تفكيك المفكّك في أزمنة البؤس المسرحي: الجبالي وافتتاح مهرجان الحمامات حاتم التليلي/ تونس

 

تفكيك المفكّك في أزمنة البؤس المسرحي: الجبالي وافتتاح مهرجان الحمامات

حاتم التليلي/ تونس

يعتقد بعض الاعلاميين أنّ عرض افتتاح مهرجان الحمامات الدولي عرض مسرحيّ صرف، وهو اعتقاد ينمّ عن جهل بخصوصيّة الفعل المسرحيّ ذاته، كان للمخرج دوره الفعّال في تشغيله أثناء النقاش بعد أن تمّت مواجهته بجملة من الأسئلة الساذجة فما راعه إلا أن أطلق اجابته حولها بسخرية مبطّنة، ولكنّها في المقابل سخرية تجد مشروعيتها نتيجة انعدام الحسّ الحواريّ الذي مفترضا أن يضع العرض على مشرحة نقاش لا يخلو من رؤية نقديّة فعليّة.

في المقابل يعتقد بعض المسرحيين أنّ هذا العرض أقرب إلى النشاط المسرحيّ منه إلى المسرح ذاته، مستندين في ذلك لا إلى خلفيّة نقديّة بل إلى ما صرّح به الأستاذ “نوفل عزارة” بالقول إنّه فعل مسرحيّ يولي اهتماماته بزراعة الحياة في قلوب ممارسيه من ممثلين ومؤدين أكثر من كونه عمل ابداعيّ متكامل، مستأصلين في ذلك سياق حديثه عن سيرة تجربة التياترو برمّتها.

إنّ كلّ من الرؤيتين لا يمكنهما الادلاء بغير بقصور معرفيّ إزاء امكانيّة تشريح عرض الافتتاح، فإذا بالنتيجة في نهاية المطاف لا تنمّ بدورها إلا عن تأبين جنائزيّ يعصف بما هو فنّي ومسرحيّ في ذات اللحظة.

ما الذي نقصده إذن ببؤس المسرح؟

سيذهب في ظنّ البعض من هؤلاء أنّنا نشغّل نوائر حرب ضدّ هذا العمل، وندفع معهم إلى السقوط في حضيض مستنقع معرفيّ يجرّد محاولة الكشف عن اضاءة تخترق هذا العمل الفنّي من كلّ نجاعة. ولكنّنا لن نتبع هذه القراءة مثلما لن نسلّم بكتابة قائمة على المديح والشكر والاعجاب: إنّ هؤلاء جميعا يمثّلون نوعا من القتلة، سواء كانوا من سلالة الهجاء أو المدح، إذ لا مناخ لهم غير الاقامة في مسلك الصراع أو الولاء الفنّي والمعرفيّ، وهي إقامة ذاتية تفتقر الى الحدّ الأدنى دائما من الموضوعية. وهذا هو ما نقصده ببؤس المسرح الخاضع لنموذج من القراءات العاطفيّة.

ما يجهله دعاة المسرح أو غيرهم من الاعلاميين المرتبطين بالمجال الثقافي، أنّ هذا العرض- إذا ما نحن وضعنا في اعتبارنا جلّ الأجهزة المفهومية السائدة عن الفنّ المسرحي-  لا يمثّل عملا مسرحيّا باطلاق، كما إنّه أبعد من كونه يمثّل نشاطا مسرحيا، وحتى أنّه يخضع في كثير منه إلى تشغيل الآليات المسرحيّة بتعدّدها وإلى حضور مقوّمات صناعة الفرجة فإنّه ظلّ أبعد من أن يترجم نقديّا كذلك. ولكن الارتباط بما ذهب إليه أولئك لهو أمر يفصح عن قيمة معرفيّة لا يمكنها غير دفع  الفنّ المسرحيّ كي يظلّ غريبا، قربانا منبوذا عن ملّته المسرحيّة، فإذا به يُزجُّ غصبا في حلبة أشكال تعبيريّة – وإن كانت قرينته على مدى كبير- تتناقض وخصوصيته المفهوميّة السائدة سَلفًا.

فهل ثمّة بؤس مسرحيّ آخر في هذا العرض بما هو كذلك؟

نعم، ثمّة هذا البؤس، ولكنّه بؤس تحرّكه نزعة جمالية قائمة على تفكيك المفكّك وتفتيت المفتّت، بقدر ما هي توحي بالتركيب والنسج، إذ ينبني العرض على نوع من الكولاج المشهدي، وبقدر ما ينتظر المشاهد نوعا من اللحمة بين لوحاته حتى يتسنى له فيما بعد محاكمتها دراماتورجيا، تتشظى بشكل لا جامع يجمعها ولا رابط يربطها، ولكن هذا المشاهد نفسه لم يتجرأ عن طرح السؤال المتمثل في ما إذا كان ثمّة مشترك يوحّدها أو هو يفصلها عن كلّ فاصلة تفصلها عن ذلك التشظي بصفتها تمثل جسد العرض فإذا به ممزّق الأوصال، قائم على التفكيك، وينحو إلى مشهدية لا متناغمة. وعلى الأغلب، إنّ عدم التناغم هذا لهو ضرب من الوهم، لأننا لم نضع في اعتبارنا ذلك السؤال عن المشترك نتيجة هشاشة منظورنا النقدي.

سيكون من الأجدر بنا الآن، أن نضع في اعتبارنا عتبة هذا العرض بما هي مسلك إلى متنه الخاصّ (ثلاثين سنة وأنا حاير فيك)، وبمجرّد قراءة آنيّة لها نكتشف أنّه ثمّة بعدين: بعد زمنيّ يوحي إلى عمر التجربة المسرحيّة في فضاء التياترو، وبعد نفسيّ لا يخلو من زوايا فكرية وفنّية قائم على تشغيل الحيرة، ما يوحي ضرورة إلى أنّه ثمّة خطاب مباشر بين مخرج العمل وسيرته الذاتية والمسرحيّة داخل ذلك الفضاء وفي تخومه بما تتضمّنه من تجارب مختلفة ومتعددة. علينا أن ننتبه إلى أنّ الحيرة هنا لا تكشف عن عجز أو انسداد الأفق المسرحيّ أمام “توفيق الجبالي” بقدر ما هي تمثّل نوعا من تشغيل مساءلة نقديّة يطرحها المبدع على نفسه، ومن ثمّة هو الآن يلقي في وجوهنا جملة هذه الاشكاليات التي تبطّنها العرض وتجوّفها فيجعل منّا نكتشف أنّه ثمّة ضرب من السلوك “المرآوي” أو انعكاس ذاتيّ لمنظوره الخاص من داخل العمل الابداعيّ نفسه: وهذا منحى لا مسرحيّ بقدر ما هو يجد اشتغاله ضمن المنظورات “الميتامسرحيّة” كما سبق وذهب إلى ذلك الناقد الفرنسيّ “باتريس بافيس” في معرض تعريفه للميتامسرح كنوع مسرحيّ يكشف عن بؤس المسرح ذاته، كما يكشف عن عقد طلاق نهائيّ بين المسرح والتراجيديا التي آن أوان أفولها، فإذا بهذا الفنّ الأصيل لم يعد أصيلا كما تحرّر من مقولة النقاء والصفاء التي غذّتها المقولات الكلاسيكية ومن ثمّة سيكون “بائسا” إذا ما ظلّ مراهنا على صفاءه الخالص، وهنا سيمكننا – بشيء من الحذر- تصنيف العرض الذي قدّمه “توفيق الجبالي” على أنّه عرض “ما بعد مسرحيّ” أو هو عرض يتنزّل ضمن ما هو “ميتامسرحيّ”.

ينبني الانعكاس الذاتيّ في فرجة العرض على مستويين، الأوّل من خلال جمع العديد من التجارب المسرحيّة لفضاء التياترو وتقديمها من قبل أبناء هذا الفضاء ومريديه بضرب من “المشهدية الكولاجيّة”، وهنا فقط يستطيع مخرج العمل أن يضع ذاته على محكّ المحاكمة النقدية كي يشغّل الأسئلة الحارقة عن سيرته وسيرة تجربته، وبهكذا شكل: يتسنى له قراءة المراكمة المسرحيّة التي أنجزها وما إذا كانت ناجعة أم هي تجعله يتفطّن إلى كمّ ما من الأخطاء في تجربته. أمّا المستوى الثاني فنستطيع القبض على متونه من خلال تلك الشذرات النصيّة المصاحبة للعرض كونها تعكس مواقف المخرج ومنظوراته إزاء الفعل المسرحيّ كما العالم نفسه. ولنا أن نوضّح ذلك، فالمنظور المسرحيّ نكتشفه من خلال تلك السخريّة اللاذعة التي وجّهها المخرج في عرضه من الرّاهن المسرحيّ في تونس، حيث لم ينفكّ عن مهاجمة سياسات الدعم المسرحيّ ومسألة الاحتراف من عدمها وراهن الأطر المسرحيّة، ثمّة إذن نوع من مَسْرَحة المسرح ذاته، وهذا يتنزّل أيضا ضمن آليات اشتغال الميتامسرح. أمّا المنظور الفكري الذي يعكس موقف المخرج من العالم أو الراهن السياسيّ والثقافيّ، فنكتشفه من خلال ضرب من التهكّم الأسود وجّهه الجبالي إلى بيارق الله من الأصوليين والحداثيين حدّ السواء وكيف جعلوا من البلاد راية بغاء محض، وهذا أيضا يتنزّل ضمن الحدود “الميتامسرحيّة”.

إذا شطبنا من اعتبارنا أن هذا العرض صاحبته هنّات عديدة عبّر عنها الجبالي أثناء حلقة النقاش التي دارت معه بالقول أنّه مثلما ثمّة تشغيل جماليّ ثمّة أيضا بعض النقائص، يمكننا القول بأنّه عرض تفكيكيّ بامتياز، مثلما ذهب إلى خلخلة السّائد المسرحيّ من حيث دفعنا إلى عقد مراجعة مفهوميّة لهذا الفنّ ذهب أيضا إلى تفكيك وزلزلة السائد الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ إلى مدى بعيد، وعلى قدر “مهزلة السائد” بحكم أنّه قائم على التفكيك، كان العرض قائما على تفكيك هذا المفكّك وتفتيته. لهذا علينا أن ننتبه جيّدا ونحن نشغّل نقديّا “مشهديّة الكولاج” لأنّها قد تفضي بنا إلى القول بأنّ العرض ذهب إلى إدانة هذا المفكّك فإذا به كان مُفكَّكًا  بدوره، وبالتالي سيجد البعض منّا مشروعيّة السؤال عن سيرة الجبالي المسرحيّة في فضاء التياترو من حيث “محاكمتها” بدورها مثلما تمّت “محاكمة” الراهن المسرحيّ والسياسي والاجتماعي في هذا العرض !

ثمّة يقول دائما وهو يدلي برأيه عن العروض الفنّية والمسرحيّة: “نعم هذا جميل، ولكن…!”. إنّ هذه اللفظة اللغوية (لكن) هي سرّ البلاء النقديّ لدينا نحن المسرحيون، إذ هي تقوم على الاستدراك فتشطب ما قبلها، أي أنّها تكشف عن ذلك الجميل بكونه لم يعد جميلا، وهنا فقط تنشأ في ثقافتنا عقليّة “المحاكمة” مثلما شغّلنا حضورها منذ قليل.

لكن ثمّة أيضا من يقول: “نعم هذا جميل، لندفع به كي يكون أجمل.. !”. إن رأيا بمثل هذه البراءة اللغوية لهو يكشف عن ثقافة نقديّة تجاوزيّة بقدر ما لا تؤسّس للخراب هي تدفعنا إلى النقد ثمّ التخطّي والتجاوز، وهنا فقط نخرج من شراك المحاكمات ورفض الآخر لنؤسّس ثقافة حواريّة ورؤيوية. وعليه نحن هنا نجد المشروعيّة في تقييم تجربة التياترو برمّتها كما تقييم العرض الذي تحدّث باسمها وعن محنتها ومصاعبها وهنّاتها ونجاحها، وهو تقييم لا يقوم على اعتبارات ذاتيّة بقدر ما هو يحاول أن يخلّصنا من ثقافة كرّست بؤس المسرح بصفته محنة انتاجية وتجارية أو هي مدية مثلما تمجّد تجد اطارها في خندق المديح، وبصفته وقّع عقد طلاق مع ما هو تراجيديّ فذهب خطوة إلى مراجعة نفسه من خلال مسرحة المسرح ذاته.

أن تكون ثمّة ثقافة جمعيّة، فذلك يعني أنّا ثقافة تفاعلية/ تشاركيّة تؤسس للسلوك المواطنيّ الحقّ، تخرجه من ردم الخرافة والأصولية والنفي والرفض.

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *