جماليات الأستجابة في دائرة الطباشير القوقازية ..( برتولد بريخت ) أنموذجاً

 محمد عبد الزهرة الزبيدي
لو رجعنا إلي تاريخ الأدب والمسرح كله لوجدنا أنه كان وعاءاً للأفكار. بل إن إيصال الأفكار إلي الآخر عن طريق الإقناع هي لحظة التجلي في خروج الإنسان من ذاته الفردية الي ذوات الآخرين. بل يمكن القول أيضاً إن إيصال الأفكار الي الأخر مرتبط بالشوط الزمني لتطور الوعي الإنساني وهو الذي خلق الفلسفة والعلوم والفنون. بأعتبار أن الأفكار محركة لكل وسائل التعبير ، والدراما منذ نشأتها كأحد تلك الوسائل قامت علي صراع الأفكار أو المواقف بين جماعات متصادمة الأولي تحاول المحافظة علي ما هو قائم والأخري تدعو الي الهدم والبناء وهي من الصفات المميزة للطبيعة البشرية عن الكائنات الحية الأخري بالتجدد وتغير في أعادة التوازن ما بين الإنسان والمجتمع ، والمثال علي ذلك ظهور النزاع الطبقي في المجتمعات بسب توزيع المصادر الاقتصادية بشكل غير عادل الذي أنقسم المجتمع علي أثره الي عدة طبقات تتصارع فيه طبقتين رئيسيتين هما الطبقة المستغلة أي الطبقة المالكة للسلطة والثروة والطبقة المستغلة أي الطبقة المحكومة فاقدة السلطة والثروة ،
ولكلا الطبقتين المتصارعتين أهداف وغايات شكلت وعاءً لأفكارها ، ومابين هذا وذاك تحول فن المسرح إلي محللٍ اجتماعيٍّ وناقدٍ سياسيٍّ استولد موضوعات (الفقر – الظلم الاجتماعي – القهر السياسي ) الي جوار ذلك تجددت الدعوات الاشتراكية في مختلف تلاوينها الداعية إلي التغيير التي أنعكس تأثيرها علي المسرح باعتباره رسالة الي المتلقي و المجتمع ككل. فهو يخاطبهم مباشرة. فيكون من وراء ذلك أنه يشكل لهم رأياً جماعياً يتحول إلي نوع من التحريض علي اتخاذ المواقف. وهنا أقصد بكلمة (التحريض) الذي شاع لنوعٍ من المسرح منذ أواسط القرن العشرين حين انتشرت طروحات ( برتولد بريخت ) في أن يكون المسرح محرضاً للناس علي التغيير وهنا ((التغير)) في طبيعة إنسان أم في تبني الايديولجية لدي (بريخت) وهنا وأي الأسباب الي دعت (بريخت) الي تبني تلك الخلفية الماركسية التي أمن بها من خلال هدم الفكر السائد والدعوة الي فكر جديد و كأحد نتاجات الفكر الاشتراكي الذي أسفر عن ما يعرف (بالمسرح السياسي) في تجلياته العديدة ( إصلاحي ، ثوري ، فكري ) باعتبار الأيدلوجيات وعاء فكري واجتماعي الذي يبلور أطر الصراع في الحياة و الدراما ، فقد ظهر (بريخت) أبرز منظر للمسرح السياسي بعد( أرفن يسكاتور) ،بل أبرز منظري الدراما في القرن العشرين ، ولم تتبلور أفكار( بريخت) ألا في ظل تيني أيديولوجي أخذ يناقشه في مسرحياته ،كما جاء في مسرحية ((دائرة الطباشير القوقازية)) التي كتبها (بريخت) بعد أن ترك ألمانيا ( 1933) مهاجراً لعدة سنوات لاجئ الي (سويسرا) و(فرنسا) و(الدانمرك) و (فنلندا) و(روسيا) قبل أن يستقر في (الولايات المتحدة الامريكية ) التي كتب فيها العديد من المسرحيات (الحياة الخاصة للعرق المتسيد)و( ألام كوراج وأطفالها) و(حياة غاليليو) و(المراءاة الطيبة من ستوزان )و (السيد بونتيلا وخادمة ماتي) و(الصعود المقاوم لارتو أوي) ، لكن من بين هذه النصوص ظهرت مسرحية ((دائرة الطباشير القوقازية)) وهي تطرح مضمون يحمل الجوانب الأيديولوجية لمسرح (بريخت) في أنضج مراحله الفنية من خلال مقدمة استهلالية كجزء لا يتجزءا من فصولها الخمس علي خلفية عنوان لكل فصل منها الأول الطفل النبيل والثاني الفرار الي الجبال الشمال والثالث في جبال الشمال ورابع حكاية القاضي والأخير دائرة الطباشير وهذه التقسيمات تخدم الهدف الأساسي الذي يسعي المغني أو الراوي لتوصيله في مسألة أساسية تتعلق بالأحقية في الملكية التي طرحها (بريخت) علي مستويين في مضمون النص الأول : في امتلاك الأرض علي وفق المبدأ القائل ( الأرض لمن يزرعها ) والثاني: الأمومة لمن يرعاها ويؤدي واجبها من غير رابطة الدم التي وظفها (بريخت) من خلال حكاية صينية قديمة تشبه أحد أحكام الإمام علي أبن أبي طالب في القضاء ، وسبب في ذلك أن العالم العربي الإسلامي عرف العدالة والمساواة قبل غيره من الأمم بقرون ، في وقت ولم يكن للماركسية أو غيرها من أثر في الفلسفة الإنسانية الي جوار التشابه مع حكاية عربية أخري (حكم سليمان ) التي تروي أن الملك (سليمان ) يقترح شطر طفل الي شطرين علي أثر أدعاء كل من امرأتين متنازعتين بأنه أبنها، فأبت ألام الحقيقية أن يشطر الطفل وآثرت التنازل عنه ، وتبين (لسيلمان) أنها ألام الحقيقية وحكم لها بحاضنته ،أما الحكاية الصينية فقد أقترح القاضي رسم دائرة طباشير يوضع الطفل فيها ، وطلب من السيدتين أن تسحب الطفل أليها ، فمن استطاعت أن تخرجه من دائرة الطباشير تكون ألام الحقيقية له ، لكن توظيف بريخت لهذه الحكاية الصينية جاء بشكل مغاير ، لأنه لم يحكم للام الحقيقية ، بل حكم القاضي ( أزداك ) للخادمة ( جروشا ) التي تبنت الطفل وعنيت بتربيته ، لأنها هي التي اهتمت به ورعته بينما هربت أمه وتركت طفلها حين اندلعت الثورة وقتل زوجها الحاكم في أحد مدن القوقاز. وهنا الحكم الذي أصدره (أزداك) ليس مجرد أثارة نقدية للمتلقي بقدر ما هي طرح سؤال علي الرأي العام لتحريك الجماعات الضاغطة في المجتمع لتغير القوانين والأعراف ، ونصرة المظلوم بأحقية الملكية بين المالك والمملوك ، وهي وهم بريخت الإيديولوجي في تحقيق العدالة وهو يعيش في مجتمع أمريكي (رأسمالي) ، أذ تبدأ المسرحية من قصة صراع بين جماعتين متنازعتين من الفلاحين حول وادً ، كانت قد رحلت عنه أحدي المجموعتين عندما زحف الجيش ألماني علي روسيا ، ثم عادت بعد هزيمة ألمانيا تطالب بواديها ، فنازعتها جماعة أخري تطالب بملكية هذا وادي خصب ، فأن للقسم التمهيدي قرار بإعطاء هذا الوادي لزارعي الفواكه لأنهم الأكفأ علي صعيد الإنتاج وسط احتفال يرقص فيه المزارعون بعد إرسال الحكومة مبعوثاً لحسم النزاع فينجح في حل ألازمة سلمياً، وهنا تظهر الايديولجية الماركسية من خلال الصراع الاجتماعي للعامل الاقتصادي ونظام الملكية التي يتبناها (بريخت) في طروحاته ، وما بين حاضنة الطفل و الصراع علي الوادي يعرض المغنون حكاية ( دائرة الطباشير) لكي يثبتوا الحكم القائل بأن من يرعي الشيء هو الأحق به ، ويأتي هذا الحكم علي خليفة ما يجري في الولايات المتحدة الاميركية التي كتب فيها نص مسرحية ((دائرة الطباشير القوقازية)) وهي أحد إسقاطات (بريخت) الي المجتمع الذي هاجر إليه ، أذ دخلت الولايات المتحدة الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية صراعاً مع البلدان الغربية علي صعيد (الإنتاج والعلم ) وهي أهم الفترات في بناءها الاقتصادي عن طريق استقطاب العقول من أوربا والبلدان الأخري أو ما يسمي (هجرة الأدمغة ) وهو نوع من الصراعات حول الاختصاصات في الغرب ، بأجتذاب الكوادر التخصصية عالية التأهيل باتجاه الولايات المتحدة الاميركية الذي ينعكس علي حقولها الاقتصادية المنتجة ، فقد تمكنت من الحصول علي أمتيازات متوفقة عن البلدان أوربا ، فيما تشير الإحصائيات الي (540 ) ألف اختصاصي هاجر من أوربا الي الولايات المتحدة الاميركية بينهم ( 92) ألف من رجال العلم والمهندسين خلال عقدي الأربعينات و الخمسينيات من القرن الماضي ، وتجتذب أمريكا 15- 20 ألف عالم ومهندس وطبيب ومدرس من بلدان العالم الرأسمالي سنوياً ويعتقد الباحث أن مثل هذه الظروف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية في أميركا ، ألهمت ( بريخت ) بفكرة ( دائرة الطباشير) بإطار الصراع الفكري (الماركسي)الذي أنعكس في نص مسرحية ((دائرة الطباشير القوقازية)) من خلال استهلال وخمسة فصول تبدأ بلسان مغن يروي أحداث المسرحية وهو يقرأ من كتاب حول حاكم يدعي جورجي أبشفيلي له زوج جميلة ( كان يستمتع بالدنيا وينعم .
في صباح الفصح ، مصحوباً بأهله
ذهب الحاكم جورجي للكنيسة ) 
ويبدأ مشهد نري فيه مجموعة من الشحاذين والفقراء وهم يلوحون بأطفال مرضي وعكازات وعرائض ومن خلفهم جنديان ثم أسرة الحاكم بملابس فاخرة ويعلق المغني علي أحداث فيها أو يروي بعضها ، فيما
تتضمن الفصول الخمسة قسمين الأول يتعلق بالمواجهات التي تعرضت لها الخادمة (جروشا) في هربها من أعين الجنود ، أما القسم الثاني يتحدث عن وصول ( أزداك) الي منصب القضاء وأحكامه التي لا تتطابق مع القانون لأنها تنصف عامة الشعب أما ( جروشا) تجد نفسها وحيدة مع طفل بعد أن كانت أمه مشغولة بما تحمله من ثياب فاخرة قبل أن تفر حين اشتعلت الثورة وقتل زوجها ، فتحمل (جروشا ) الطفل وتهرب به الي أخيها في أعألي الجبال وقبل الهرب من المدينة تعاهد احد الجنود (سيمون ) علي الزوج بعد أن يعود من الحرب ، أذ أراد (بريخت) في هذا المشهد أن يؤكد جانب العاطفة ودورها في السطوة علي الانسان ، أي أن صراع بين العقل والعاطفة ينتهي بأنتصار كتلة الانفعال الإنساني أمام المواقف التي لا يستطيع الفرد التخلص منها في أي زمان ومكان ، وهنا قصة (سيمون وجروشا) تضفي جوا شاعرياً من خلال عهد (جروشا لسيمون ) بالحفاظ علي حبيهما .
(( فإذا رجعت من القتال
فلن تري بالباب أحذية هناك
والي جوار وسادتي ، ستري الوسادة خالية 
وتري شفاهي لم يقبلها أحد ))
أن بريخت تهيمن عليه فكرة الحرب بسب دارسته الطب والخدمة في المستشفيات العسكرية خلال الحرب ، أو أنه ساهم في قطع وبتر الأرجل والأيدي من المصابين في المعارك ، ويمكن القول أن كل هذه الصور ظلت في ذاكرته مُشكلة ردود فعل معاكسه باتجاه (الحب) الخاص والعام التي تنعكس في أعماله المسرحية ، بعيدا عن مواقف اندماجية في شخصيات التي يصورها في مثل هذه المشاهد، بل أن بريخت وفق التزامه السياسي وجد ألحاضنه الماركسية تدعوه الي تحطيم وهم المحاكاة وحث الجمهور علي أعلي مستويات المشاركة الفاعلة حتي في عودة ( سيمون ) من الحرب ، بعد وصول (جروشا) الي 
بيت أخيها في الجبال وصدامها مع زوجته المتدينة التي يورادها الظن ،أن الطفل أبن (غير شرعي) ولم تستطيع (جروشا) أن تصفح عن نسبه لكي لا يتعقبها جنود الأمير ، أثرت علي نفسها المساس بالشرف من أجل الحفاظ علي حياة الطفل ، وتنازل لأخيها في زواج من فلاح يدعي المرض هروباً من خوض الحرب ، فتحمي بذلك سمعتها وحياة الطفل ، شخصية ( جروشا) عند بريخت هنا تتجلي في جملة من الصراعات بين الدين والتقاليد والسلطة لذلك هي أسيرة مجتمع قروي يحاول هدم شعور الأمومة عند (جروشا) بينما هي تكافح من أجل أبقاء هذا الشعور الطبيعي في الحياة و بناء إنسان جديد تمثل بالطفل ،أذ أن بريخت وظف الفكر الصراعي بين شخصية (جروشا) وطفلها بالتبني والمجتمع من خلال قوتان الأولي تحاول الهدم وأخري تدعو الي أعادة البناء، أي أن المجتمع يكون بين الاختلال والبحث عن توازن جديد الذي يبرهنوه وصول ( أزداك) الي منصب القضاء في القسم الثاني من المسرحية ، أذ المؤلف يروي كيف أخفي (أزداك) الدوق عندما كان كاتب عمومي في القرية حتي تسني له الهرب ، ثم يصوره للقارئ أنه قاضيا يستغل نفوذه الوظيفي من أجل الفساد والرشوة الي جوار ميله العفوي الي أنصاف المظلوم والحكم بالعدل ،بطريقة طريفة وصفات المتناقضة 
(( أزداك : ياوكيل النيابة ! سطل نبيذ للزائر ! من أنت ؟
قاطع الطريق : راهب سائح يا صاحب السعادة ،
وأشكرك علي هذه الهدية اللطيفة .سطلاً آخر !)
أذ بمكن القول بأن تخريجات (بريخت) لشخصية (أزداك) توضح علاقاته بالمجتمع الأول ويبرر الحكم الذي أصدره للخادمة ( جروشا ) ثانياً التي تبنت الطفل وعنيت بتربيته ، لأنها هي التي اهتمت به ورعته بدائرة الطباشير التي رسمها في قاعة المحكمة ، وهنا يبغي المؤلف استثارة عقل المشاهد في طرح 
العديد من التساؤلات ، بعد أن يكشف فحوي المسرحية علي لسان المغني فيقول :
(( أنتم يا من سمعتم قصة دائرة الطباشير ،
أحفظو حكمة الاقدمين:
أن الأشياء ينبغي أن تعطي للذين يقومون عليها خير قيام :
فأولاد للأمهات اللواتي يرعينهم خير رعاية حتي يشبوا ويترعرعوا، … 
والوادي للذين يحسنون سيقه حتي ينتج خير الثمار )).

الاحالات
*بريخت ( برتولت ) . دائرة الطباشير القوقازية . ترجمة : عبد الرحمن بدوي . القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر .سلسلة روائع المسرح العالمي ،1965 .
*صليحة ( د.نهاد ). المسرح بين الفن والفكر . بغداد : دار الشؤون الثقافية ،1985 .
*عمر ( د.معن خليل ) . نقد الفكر الاجتماعي المعاصر . ط1. الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجيدة ، 1978 .
*نعمان ( د. أسامة ) . (( الصراع حول الكوادر التخصصية في الغرب )). بغداد . مجلة الفكر العلمي التقدمي . العدد 4 ، 1971 .
*ميشيل ( دينكن ) . معجم علم الاجتماع . ط1 . ترجمة : أحسان محمد الحسن . بغداد : دار الحرية للطباعة وانشر ،1980 .

———————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *