بيت المدى يُؤبِّن عميد “المسرح الأكاديمي” فاضل خليل

 

 

زينب المشّاط – المدى  

 

البعض يُعطي الكثير  من دون انتظار مقابل، هؤلاء غالباً ما يرتبط إبداعهم الكبير بتواضعهم الجمّ، وكثيراً ما يمتزج ألق منجزهم باعترافهم وعرفانهم لمنجزات أخرى يقدمها من  يتأخر عنهم بسلالم المجد، وسنيّ المعرفة، تحدثت عنه كثيراً، من خلال العديد من التقارير الصحفية التي قدمتها، وأجد اليوم أنّ حروفي تُعلن عجزها في حضرته، فبعض البهاء، والمجد، لم يخلق الكلمات لوصفه، نحن نستشعره فحسب من خلال أرواحنا، نُلامسه كضياء، كطيف يتخلل يقظتنا، كذلك هو…

لو كان اليوم حاضراً في هذه الجلسة، لأمسكت بكف يده طويلا، ونظرت إليه وهو ينسج أحاديثه الهادئة الأبويّة، إلّا أنه رغب بتأجيل هذه الجلسة الخاصة للاحتفاء به، فسبقنا الموت إليه، وخطفه منا، وبدل الاحتفاء به، هكذا وعدنا الفنان والمخرج المسرحي والاكاديمي فاضل خليل، إلا أنّ للموت مواعيدَ أخرى تُباغتنا، ليُقيم  بيت المدى في شارع المتنبي جلسة تأبينية للراحل صباح يوم أمس الجمعة… 

أخلصَ لإنسانيّته

جاءت الجلسة تتحدث عنه، ولكن ماذا سيقول الحاضرون، عن رجلٍ عُرفت سيرته الفنية محلياً وعربياً، وماذا قد يقوله البعض عن سيرته الاجتماعية والإنسانية، وقد امتزج بروح المدينة والبسطاء من أبنائها؟ مقدم الجلسة الإعلامي طه رشيد  قال وهو يحدد مسارات الجلسة  متسائلا :”   ماذا نتناول من سيرته ؟هل هي سيرة سياسية، أم فنية أم اجتماعية، فالجميع يعرف أنه استطاع الإمساك بالمناصب الإدارية بقدرة فنية وأكاديمية ” 

 المرتكزات الأربعة

، المخرج والأكاديمي المسرحي  عقيل مهدي يوسف يتحدث عن  علاقته الطويلة مع فاضل خليل التي ابتدأت عام 1968 في كلية الفنون الجميلة واستمرت حتى اليوم الاخير من حياة الراحل . يقول عن هذه العلاقة  : ” دخلنا الأكاديمية  في دورة 1968 – 1969، وقد كانت مسرحية فاضل خليل لمشروع تخرجه في المرحلة الرابعة تضم عدداً منا نحن طلاب المرحلة الاولى، وقد أصبح بعدها معيداً في الاكاديمية وقد يكون هذا ما دفعنا لنكون نحن كذلك معيدين بعد تخرجنا لنحذو حذوه.”

 أهم المرتكزات التي جعلت خليل يؤثر في المسرح العراقي يتحدث عنها مهدي ويشير إلى أنها عززت تأثير الراحل بالمسرح العراقي وهي”  انخراطة في فرقة الفن الحديث،  واقتحامة لمؤسسة السينما والمسرح والإذاعة، وما له من مرتكز أيدلوجي حيث يستطيع التعامل مع قوة متنافرة ويجعلها منسجمة،وهذا من المستحيلات، وأخيراً حيازته الدكتوراه في بلغاريا.”

كلمات ذوات شجون

الموت يسبقنا نحو من نحب، يختطفه منا، لنبقى مُعلقين بين الاستسلام للقضاء والقدر، وبين الحزن والصدمة، يختصر الفنان المسرحي عزيز خيون رحيل خلّه الفاضل بكلمات ذات شجون يذكر في ختامها ” أن ما يعتصر القلب يوجعه ويدميه صاحبي أنك الآن رحلت في وقتٍ نحنُ أشدُّ ما نحتاج إليه مثلك، لنقنع عزيمة الروح بأن نتجمع ونتماسك ونزهر لحظة جمال أن الحياة ممكنة التحمل في مثل هذا المبتلى، فرياض الجنة لروحك صاحبي ونعمة الصبر لنا.”

كيف تتعامل 

مع معطيات بلدك؟

“ليس المهم أن تكون فناناً أو صاحب نفوذ ، ولكن المهم كيف تدير العملية الفنية التي أنت موهوب فيها وكيف تدير نفوذك” بهذه الجملة لخّص الفنان والأكاديمي د.هيثم عبد الرزاق مشوار الراحل ذاكراً ” من خلال نقطتين مهمتين أصبح فاضل خليل الفنان الذي شاركته العديد من أعماله جعلتاني أن أعتبره صديقاً، وأنا لا أصادق كل من أشاركه أعماله، ولكن فاضل خليل علمني كيف نستغل النفوذ بروح المواطن العراقي، بغضّ النظر عمّن يختلف عنّا، من خلال موقف تعلمت منه ذلك، أما الموقف الثاني مهرجان أيام عمان المسرحية وكنّا في فترة حصار قدمنا مسرحية “سيدرا” اتصل فاضل خليل يقول لقد استعدوه ليقولوا  إن المهرجان بدعم من إسرائيل، وخلال تحقيقهم معه قال إن إسرائيل داخل في كل مرافق حياتنا ولماذا لم نذهب نحن وندخل هناك، وهذا الموقف الثاني الذي جعلني أعتبر فاضل خليل من أهم اصدقائي، في الوقت الذي لم يكن المهرجان بدعم منإ إلا أن تلك كانت تقولات أطلقها بعض المتثقفين.”  فليس المهم أن تكون فناناً  أو صاحب نفوذ، ولكنّ المهم كيف تتعامل مع معطيات بلدك.

حين يموت الفنان قسراً

فاضل خليل الذي غادرنا قبل أوانه، لم يكُن هذا الرحيل صدفة عابرة، فروح المبدعين تموت حين تُنسى، وتُقصى، بهذه الكلمات ابتدأت الفنانة عواطف نعيم  حديثها عن لحظات الفنان الاخيرة وتقول ” لقد واكبناه منذ دخوله المستشفى وحتى مغادرته الحياة، هذا الفنان الذي جمع كل شباب المسرح العراقي، خيرة من شباب الفن العراقي جاءوا ليودعوه عند رحيله، لم يرحل فاضل خليل محض صدفة بل رحل لأنهم نسوه، وأبعدوه وأقصوه وهمشوه، فلماذا لم يستفيدوا من عطائه، ويمنحوه منصب مستشار أو أستاذ ليُنير العقول الجاهلة التي تُحيطنا اليوم.”

القبور تبتسم حين تحتضن أجساداً معطاءة، كفاضل خليل الذي فضّل أن يدفن بجوار صديقه ومعلمه أبي يعقوب ” الفنان يوسف العاني”

الجيل الثاني 

الفنون تصنعها أجيال متعاقية، وهو ينتمي الى الجيل الثاني من الفنانين الذين أسسوا للمسرح العراقي، هذا ما أكده الفنان ميمون الخالدي الذي قال ” تعرفت إليه عام 1967، أثناء تمريناته على مسرحية النخلة والجيران وكان في مقتبل حياته ،كان يضجّ  بالحيوية والشباب وقتها كُنتُ قد جئت من النجف لشغفي بالمسرح والمسرحيين، وكانت كل أمنياتي أن أدخل الأكاديمية.”

لم ينقطعا منذ ذلك العام وحتى لحظة رحيله، فهو صديقه ويعرفه جيداً، ومن أهم سماته التي يذكرها الخالدي”أن  فاضل خليل لا يحب النفاق كثيرا ولا يحب الرياء ،كان طيباً وواضحاً، وقد  اتخذ له اسلوباً في الواقعية الخياللية والسحرية في أعماله المسرحية ، باعتبارها كانت المدرسة التطبيقية في ذلك الوقت”  ” فاضل ذهب قبل أوانه في الحقيقة” أكد الخالدي جملته مُعللاً ” أن هذه واحدة من أهم الاسباب التي أدت به لبقائه في بيته وعدم مخالطة الكثيرين، في الوقت الذي يُلخص هذا الرجل ومن مثله تأريخ المسرح العراقي بأكمله.”

 عميد الواقعيّة السحريّة

لحياته في مدينة الناصرية أثر كبير على تسلله لعالم الفن وخشبات المسارح، فيذكر الناقد د.سعد عزيز عبد الصاحب أن ” فاضل خليل عميد الواقعية السحرية، والناسج الإبداعي في الواقعية اتخذ من الناصرية التي قضى فيها 11 عاماً من حياته نقطة لانطلاقه نحو المسرح.” مُشيراً إلى ” أنه وبعد مغادرته مدينة العمارة سكن في مدينة الناصرية، وهنا تفتحت له الآفاق بتغيير بيئته ومخالطة الشخصيات الثقافية والفنية، التي خلقت بداخله روح الشغف نحو الدخول الى الأكاديمية عام 1966، والتعرض لامتحان لجنة التقييم الصعب، ولم يكُن وقتها خالي الوفاض، بل كان يمتلك الكثير من الصور والدلائل على مشاركته في الكثير من الاعمال المسرحية التي أقيمت في الناصرية.”

 كانت الادوار التي قدمها  فاضل خليل في المسرح في الناصرية متنوعة وذات مساحة جيدة أفصحت عن قدرته وإنضاج وعيه الثقافي والفني قبل قبوله في الأكاديمية ببغداد وانضمامه للمسرح الفني الحديث والتي كانت اهم مؤسسة مسرحية تدعم نفسها بنفسها ، ولم يعش خليل اغتراب فني واجتماعي في بيئة الفن في بغداد ،لأنه قادم  من سلالة مدنية وحواضر ثقافية ضاربة الجذور.

حركة مسرحيّة جديدة

عوّدنا أولئك الذين يقدمون الكثير، بالرحيل صمتاً، كما أنهم يعملون في الحياة صمتاً، فيذكر الأستاذ حكمت داوود موقفاً لفاضل خليل الذي قدم عرضاً مسرحياً ريفياً في الناصرية ويقول داوود ” لم يكن فاضل خليل في مدينة الناصرية ولكنه جاء مع عمه الذي كان معاوناً  في مدينة الناصرية، وقدم مسرحية ريفية، واحتاج العرض لإطلاق رصاص ولم يتوانَ في استخدام المسدس في عام 1963، وكان سلاحاً حقيقياً في ذلك الوقت غامر خليل من أجل تقديم عرض مسرحي.”

حكمت داوود عمل مع فاضل خليل الكثير من الاعمال، وكان جيل خليل من الشباب الذين تمردوا على واقع المسرح آنذاك، من خلال مناداتهم  بأن ينقل المسرح من شكله العلبي الى المصانع والمزارع والمقاهي أي الى شكل آخر مختلف وجمهور آخر لم يألف الحالة المسرحية العراقية، ولكن بحسب ما ذكره داوود أن “هذا الشكل المسرحي تم إجهاضه، وسرقت بعض الوجوه المهمة في هذه الفرق،  التي تعدّ وجوهاً مهمة في الحركة المسرحية ، و تمت مطاردة المنضمّين لهذه البؤرة وبدأوا بمطاردة هؤلاء واستطاعوا إجهاض الحركة المسرحية الجديدة لجيل الشباب.”

عفويّة مؤطّرة 

برصانة علميّة 

حين نفقد إنساناً قريباً إلينا نتألم وحين نفقد إنساناً عزيزاً علينا يكون وقع الألم أكبر، بهذه الكلمات يبدأ مداخلته الدكتور زهير البياتي يقول  ”  لو تتبعنا مسيرة الراحل منذ البداية في العمارة وحتى النهاية لوجدنا هذا الخط في تصاعد مع التألق والإبداع ،لذلك نجده ترك بصمة مهمة، لو حُللت بصمته لوجدناه إنساناً مبدعاً اكتسب الإبداع من خلال البيئة التي نشأ فيها بسبب ثقافته.”

فاضل خليل  هو صدى هذا الإبداع المسرحي، ففي الدول العربية عُرف بتألقه وليس محلياً فحسب وقد ترك أثراً عربياً ايضاً من خلال عروض وزيارات لتلك الدول، ومن خلال تدريسه كأكاديمي في تلك الدول، ليؤكد البياتي أن” فاضل خليل ذو عفوية مؤطرة بالدراسة الأكاديمية ، وهو يتعامل بعفوية مؤطرة بالرصانة والعلميّة.”

——————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *