«تخليص السيّد موكنبوت…» لبيتر فايس: الثقة بالنفس أخيراً

8c0841fcb66d49878ccc0f1562397a13

 

لا شك في أن كثراً من الذين قُيّض لهم أن يشاهدوا أو يقرأوا مسرحية «تخليص السيّد موكنبوت من آلامه» يحتفظون في ذاكرتهم بصورة من المشهد الأخير تمثل موكنبوت وقد بات قادراً في نهاية الأمر على أن ينتعل حذاءه بنفسه بعدما كان عاجزاً عن ذلك، ضمن إطار عجزه عن فعل أيّ شيء على الإطلاق. فالسيد موكنبوت الذي ابتكر بيتر فايس شخصيته، كان إنساناً بسيطاً جاهلاً بحقيقة ما يدور من حوله نتيجة معتقداته المثالية المحملة بالخير والأخلاق وحب العدالة، حتى يكتشف أن هذا كله لا يتلاءم مع لؤم المجتمعات التي نعيش فيها. وهو يكتشف هذا بالتواكب مع الصدمات المتتالية التي تطاوله حتى يحدث تراكمها لديه ذلك الوعي الذي «يخلّصه من آلامه ويمكنه أخيراً من انتعال حذائه بنفسه».

> تبدأ حكاية موكنبوت حين يُسجن بلا سبب فيتخلى عنه الجميع بما في ذلك زوجته وطبيبه ورب عمله وسيد الكنيسة الحارس الكبير. كان موكنبوت يؤمن بكل تلك القيم التي يؤمن بها أي بورجوازي صغير في أي مكان من العالم ناله قسط من الحضارة. كان يؤمن بالطب والعدالة والديموقراطية والكنيسة. وبعد دخوله السجن دون أن يعرف أبداً لماذا، يبقى صاحبنا متمسكاً بإيمانه، لكنه بالتدريج يكتشف حتى بعد خروجه، أن لا أحد يريده الآن. بالتدريج يتواجه، في شكل رمزي أو واقعي، مع كل من كان يمثل عناصر إيمانه القديمة، وقد قرر في بداية الأمر أن يبقى متمسكاً بالقيم التي نشأ عليها في شكل تلقائي غير قادر على أن يعثر على بديل عنها. ولسوف يكون أول لقاء له مع المدعوّ السيد فورست الذي يؤكد له، بما لا يدع مجالاً لأي شك أنه هو – أي موكنبوت – المسؤول عن كل ما لحق به من بؤس. «كيف هذا؟ مستحيل! يقول موكنبوت لنفسه غير مصدّق. ويتجه باحثاً عن عزاء لدى زوجته، لكن هذه تبدي تجاهه كل آيات الاشمئزاز وتلفظه دون أن يفهم هو السبب الذي يكمن وراء تصرفاتها. مرة أخرى لا يصدّق موكنبوت أن الخطأ خطأه ويقرر السعي لاكتشاف الحقيقة على لسان الطبيب الذي اعتاد أن يؤمن به إيماناً أعمى. لكن حاله مع الطبيب لن تكون أفضل، وكذلك الأمر في مكان عمله حيث ما إن يصل الى هناك طارحاً أسئلته الشائكة حتى يُحمّل من جديد مسؤولية ما حدث له، ويفهم أنه لم يعد له مكان هنا. فلا يجد أمامه هذه المرة إلا أن يلجأ الى الملاذ الأخير المعتاد، الى الكنيسة، فإذا بهذه تخذله بدورها، متخذة أمام ناظريه المذهولين صورة رجل رأسمالي لا يهتم إلا بخوض الصراع في سبيل إبقاء هيمنته على مؤسساته. وإزاء خيبة أمل السيد موكنبوت من كل تلك الملاذات التي خذلته، يفهم أخيراً أن عليه أن يتكل من الآن وصاعداً، على نفسه… فيبدأ رقصة انتصار تفرحه للمرة الأولى في حياته.

> لا شك في أن مسرحية فايس هذه تعتبر من أعماله الجيدة لكنها لا تتمتع، مثلاً، بشهرة عمل آخر له هو مسرحية «اضطهاد واغتيال مارا كما يمثله نزلاء مصح شارنتون تحت إدارة المركيز دوساد». صحيح أننا هنا أمام عنوان بالغ الغرابة لمسرحية، ومع هذا من الواضح أن شعبية هذه المسرحية والشهرة الكبيرة التي أضفتها على كاتبها لا تعودان الى غرابة العنوان وطوله، بل الى مضمون المسرحية نَفْسها وإلى نَفَسها الثوري وانتماء بيتر فايس الى المدرسة البريختية، وهو أمر كان مستحبّاً في تلك السنوات الثورية الزاهية، سنوات الفن الثوري والرغبات الحاسمة في تغيير العالم، وانتفاضة الشبيبة على فنون الآباء وجموديتهم.

> كتب بيتر فايس مسرحية «مارا – ساد»، في 1964، في وقت كان فيه نقاد المسرح يبحثون عن كاتب ينطلق من بريخت ليؤسس لتيار ما – بعد – البريختية. ولقد استجابت المسرحية لذلك البحث حيث إن فايس تمكّن فيها من أن يرسم المجابهة بين جان – بول مارا، أحد أقطاب الثورة الفرنسية، وبين المركيز دو ساد، كاتب العنف والجنس. أي بين المفكر والعامل الثوري الذي ينظر اليه التاريخ الفكري الماركسي على انه كان ماركسياً قبل الأوان (مارا) وبين الكاتب الفرداني المتطرف في انطواء فكره على دواخل ذاتية. صحيح أن فايس لم يوجد حلاً للمجابهة بين هذين النمطين، غير أنه عرف كيف يطرح المسألة في شكل صحيح، وكيف يوجد للمسرح أفقه الجديد. وعلى الرغم من أن فايس عاش 18 عاماً بعد ذلك إذ إنه رحل عن عالمنا في العام 1982، وعلى الرغم من انه كتب عدداً من المسرحيات بعد ذلك، لكنه ظل يرتبط في أذهان متفرجي المسرح وقرائه بمسرحية «مارا – ساد» التي ترجمت الى العديد من اللغات وقدمت على خشبات العالم كله، بما فيها الخشبات العربية، وقُلدت وأسست لتقاليد مسرحية جديدة.

> ولد بيتر فايس العام 1916، وبدأ حياته كرسام وكاتب قصص ومخرج سينمائي في بلده ألمانيا، قبل أن ينتقل الى السويد ويحصل على الجنسية السويدية التي لم تغير شيئاً لا في اتجاهاته ولا في لغة كتاباته. وهو نفسه كان لا يفتأ يردد أن مسألة الجنسية لا تهمه لأنها ليست أكثر من وسيلة تقنية تسهّل التنقل والإقامة وعبور الحدود.

> أطلّ فايس على حلقات الأدب الضيقة، في البداية، من خلال كتابه النثري التجريبي «ظل جسد الحوذي» (1960) ثم من خلال كتابه الثاني «محادثة بين المتنزهين الثلاثة» (1963)، وبعد ذلك جاء كتابان باكران له في السيرة الذاتية كان من الغريب أنهما لقيا نجاحاً كبيراً، على عكس ما كان قد حدث لمسرحياته التي بدأ يكتبها منذ أواخر سنوات الأربعين، حين كان لا يزال واقعاً تحت تأثير كافكا (كما في مسرحية «البرج» وهي مسرحية إذاعية كتبها في 1948)، ثم تحت تأثير السورياليين (كما في «تأمين» التي كتبها في 1952)، وفي بعض الأحيان تحت تأثير مسرح الدمى (كما في «ليلة مع الضيوف»). غير أن كل تلك الأعمال لم تخرج عن كونها إرهاصاً بولادة الكاتب المسرحي الحقيقي الذي لن يصل الى خط سيره الحقيقي إلا من خلال اكتشافه مسرح برتولد بريخت الذي راح يمارس تأثيراً كبيراً عليه، ودفعه الى مجابهته فكرية حادة مع الماركسية التي بدأ يرى فيها ما كان يبحث عنه على الدوام. وتحت تأثير هذه الماركسية (البريختية المنفتحة والنقدية) كتب فايس مسرحية «مارا – ساد» في 1964، وأتبعها في العام التالي بمسرحية «التحقيق» التي انطلق فيها – عبر لغة شعرية مبتكرة – من الحديث عن معسكرات الاعتقال في اوشفيتز لتوجيه أصابع الاتهام الى النظام الرأسمالي ككل، مقيماً التوازن والتوازي بين اوشفيتز والرأسمالية. مسرحية «التحقيق» هذه افتُتحت، وكان ذلك أمراً استثنائياً، في سبعة مسارح في ألمانيا الشرقية والغربية في الوقت نفسه قبل أن تعرض في الولايات المتحدة وتنال جائزة «انطوانيت بيري». وكان ذلك حافزاً دفع فايس لمتابعة مسيرته الاحتجاجية فكتب «أغنية غول لوزيتانيا» ضد استغلال البرتغاليين الرأسمالي لأنغولا. وبعد ذلك كتب مسرحيته الشهيرة «خطاب فيتنام» (التي يتألف عنوانها الألماني من 48 كلمة) وهي مسرحية تندد، ومن وجهة نظر ماركسية شديدة الصراحة هذه المرة، بالتورط الأميركي في فيتنام، وكانت كتابته هذه المسرحية السبب في تأجيله إنجاز «تخليص السيد موكنبوت من آلامه» بعدما كان بدأها عام 1963، فلم ينجزها إلا عام 1968 بعدما كان أنجز مسرحية فييتنام وعرضها… وتلت ذلك مسرحية «تروتسكي في المنفى» التي أثارت، هذه المرة، استياء الستالينيين الذين كانوا يعتقدون قبل ذلك أن فايس يمكنه أن يكون واحداً منهم، فإذا به يكتب مسرحية متميزة تسعى لرد الاعتبار الى عدو ستالين على الساحة العالمية.

بعد «تروتسكي في المنفى» (1969) وكانت سنوات «الماركسية» قد بدأت تذوي، راحت أهمية فايس تتضاءل بالتدريج، على الرغم من ازدياد تكريسه العالمي ومن الجوائز العديدة التي راحت تنهال عليه، اذ كان من الواضح أنه أضحى جزءاً من الماضي أي من مرحلة الستينات الزاهية. وهو حين رحل عن عالمنا العام 1982 كان قد أضحى شبه منسي على أي حال.

 

إبراهيم العريس

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *