جورج أبيض: شيخ مؤسسي المسرح المصري /سارة عابدين

 

 

المصدر/ضفة ثانية/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

يعتبر الكثيرون من مؤرخي المسرح العربي والمصري، أن عام 1910 الذي جاء بعودة جورج أبيض من فرنسا، يمثل مرحلة جديدة للمسرح المصري والعربي بشكل عام. ويعتبر عمله أول خطوة حقيقية قائمة على الدراسة المتخصصة، المستمدة من تراث المسرح الأوروبي العريق.

كان المسرح قبل جورج أبيض قائما على تيارين لا ثالث لهما: تيار غنائي طربي، وتيار آخر قائم على الفكاهة التي قد تصل إلى حد الابتذال، ولم يكن للعمل الفني هدف تنويري أو فني، لكنه كان مبتذلا قائما على توفير أسباب الترفيه والتسلية للطبقة البرجوازية، وترسيخ المفاهيم الإقطاعية؛ والدفاع عن الحكام دون نقد أو مساس لسلطاتهم المطلقة، طلبا للرزق وتملقا للطبقة الغنية.

نشأة جورج أبيض

ولد جورج أبيض في بيروت في 5 مايو/ أيار عام1880، ودرس بمدرسة الفرير وانتقل بعدها إلى مدرسة الحكمة وتعلم بها أصول اللغة العربية، كان بارعا في اللغة وإلقائها نثرا وشعرا. قدم أول أدواره التمثيلية آنذاك، في الحفل السنوي للخريجين في مدرسته، وأدى فيه دورا في مسرحية “القروش الحمراء” في حضور الممثل الفرنسي (جان فريغ) الذي كان يؤدي نفس الدور على مسارح باريس. أثنى فريغ على موهبة جورج أبيض وإجادته الدور، وكان لتشجيعه أثر عميق لم يفارقه.

التحق جورج أبيض، في ما بعد، بمعهد اللاسلكي، وبعد حصوله على الدبلوم، استدعاه خاله للعمل في مصر، وعين وكيلا لمحطة قطار سيدي جابر، لكنه لم يستطع الاستمرار في هذا العمل، وعاد من جديد لتتبع شغفه القديم بفن التمثيل.

في إحدى الليالي الخيرية، وتحت رعاية الخديوي عباس، قام جورج أبيض بعرض مسرحية “البرج الهائل” من تأليف الكاتب الفرنسي، إسكندر ديماس، وقدم من خلالها دور بيريدان. أعجب الخديوي بتمكن جورج أبيض وقدرته على التمثيل، ووافق على إيفاده في بعثة إلى فرنسا لدراسة أصول فن التمثيل المسرحي.

درس أبيض في فرنسا بداية من عام 1904: 1910 وتتلمذ على يد الممثل الفرنسي (سليفان) أحد أهم ممثلي المسرح الفرنسي القومي العريق (الكوميدي فرانسيز)، الذي أنشأه الملك لويس الرابع عشر عام1680 ليكون بيتا لروائع الشعر المسرحي الفرنسي.

عودة جورج أبيض من فرنسا

عاد جورج أبيض إلى الإسكندرية بعد أن أنهى سنوات بعثته الدراسية في فرنسا، مصطحبا معه فرقته المسرحية الفرنسية، وفور عودته بدأ في عرض ست مسرحيات على مسرح الحمراء في الإسكندرية، وبعد أسبوع أعاد عرضها من جديد على مسرح الأوبرا الخديوية بالقاهرة، ومن ضمن هذه المسرحيات: “طرطوف” لموليير، و”لويس الحادي عشر” لكازمير دي لافين التي حضرها الخديوي عباس حلمي الثاني، وبعض المسرحيات الأخرى التي ظلت تعرض لموسم كامل على مسرح الأوبرا الخديوية، لكن الفرقة لم تنل التقدير والنجاح المتوقع، لأن جميع عروضها كانت باللغة الفرنسية، مما كان يشكل عائقا، أمام تواصل الجمهور المصري معها.
في هذا الوقت، طلب منه سعد زغلول، الذي كان وزيرا للمعارف آنذاك، أن يقوم بتأليف فرقة مسرحية، تقدم عروضها باللغة العربية، وتعمل على توعية الشارع المصري، ومعالجة مشاكل المجتمع عن طريق عروضها الفنية. رحب جورج أبيض بالفكرة، لأنها تلاقت مع حلمه، في تقديم مسرح ناطق باللغة العربية، فحل جورج فرقته الفرنسية وأحل مكانها فرقة مصرية.

بدأ جورج أبيض مع أعضاء فرقته المسرحية تجربته الفنية الأولى، وقدم أول مسرحية شعرية عربية من فصل واحد بعنوان “جريح بيروت”، من تأليف شاعر النيل، حافظ إبراهيم، وقدمت في دار الأوبرا؛ وخصص دخلها لإعانة المنكوبين في معركة بيروت.

ثم عرض بعدها مسرحية “أوديب ملكا” التي عربها فرح أنطون، وعرضت على مسرح الأوبرا الخديوية، من خلال اثنتي عشرة ليلة عرض متواصلة، ومن خلال بروغرام العرض تعرف الجمهور على أعضاء فرقة جورج أبيض وهم: عزيز عيد، عبد الرحمن رشدي، فؤاد سليم، أحمد فهيم، محمد بهجت، علي يوسف، حسين حسني، عبد العزيز خليل، عبد المجيد شكري، عمر وصفي، محمود رضا، أحمد حافظ، منسى فهمي، إسكندر كفوري، محمد إبراهيم، مريم سماط، إبريز أستاتي، صالحة قاصين، أستر شطاح، نظلى مزراحي.

بعد نجاح العروض الأولى لفرقة جورج أبيض، توالى عرض المسرحيات الفرنسية بعد تعريبها، فقدم “أوديب” لسوفكليس، ترجمة فرح أنطون، و”لويس الحادي عشر” ترجمة محمد مسعود، و”عطيل” لشكسبير، ترجمة خليل مطران، و”الأب ليونار” ترجمة توحيد السلحدار، و”صاحب معامل الحديد” ترجمة يوسف البستاني.

من خلال عروضه، عمل جورج أبيض على ترسيخ قواعد فن المسرح، والملصقات الدعائية للعمل الفني، وطبع برنامجاً فنيّاً خاصاً بكل حفلة، والتقيد بموعد ثابت لرفع الستار، وظهر لأول مرة الممثل المدرب بأسلوب علمي، بالإضافة إلى اهتمامه بالملابس المناسبة بطبيعة الزمان والمكان، اللذين يقدمهما العرض المسرحي، والديكورات المناسبة للعرض، وجعل للممثلين رواتب ثابتة، واهتم بالمعايير الفنية والتقنية، المتبعة في المسرح الأوروبي العتيد.

اندماج فرقة جورج أبيض مع فرقة سلامة حجازي

وفي عام 1914 داهمت المسرح أزمة عالمية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، التي على أثرها اندمجت فرقة سلامة حجازي مع جورج أبيض، وكونا فرقة عرفت باسم “جوق أبيض وحجازي”.

تعتبر هذه الفترة فترة ركود وتراجع في حياة جورج أبيض الفنية، فقد وجد نفسه مرغما على المشاركة في عدد من العروض المسرحية الهزلية، الفكاهية نزولا على متطلبات العمل المتاح في هذا الوقت، وخشية الإفلاس؛ لأن المسرح كان قد عود جمهوره على أن يكون هدفه المتعة وحدها، دون أي مضامين أو اعتبارات فنية.

ربما كان المناخ السائد في هذا الوقت، من إحباط ويأس، وتزايد للضغوط النفسية على جورج أبيض، سببا في اضطراره للنزول عند رغبات الجماهير، في هذه الفترات من حياته، لكن في الوقت نفسه لا يمكن التسامح معه ولا إعفاؤه من مسؤولية تهميش مسرحه والحط من قدر نفسه، والتنازل عن اعتقاده الراسخ بأهمية المسرح وتناسي مقولته الشهيرة: “إن المسرح هو جماعة الشعب، الجماعة التي ترفع مستوى المتفرجين ولا تتملقهم”؛ حتى أنه وقف ليغني في واحدة من المسرحيات التي قدمها آنذاك.

تقول فاطمة اليوسف في مذكراتها “لا أنسى جورج أبيض ممثل التراجيديا الكبير، بجسمه الضخم وصوته العريض، وقد وقف على المسرح يغني فيخرج صوته نحيفا ممزقا، وقد نسي اللحن وضوابط النغم، وبعث الاضطراب في الفرقة الموسيقية بأكملها”.

انفصل كل من جورج أبيض وسلامة حجازي، بسبب ما اعترض الفرقة من عقبات، وبسبب اختلاف وجهتي نظرهما، وكون أبيض فرقة جديدة، بدأت نشاطها المسرحي بعرض مسرحية (لويس الحادي عشر) في نوفمبر/تشرين الثاني 1916، لكن بعد إضافة بعض النصوص الجديدة إلى العرض المسرحي، لكي تؤهله للمنافسة مع الفرق الجديدة.
عند اندلاع ثورة 1919 توقفت جميع المسارح عن التمثيل مشاركة في الثورة الوطنية. وفي أوائل العشرينيات سافر جورج مع فرقته إلى تونس، فطلبت منه جمعية الأدباء بتونس أن ينشئ لها مسرحاً تونسيا، ويشرف عليه، فعادت الفرقة إلى القاهرة، واستمر جورج بتونس مدة عام ونصف العام، أنشأ خلالها أول معهد لفن المسرح بتونس.

جورج أبيض والإخراج المسرحي

لم يتم الاتفاق بين مؤرخي المسرح على ما إذا كان جورج أبيض قد تولى مهمة الإخراج أم لا، لكن تأتي مذكرات فاطمة رشدي لتوضح بعض الإشارات، التي قد تحيلنا إلى أن أبيض لم يكن خبيراً بفن الإخراج المسرحي بمعناه الحديث، وتذكر أن عزيز عيد حدثها أن جورج أبيض حينما أراد أن يؤلف فرقته المصرية استعان به ليقوم بمهمة الإخراج.

يقول عزيز عيد: “كان إلقاؤه (جورج أبيض) يستهوي النفوس ويخلب الأفئدة، لكنه لم يدرس فن المناظر، ولا الإضاءة، ولا الحركة المسرحية، ولا تدريب المجموعات على الدخول والخروج، أو قيادتهم قيادة المايسترو لأعضاء فرقته الموسيقية، لتبدو مجموعة متناسقة ليس فيها شذوذ”.

شجع جورج أبيض على الإخراج المسرحي، وأبرز دور الإلقاء الصحيح، والحركة السليمة ومفاتيح الجمل، وكان عزيز عيد أول مخرج لمسرحيات جورج أبيض في عام 1912 وأخرج له ثلاث مسرحيات تراجيدية كبرى هي: “أوديب ملكا”، “لويس الحادي عشر”، و”عطيل”، وكانت هذه المسرحيات باكورة إنتاج جورج أبيض المسرحي باللغة العربية.

أما بخصوص مسرحياته التي قدمها باللغة الفرنسية عقب عودته من فرنسا، فهو لم يتحمل مسؤولية إخراجها بشكل تام، إنما استطاع أن يقدم هذه العروض، وينقلها نقلا حرفيا إلى مصر، عن طريق دراسته ومشاهدته المتعمقة لها على مسارح فرنسا.

يقول سعد أردش بهذا الشأن “لسنا نعلم، على وجه التحقيق، ما إذا كان جورج أبيض هو مخرج مسرحياته الأولى بالفرنسية، ولكن المؤكد أن أعماله باللغة العربية بعد ذلك قد أخرجها كل من، عزيز عيد، وزكي طليمات، وفتوح نشاطي، إلا أن جورج أبيض يعتبر شيخ المسرحيين، وهو يقف بعظمة وشموخ على رأس هذا الجيل المؤسس من رجال المسرح”.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *