حكايات ‬من ‬أرشيف»المثقفين»‬ ‬الانتهازيين ‬/ كمال ‬الشيحاوي

من ‬عروض  ‬المسابقة ‬الرسمية (‬«‬تصحيح ‬ألوان»‬ ‬من ‬سوريا)‬

احتضنت ‬قاعة ‬«‬الرّيو»‬ ‬بالعاصمة ‬العرض ‬الأوّل ‬للمسرحية ‬السورية ‬المشاركة ‬في ‬المسابقة ‬الرّسمية ‬لأيام ‬قرطاج ‬المسرحية ‬«‬تصحيح ‬ألوان»‬ ‬وذلك ‬أمام ‬جمهور ‬غفير ‬صفّق ‬طويلا ‬لتحية ‬الممثلين ‬«‬يوسف ‬المقبل»‬ ‬و«ميريانا ‬معلولي»‬ ‬ومخرج ‬ومؤلّف ‬العمل ‬«‬سامر ‬اسماعيل»‬.‬

يضعنا ‬العمل ‬وهو ‬عبارة ‬عن ‬فصل ‬مسرحي ‬واحد ‬منذ ‬البداية ‬أمام ‬مشهد ‬ثابت ‬بإضاءة ‬مباشرة ‬و ‬مكشوفة ‬و ‬ديكور ‬واحد ‬وثابت ‬أيضا ‬هو ‬عبارة ‬عن ‬«‬صالون»‬ ‬لبيت ‬متواضع  ‬وعلى ‬قدر ‬من ‬التقشّف ‬والفوضى ‬في ‬نفس ‬الوقت، ‬يظهر ‬بين ‬أثاثه ‬البسيط ‬وكتبه ‬وحقائبه ‬وصناديق ‬الكرتون ‬المبعثرة ‬كهل ‬بصدد ‬الاستماع ‬لموسيقى ‬أغنية ‬وجمع ‬بعض ‬أغراضه  ‬متلذّذا ‬في ‬كلّ ‬مرّة ‬شرب ‬كأس ‬من ‬الخمر. ‬وسريعا ‬تدخل ‬فتاة/‬صحفية، ‬يتبيّن ‬أنّه ‬كان ‬في ‬انتظارها ‬لإجراء ‬حوار ‬بمناسبة ‬حصول ‬روايته ‬«‬الخوف»‬ ‬على ‬جائزة ‬أدبية، ‬سيسافر ‬في ‬الغد ‬لتسلّمها ‬في ‬إحدى ‬البلدان ‬الخليجية. ‬وبدون ‬مقدّمات ‬وعلى ‬نحو ‬مفاجئ  ‬يمتزج ‬الحوار ‬بينهما  ‬بصراع ‬الإرادات ‬المعلن ‬والغامض . (‬هي ‬تحاول ‬استدراجه ‬للإجابة ‬عن ‬أسئلتها، ‬بل ‬وإجباره ‬على ‬ذلك ‬وهو ‬يحاول ‬إثارتها ‬حسّيا ‬وإغوائها ‬لغاية ‬في ‬نفسه، ‬بما ‬يوحي ‬صراحة ‬بموقف ‬سلبي ‬من ‬الصحافة ‬التي ‬لا ‬تهتم ‬بالكاتب ‬إلا ‬عند ‬حصوله ‬على ‬جائزة).‬ ‬

حلبة ‬صراع ‬الأجيال ‬والذاكرة

وعلى ‬امتداد ‬كامل ‬العرض ‬تحوّلت ‬الخشبة ‬إلى  ‬حلبة ‬صراع ‬مباشر ‬بين ‬الصحفية  ‬والأديب. ‬وقد ‬تطوّر ‬الحوار ‬بينهما ‬إلى ‬ما ‬يشبّه ‬التحقيق ‬الأمني، ‬استخدمت ‬فيه ‬الصحفية ‬ما ‬تملكه ‬من ‬معطيات ‬ومعرفة ‬بتفاصيل ‬الرواية ‬وبما ‬خفي ‬منها ‬لمكاشفته ‬بما ‬تعلمه ‬من ‬حقائق ‬عنه. ‬وبلغ ‬الصراع ‬بينهما ‬درجات ‬كبيرة ‬من ‬العنف ‬والتوتّر ‬وانكشفت ‬في ‬تصاعد ‬إيقاعه ‬سير ‬وحكايات ‬وأسرار ‬ظنّ ‬الكاتب ‬أنّها ‬قبرت ‬مع ‬الماضي. ‬وبقدر ‬ما ‬كشفت ‬المسرحية ‬في ‬صيرورة ‬الحوار ‬المتدافع ‬والصاخب ‬بين ‬الصحفية ‬والكاتب ‬عن ‬هويتهما ( ‬إذ ‬هي ‬«‬مايا»‬ ‬وليست ‬«‬رشا»وقد ‬انتحلت ‬صفة ‬صحفية ‬لفضح ‬حقيقة ‬الكاتب ‬«‬جابر ‬ابراهيم»‬ ‬الذي ‬أقام ‬مجده ‬ونجاحه ‬على ‬سرقة ‬أعمال ‬والدها ‬«‬اسكندر ‬ياسين»‬ ‬ومنها ‬روايته ‬«‬الخوف»‬)  ‬قامت ‬بالتوازي ‬مع ‬ذلك ‬بلملمة ‬شتات ‬سير ‬شخصيات ‬تمثّل ‬جيلا ‬هاما ‬من ‬أجيال ‬المثقفين ‬والفنانين ‬السوريين ‬من ‬ثمانينات ‬القرن ‬الماضي ‬ومنهم ‬والدها ‬«‬اسكندر ‬ياسين»‬ ‬الذي ‬سجن ‬بسبب ‬أرائه ‬وكان ‬ضحية ‬وشاية ‬من ‬«‬جابر ‬ابراهيم»‬ ‬ذاته ‬وزوجته ‬«‬الممثلة ‬المسرحية»‬ ‬التي ‬يزعم ‬«‬جابر»‬ ‬أنّها ‬كانت ‬عشيقته.‬

عناصر ‬الدراما ‬وتعقيداتها

ظاهريا ‬أو ‬في ‬المستوى ‬الأوّل ‬من ‬خطاب ‬العرض ‬المتلفّظ ‬فإنّنا ‬أمام ‬قصّة ‬واضحة ‬ودامية ‬لجيل ‬من ‬المثقفين ‬والكتاب ‬الانتهازيين ‬الذين ‬أساؤوا ‬لبعضهم ‬البعض ‬بما ‬اقترفوه ‬من ‬سرقات ‬وكذب ‬وخيانات ‬ووشايات. ‬فجابر ‬يدّعي ‬أنّه ‬لم ‬يسرق ‬رواية ‬«‬الخوف»‬ ‬بل ‬استعادها ‬لأنّها ‬فكرته ‬وقصّته ‬التي ‬قام ‬اسكندر ‬ياسين ‬بالسطو ‬عليها ‬مثلما ‬قام ‬بالسطو ‬على ‬حبيبته ‬والتزوج ‬منها ‬والحال ‬أنّها ‬كانت ‬عشيقته ‬كما ‬تثبت ‬الرّسائل ‬التي ‬يحتفظ ‬بها. ‬طبعا ‬لا ‬شيء ‬يؤكّد ‬كلامه ‬أو ‬يدعمه ‬خصوصا ‬في ‬ادعائه ‬الكاذب ‬بأنه ‬صاحب ‬الرواية ‬طالما ‬أن ‬فكرتها ‬تعود ‬له ‬والحال ‬أنّنا ‬نعرف ‬جميعا ‬أن ‬فضل ‬الرواية ‬في ‬صياغتها ‬الفنّية ‬وليس ‬في ‬الفكرة ‬أو ‬الموضوع ‬ولكن ‬قصّة ‬الرّسائل ‬التي ‬تبادلها ‬وزوجة ‬صديقه ‬تشوّش ‬على ‬كلّ ‬شيء ‬وترسل ‬كثيرا ‬من ‬الغموض ‬المتعمّد. ‬وحسب ‬تقديرنا ‬فإن ‬المهمّ ‬في ‬هذا ‬العمل ‬ليس ‬ترجيح ‬رواية ‬على ‬أخرى ‬أو  ‬إدانة ‬شخصية ‬معينة ‬ومحاكمتها ‬بقدر ‬ما ‬هي ‬مساءلة ‬لسير ‬جيل ‬وضرب ‬من ‬تحميل ‬المسؤولية ‬لمثقفين ‬وفنانين ‬وإعلاميين ‬ساهموا ‬بانحدارهم ‬الأخلاقي ‬في ‬انزلاق ‬بلدهم ‬شيئا ‬فشيئا ‬نحو ‬العنف ‬والحرب. ‬

مسؤولية ‬المثقفين ‬والنظام ‬أيضا

وهذا ‬الخطاب ‬يتحمّل ‬مسؤوليته ‬مخرج ‬العمل ‬وكاتبه ‬«‬سامر ‬اسماعيل»‬ ‬الذي ‬كان ‬غضبه ‬على ‬المثقفين ‬أعلى ‬بكثير ‬من ‬غضبه ‬على ‬النظام ‬السوري ‬ذاته ‬الذي ‬كانت ‬له ‬قدر ‬من ‬المسؤولية  ‬في ‬تعفين ‬أجواء ‬المثقفين ‬وترذيلهم ‬وابتذال ‬قدرهم ‬ودفعهم ‬في ‬مناخ ‬من ‬التجسّس ‬والمراقبة ‬وحبس ‬الأنفاس ‬للوشاية ‬ببعضهم ‬البعض ‬بما ‬يساعد ‬على ‬بقائه ‬وإدامة ‬شرعيته ‬مستعينا ‬في ‬ذلك ‬بكتاب ‬مزيفين ‬كانوا ‬مخبرين ‬في ‬حقيقة ‬أدوارهم.‬

ومع ‬ذلك ‬لا ‬تفوتنا ‬في ‬نهاية ‬هذه ‬القراءة ‬السريعة ‬أن ‬نوجّه ‬تحية ‬كبيرة ‬للممثلين ‬«‬يوسف ‬المقبل»‬ ‬و ‬«‬ميريانا ‬معلولي»‬ ‬على ‬أدائهما ‬اللافت، ‬فقد ‬حملا ‬بجسديهما ‬كلّ ‬دلالات ‬وعناصر ‬العرض ‬السينغرافية، ‬كما ‬لا ‬تفوتنا ‬تحية ‬المؤلف ‬والمخرج ‬«‬سامر ‬اسماعيل»‬ ‬على ‬حسن ‬إدارته ‬للممثلين ‬وتحكّمه ‬في ‬إيقاع ‬العرض ‬وبنائه ‬السردي ‬وحسن ‬توليفه ‬بين ‬عناصر ‬الحوار ‬والقصة ‬والرواية ‬والتحقيق ‬ووضع ‬كلّ ‬ذلك ‬في ‬إطار ‬مشهدي ‬عكس ‬قدرة ‬المسرح ‬على ‬الانفتاح ‬على ‬فنون ‬الفيديو ‬والوسائط ‬الحديثة ‬وتوظيفها ‬لصالحه ‬ونقصد ‬بذلك ‬جعل»المسرحية»‬ ‬كلّها ‬وكأنها ‬«‬فيديو»‬ ‬على ‬المنتدى ‬الاجتماعي»‬فايسبوك»‬، ‬إذ ‬ذكرت»مايا»‬ ‬أنّها ‬بصدد ‬عرض ‬الحوار ‬معه ‬بشكل ‬مباشر ‬على ‬شبكة ‬الانترنات. ‬

____________________

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *