٣) . والجمهور يفعل هذا كله ، عندما يطرح التساؤلات تلك في كل مرة يدخل بها المسرح ، عندما يدخل مسرح ونوس  سيخرج بحزمة تساؤلات ، و مواقف اجتماعية – سياسية ، وربما أكثر من ذلك .  وهو يريد من جمهوره أن يناقش ،أن يرفض ويقبل ، أن لا يمنح الفرصة لمن يحاول تغييبه عن واقعه ، أن يقاطع المسارح التي تسعى الى تخديره ، يقول ونوس ” مطلوب من المتفرج أن يكون واعيا و وقحا وبذلك فقط يمكن ان تتساقط كثير من ارتفاعا ت والاكاذيب و أن يصبح المسرح نشاطا أجتماعيا وثفافيا فعالا يجمع الخشبة والصالة في علاقة جدلية وثيقة وغنية ” (١٤)  وهنا نرى أن ونوس قد وفق كثيرا في مسعاه ، قد كان يرى المسرح محركا لا بأس به للجماهير  . وهنا نرى أن ونوس قد وفق كثيرا في مسعاه ، قد كان يرى المسرح محركا لا بأس به للجماهير  . اراد ونوس أن يكون مسرحه مشارك فعال في حياة المتفرج ،يتقاسم معه همومه وآلامه ،فكان كما أراد  له أن يكون، مسرحا ثوريا لصيقا بالجمهور وقضاياة .

المصادر :
(١) احمد العشري ، مسرح برتولد بريخت بين النظرية والتطبيق.
(٢) احمد زياد محبك  ، مغامرة رأس المملوك جابر ،مجلة الموقف الادبي، دمشق السنة ١٥ ، العدد ١٧٨-١٧٩ ، شباط اذار ١٩٨٦
(٣) سعد الله ونوس ،بيانات لمسرح عربي جديد ،بيروت ،دار الفكر الجديد  ١٩٨٨،صفحة ٢٤
(٤) احمد العشري ، مسرح برتولد بريخت بين النظرية والتطبيق ،عالم الفكر ،م ٢١ ع ٣ ،الكويت شباط ١٩٩٢ ،ص
(٥) محمد عزام ، مسرح سعد الله ونوس ،دار علاء الدين ، دمشق ،ص  ١٢٥-١٣٥
(٦) عبد الرزاق السومري، مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” التقنيات الملحمية و أشكال التأصيل ـ
(٧) علي البو جديد ي ، تجليات السخرية في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر ،مجلة الوحدات للبحوث والدراسات ،تونس سنة ٢٠١١ ،العدد ١٣
(٨) مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر ،سعد الله ونوس ، صفحة ٥٥
(٩)احمد زياد محبك ،مغامرة رأس المملوك جابر، مجلة الموقف الادبي، دمشق السنة ١٥ ، العدد ١٧٨-١٧٩ ، شباط اذار ١٩٨٦
(١٠) علي البو جديد ي ، تجليات السخرية في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر ،مجلة الوحدات للبحوث والدراسات ،تونس سنة ٢٠١١ ،العدد ١٣ ص ٢١
(١١) احمد زياد محبك  مجلة الموقف الادبي، دمشق السنة ١٥ ، العدد ١٧٨-١٧٩ ، شباط اذار ١٩٨٦
(١٢) سعد الله ونوس ،مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر ،الخاتمة.
(١٣)  احمد زياد محبك  مجلة الموقف الادبي، دمشق السنة ١٥ ، العدد ١٧٨-١٧٩ ، شباط اذار ١٩٨٦
(١٤) سعد الله ونوس ،بيانات لمسرح عربي جديد، ،بيروت ،دار الفكر الجديد  ٨٨١٩، ص ٢٩

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *