رأي في فلسفة المسرح

ياسين طه حافظ
وإن كنت مهتماً بالمسرح إلا أن اهتمامي بفلسفة العمل المسرحي، التمثيل منه لا بتفاصيل الانجاز الفني. فارق كبير بين الممثل السينمائي في فلم مصور وبين الانسان الحي على المسرح وان اشتركا في بعض مبادئ العمل. هناك تمثيل وهنا تمثيل. ولكن هنا حياة وهناك في الفلم صورة كانت في بعض من تحولات المسرح. 
 
الممثل على المسرح انسان حي، يتكلم ويتحرك امام الناس وقد تمثّل او تلبّس شخصية اخرى ونسيَ نفسه، كما نسيَ ملابسه وبيته في عالم وراءه وكأنه هنا قد اعاد خلقَ نفسه وعالمه أو ابدلهما بغيرهما، شكلا وزمنا ومكانا.
هذا موضوع يحتاج الى تأمل فلسفي ويدعو للكتابة فيه. هو يُعنى بالتحولات الانسانية كما باساليب التعبير عن تلك النفس الانسانية الدفينة وسعيها للحضور ثانيةً بطبيعة وحال أخريين. ..

اما الكتابات المعروفة عن المسرح فتلك كتابات فيها العديد من المشتركات مع الفنون الادبية الاخرى. ويمكن للانشاء والمعلومات الادبية العامة ان توظف لاستكمال تلك الكتابات. وهكذا كتابة عن المسرح عادةً ما تكون ادّعائية تستطيع ان تحيل الكلام ليكون عن الرواية او عن أية كتابة ادبية اخرى. هنا نكون في المدار الصحفي وحدوده. 
اما ما تحدثنا عنه عن تخلي الانسان عن شخصيته وحياته كلها ليتبنى شخصية اخرى وحياتها، فهذا موضوع فكري وسيكولوجي. وقد تكون له صلة بالاسطورة والرمز لكشفهما ايضا عن آماد اخرى. الشخصية التي تبناها هذا الانسان (الممثل) لتكون “هو” في حال اخرى، مجرما او عاشقا او دكتاتورا او عبدا او مزور عملة او سياسيا ورجل ثورة. والبطلة ايضا ان تكون بأي من الشخوص التي نعرفها في الحياة الحاضرة او في التاريخ، ما دافعها؟ هل هو روح ثأري ام رغبة في حياة ثانية ام انها رغبة الانسان في التحولات من حال الى اخرى؟ هنا نتصل بما اهتم به الاغريق من مسخ الشخوص وتحولاتهم بالرغم منهم او برضاهم . واننا هنا لا بالرغم منا ولكن بارادتنا واختيارنا. والنتيجة من حيث المبدأ واحدة في الحالين.
نعود الان نسأل: هل التمثيل هذا بدأ هواية ولعبا او تسلية بلا دلالة اخرى ام هو حاجة انسانية مستقرة في العمق البعيد من أي منا وان حاجتنا لحضور آخر هي من الأماني البشرية على مدى التاريخ، وان فيها رغبة كما فيها تعويض او خلاص؟ ثم أليست هذه الرغبة العميقة هي وراء سر التجلي العظيم في التمثيل وهي وراء تمجيدنا لهذا الممثل وإغفالنا لسواه؟ اليس السبب هو مدى تجسيد الرغبة الحقيقية في التخلي عما فينا وعما نحن فيه لنتلبس او نمثل او لنمتلك شخصية اخرى غير شخصيتنا؟ وان انسجامه الكامل من نبرة الصوت الى النظرة الى حركة اليد الى الانفعال الى طريقة العناق او الابتهاج العظيم بالانتصار هي ما نريد وما نتمناه مما فاتنا او مما نطمح له؟  
ثم اليست تلك الرغبة التي تحدثنا عنها هي وراء ان ممثلا يرتضي هذا الدور ويرفض دورا آخر، اذ لذلك علاقة بمدى ما فيه من استعداد او طبيعة ليكون  تلك الشخصية وانعدام وضعف الرغبة في ان يكون سواها؟ وانه يستطيع التماهي هنا لحاجة كامنة فيه ولا يستطيع هناك لانعدام تلك الحاجة او (المؤهَّل)؟ انها النفس وحاجتها، مرةً يريد الفرد ان يكون ملكا ومرة ضحية ليستطيع ان ينطق بما لم تنطق به الضحايا او عاشقا او عاشقة ليتحدثا ويسلكا كما لم يتحدث به ويسلكه من قبلهم وكأن واحدهم يريد ان يتمم ما فات او يكون بديلا.
تابعت يوما بدقة شديدة دفاع ونبرات صوت وحركات يدي ممثلة هائجة تؤدي دور بغيّ. كانت مستميتة في دفاعها، حركاتٍ وكلاما وكأنْ تريد ان تغيّر ما في رؤوس مَن حولها من اخطاء وسوء فهم وتؤكد وجود جوهر طمره من قبلهم فهم لا يرونه! مثل هذا نجده فيمن يمثلون دور الضحايا السياسيين وهم يدافعون، ونجده في هدوء وسكينة التقاة والاولياء وهم يستسلمون للقوى الغاشمة بمرارةِ وأسى الانسانية كلها. 
قضايا الانسان الشائكة في الحياة ومعاناة هذا او ذاك او حرمانهما تقابلها المضادات المتمنّاة والاحوال البديلة الأفضل. لهذا فرغبة الانسان في التحول من شخصية الى اخرى هي رغبة أزلية وأمنية دائمة تصحبها روح “خلق” وقدرة على “نسيان” الموجود. في مرحلة التماهي هذه يولد الفن العظيم الذي نسميه التمثيل ويولد الفنان العظيم الذي نسميه الممثل أو فن المسرح في جانبه الحي.
طبعا التقنيات والإضاءة والديكور هي مساعدات وعوامل خلق بيئة “جديدة”، الأصح بيئة ثانية، تساعد الممثل على نسيان الواقعي اليومي والتماهي بالشخصية المتمناة او المطلوبة. هنا حوّلنا العالم المتخيَّل أساساً، الى حال حاضر له واقع وله حضور مادي. وهذا جو لظهور الشخصية الجديدة وإخفاء الاولى اوإ تماما عن عالم المسرح. قطع صلة. هنا نحن الآن في عالم آخر. 
احترم القول بأن الشخصية في المسرح هي الشخصية المنعكسة negative للشخص الحقيقي. لكني لا ارتضي بهذا الرأي إلا حِرَفيّاً. فلسفياً وفنياً هو تخلى عن شخصيته، وصار على المسرح شخصية اخرى، حياةً وتفكيرا وعواطف. شخصية اخرى تمناها من قبل او مطلوبة ويستطيع ان يجد حاجة روحه فيها. هي في الحالين مراد منها ان تؤدي دورا او تعيش حياتها في عصرنا. بمثل هذا العمل الفني والفكري ننتقل من الحكاية الى الملحمة ومن التعمية الى الفلسفة والفكر. وبهذا الفهم ايضا يكون للفن المسرحي أفقه الخاص ضمن الأفق العام للفلسفة والفن.
في واحدة من مهام المسرح “الحي” انه يُحدِث مشاركة بالاحساس الانساني بين الممثل، الحياة الجديدة له، وروح المشاهد. ولتوسيع الأثر، نقول المشاهدين. وهذه مهمة جليلة يسهم فيها الفن والفكر واللغة وفن الإلقاء. هنا الجميع يتبنون الحدث او الحال. وهي واحدة من اعظم المهام التي يؤديها المسرح. انها التعاطف والمشاركة، انها الحضور الانساني المشترك. ولهذا استغلت السياسة والايديولوجيات هذا التأثير كثيرا، احيانا قليلة لما هو مفيد وكثيرا ما نقلته من التنوير الى التضليل. فنحن بهذا لا نضمن الصواب دائما وكثيرا ما نخسر المضمون الانساني الفكري الذي تحدثنا عنه!
————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *