ثورة دون كيشوت المسرح السياسى يطل برأسه على المسرح التونسى بعد الثورة /أحمد خميس

حركة المسرح التونسى بعد الثورة تموج بتيارات المسرح السياسى الذى يتعامل بجدية مع الواقع ويعيد فهمه والتعبير عنه من خلال مجموعة كبيرة من العروض التى تعتمد نظام المسرح المستقل أو الخاص وحتى المخرجين الكبار يلعبون على نفس المنوال لكن على طريقتهم المعتادة التى تشتبك وفق مناهج الفرق وطرق تدويرها للخرافة والتقنية وهناك أنواع من الاشتباك مع الحاضر الاجتماعى والسياسى كالنموذج الذى يقدمه فاضل الجعايبى وجليلة بكار والذى تمثل فى عرض صعب قدم فى قرطاج هذا العام باسم «عنف» وعلى جانب آخر هناك تجربة توفيق الجبالى التى لا تتعامل مباشرة مع الواقع ابن اللحظة الراهنة الا من خلال محاسبة النفس البشرية ودخولها فى معركة ذاتية فارقة مثل عرض «المجنون» المأخوذ عن أعمال جبران خليل جبران.

لكن إن كان الكبار كفاضل الجعايبى وتوفيق الجبالى يمتلكون مشاريع لها وجاهتها والقها الجمالى والتقنى فان الشباب كسرين جنون ابنة المسرحى الراحل عز الدين جنون التى قدمت هذا العام فى قرطاج مسرحية «شقف» والتى ناقشت من خلالها فكرة الهجرة غير الشرعية عبر مراكب الموت ووليد دغسنى مخرج عرض «ثورة دون كيشوت» الذى قدم فضحا لبعض التراكيب الاجتماعية والسياسية الفاقعة يقدمون عروضا حية تلتفت للمواطن ومعاناته بوعى فارق وقدرة حقيقية على الاشتباك مع المستجدات السياسية والاجتماعية فى تونس بعد الثورة لكن على طريقتهم الخاصة والتى يحكمها إطار مادى بسيط لانتاج العرض المسرحى، فى هذه العروض تبرز أهمية فنون الاداء التى قد تكون عوضا عن الانتاج البسيط للعرض المسرحى، وفروق الانتاج هى التى جعلت الشباب يلجئون للحيل الجمالية المبتكرة التى تعتمد الممثل والتقنية البسيطة وبعض الاكسسوارات الفعالة فى العرض المسرحى، وكنت قد لاحظت منذ فترة أن فارق الانتاج بالنسبة لمشاريع الشباب يتحول عادة لاختيار موضوعات بعينها وهو الامر ذاته الذى ينسحب على تطوير التيمات والمواقف فى العرض المسرحى، ففى عرض «ثورة دون كيشوت» كان المسرح خاليا معظم الوقت ولكنه مشغول بالاضاءة التى تلعب دورا مهما فى نقل الحدث أو تتخذ كنموذج لبيان الطرق والممرات كى تعطى ثراء ما فى الشكل، فقد استغلها المخرج على أكثر من نحو كى يعكس من خلالها الكثير من المواقف والاحداث التى يعج بها الحدث الدرامى.

اللعبة الجمالية عند وليد دغسنى معد ومخرج عرض «ثورة دون كيشوت» تنطلق من نفس المنهج الذى سبق وقدمناه هنا حينما كتبنا عن عرض «الماكينة» لنفس الفرقة حيث الاعتماد على أهمية دور الممثل المسرحى فى شغل الفراغ الفارغ تقريبا الا من الحركات والافعال التى تؤديها مجموعة مدربة تماما على كيفيات تطوير الحدث «الاطار» وكأنهم مجموعة محبظاتية يتفقون قبل اللعب المسرحى على موضوع بعينه ويدركون أهمية ذلك الموضوع بالنسبة للمتلقى، ومن ثم يظهر الطرح والاسئلة إذ كيف نلعب وبأى الاطر الجمالية يمكن المرور لقلب الموضوع والامساك بتلابيبه كى يبدو فى صور تليق به وبأهميته الاجتماعية.

ورغم أن فريق العمل قد اعلن منذ البداية والعنوان اعتماده على رواية الكاتب الاسبانى الشهير دى سرفانتس «دون كيشوت» إلا أن العرض لم يتعامل مع الرواية إلا كاطار مرجعى يمكن الاتكاء على فلسفته ومقولته الجمالية، فلن تجد فى العرض تتبعا لذلك البطل الاسطورى ولا تابعه ولن تجد بالتبعية الاحداث والمواقف الكوميدية التى مرا بها، كما انك لن تقابل حكاية أو تيمة واحدة يتبعها فريق العمل وإنما مجموعة كبيرة من التيمات والمواقف المتشابكة التى تدور فى فلك واحد وتحت مسمى أو مكون واحد فالفضح قد يشمل شرائح اجتماعية وسياسية ووسائل إعلام، فقط وفى هذا التكوين ستقابل ذلك الحس الكوميدى المتهكم الذى يتخذ من فضح الاحداث والشخصيات سبيلا له، فان كان المؤلفون قديما فى مسرح الستينات العربى يلجئون للحيل الكتابية المعتادة كى يهربون من شبهة تقديم الواقع عن طريق اللجوء للتراث واستلهام أحداثه سواء كان تراثا تاريخيا أو فنيا فإن فريق العمل فى هذا العرض يلجأ للحيلة الجمالية كى يستلهم فلسفتها ومقولتها الجمالية دون قلق من رقيب أو خوف من مشابهة الواقع كما اعتدنا فى المعالجات القديمة، فاللعب الدرامى ينحت لنفسه طريق يسأل فيه الواقع بكل شراسة وفضح، والمجتمع الذى يعج بالفساد والكذب والتضليل موضوع هنا على طاولة التناول بكل خشونة ومن منهج درامى يتخذ من المحاكاة التهكمية طريقا له، ففى أحد المواقف المصنوعة بوعى كبير وقف أحد المحامين وهو رجل جاهل اتخذوه زعيما لهم رغم جهله وتلعثمه الشديدين وفساد هيئته، وقف ليخطب على أحد المنابر أو من خلال احدى الفضائيات عن موضوعات لا يعلم عنها شيئا بالمرة وكان عادة ما يهرب بكلمات غير مكتملة التكوين أو تشويه لمعنى متعارف عليه على اعتبار انه شخص مصدق وعنده جمهوره الذى ينتظره بفارغ الصبر كى يحلل لهم وجهة نظره فى القضايا او المستجدات السياسية والاجتماعية الفارقة، ولوعى فريق العمل قدموا جزءا من الفقرة وكأننا فى لقاء تليفزيونى معتاد ثم هربت المذيعة وتركته مع أوهامه واكاذيبه وادعاءاته وكأن هناك اتفاق على فضح النموذج بطرق غير معتادة تتكئ على الاداء السريع والضوء اللامع الذى يظهر بسرعة ويختفى بسرعة.

يبدأ العرض وكأن كائنات أسطورية تستيقظ بعد سبات عظيم وتقوم بحركات وأفعال غريبة لتبئ عن ولادة مبتكرة وسط النفايات ولادة لكائن مختلف جاء ليفضح التركيبة الاجتماعية التى اتفقت على الفساد وروجت له، ورغم الاتفاق العام على تسيير الموضوعات والمشاكل وفق معادلات التسكين والتسويف واللا مبالاة جاء ذلك الجديد ليقلب المعادلة رأسا على عقب ويعيد ترتيب المفاهيم وفق منطق الفضح والكشف المباشر الخشن، لتظهر على السطح تلك المخبوءات وكأنها ملفات فساد أريد لها أن تكشف المستور بطرق لم تكن فى الحسبان.

اللعبة هنا مبنية بطرق جمالية تستغل خشبة المسرح كمكان يمكن الاستفادة من معطياته الاولية دون جهد كبير، فالاتفاق الاولى والعام بين مجموعة العرض والمتلقى المتابع هو سيادة منطق اللعب التهكمى الذى يكشف ويفضح كثيرا من الموضوعات ويضعها فى إطار عام لا يسير مبدأ الواقعية أو يراهن عليه فالفانتازيا والمحاكاة التهكمية تتيح لعبا وتخييلا على أرض فارغة أو كما نقول على خشبة عارية.

ولا أملك فى النهاية الا تحية فريق التمثيل الذى قدم نموذجا فارقا فى كيفيات تقديم عرض مسرحى يعتمد كلية على ممثل يعى تماما المسئولية الملقاة على عاتقه: أمانى يلمح ومنى التلمودى ويحيى الفايدى ومنير العمارى، وإن لعبت الاكسسوارات رغم قلتها دورا مهما فى اللعبة المسرحية فإن الملابس التى صممها عبد السلام الجمل كان لها فعل السحر فى تهيئة المتلقى إلى الولوج للعالم الفانتازى الرحب.

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *