المهرجان الوطني للمسرح التونسي – مسرحية «تطهير» لمحمد علي سعيد.. المسرح وتفكيك الذات البشرية – مفيدة خليل #تونس

المهرجان الوطني للمسرح التونسي – مسرحية «تطهير» لمحمد علي سعيد.. المسرح وتفكيك الذات البشرية – مفيدة خليل #تونس

هل شعرت بالذنب يوما؟ هل آلمت احدهم ولازلت تتعذب لألمه؟ هل عايشت الظلم والخوف وحوّلته الى طاقة عنف غير متناهية؟

هل فكرت يوما بالتعري أمام مرآتك ومصارحتها بكل خطاياك دون خوف أو وجل؟ هل فتحت «تراكن» الذاكرة المقفولة وبحثت عن حقائق منسية تحاول إخراجها إلى النور؟ هل تصالحت مع ذاتك بكل خطاياها؟ وأسئلة أخرى يضعك أمامها الدراماتورج معز حمزة والمخرج محمد علي سعيد في مسرحية تطهير.
وهي مسرحية تكشف عن بؤس الذات البشرية والانفصام الذي تعيشه والذي يؤثر على المجتمع والقيم الكونية، مسرحية تطرح أسئلة عن الحب والكره عن العنف والسلم والحياة والموت، عن نص اصلي للكاتبة ايميلي نوثمب ودراماتورجيا معز حمزة، تمثيل حمودة بن حسين ومريم القبودي وناجي القنواتي وإخراج محمد علي سعيد.

المسرح وسؤال الأنا
موسيقى قوية تعلن عن بداية المسرحية، صوت لازيز الطائرات واصوات الجلبة تكاد تصمّ الآذان، أحداث العمل تدور في مطار ما في تاريخ 24مارس من عام غير محدّد،ديكور الركح بسيط، كنبة يجلس عليها رجلان الأول يقرأ كتابا والثاني يتناول علكة يضعها في فمه ويصنع موسيقى خاصة تكون احدى مقومات سينوغرافيا العرض.

اختيار فضاء المطار ليس من باب الاعتباط بل مطية للتأكيد على تنقل الشخصيات وعدم تموقعها في مكان واحد والتنقل هنا ليس بمعناه المادي أي الرحيل بل له معنى نفسي بما يحيل إلى التشظّي والخوف والتنقل من حالة نفسية إلى أخرى، فالذات البشرية تماما كما المطار تقابل آلاف الانفعالات والأحاسيس التي يستقر بعضها لينمو ويصبح مرضا نفسيا وبعضها يغادر دون ترك اثره تماما مثل المسافرين في المطار.

فالمسرحية تتنزل في خانة المسرح العبثي او مسرح المعقول الذي يعرفه باتريس بافيس بانه «كل ما نحس بأنه غير معقول Déraisonnable, وكأنه لا يملك أي معنى تماما أو أي علاقة منطقية مع بقية النص أو الركح. والعبث في الفلسفة الوجودية هو ما لا يمكن تفسيره بالعقل, وما يرفض من الإنسان كل تبرير فلسفي أو سياسي […] وفي المسرح نتحدث عن بعض العناصر العبثية عندما لا نستطيع الوصول إلى إعادة وضعها في سياقها الدراماتورجي والركحي والإيديولوجي» وعلى ركح قاعة التياترو التقى الجمهور بعبثية النص والأداء ورحلة إلى العوالم النفسية الممزقة للشخصيات.

«تطهير» هو اسم المسرحية، تطهير هي رحلة الذات مع مرآتها صراع الأنا مع الأنا، صراع الشخصية مع نفسها، صراع البقاء والموت، الحب والكراهية، جدلية البراءة والذنب جميعها يعايشها المتفرج أمام ممثلين أتقنوا الشخصيات وتماهوا مع تفاصيلها.

على الرّكح شخصيتان، أولى هادئة وصارمة عاطف بن حسين، بدلة سوداء مع قميص احمر يمسك بكتاب لم يغير صفحته منذ البداية شخصية رجل أعمال مسافر إلى مكان، الثاني يلبس الأسود كاملا، طويل الشعر غوغائي (ناجي القنواتي) يتحدّث كثيرا يقلق الشخصية الأولى في عزلتها اسمه (سامباتيكو) اسم غريب وشخصية أكثر غرابة.

لكل شخصية مميزاتها، الأولى منطوية تبحث عن الهدوء حتى تقلع الطائرة والثانية تريد ان تفرض حكاياتها على الشخصية الأولى وتشاركها وجع ذنب الموت والاغتصاب ومع تصاعد الأحداث نكتشف أننا أمام شخصية واحدة ومرآتها فالشخصية الأولى (رجل الأعمال) هي التي ارتكبت كل الجرائم التي تحدث عنها «سامباتيك» الذي يظهر انّه ذات الآخر هو صورته الوحشية التي يخفيها عن الجميع، الضغط الذي عاشته الشخصية في حياتها وذنب القتل جعله شرسا في ردة فعله مع ذاته بضرب رأسه حد الموت على جدار المطار ومن جديد تعود الأحداث إلى التنقل من مكان إلى آخر وكأننا بالقصة لا تقف عند تلك الشخصية بل هناك قصص مشابهة ومماثلة لها في كل البسيطة.

من العبث تولد أسئلة الإنسان
صراع نفسي، تمزق وانفصام تعيشه الشخصية، وجع الطفولة وذكريات الحب الاول، نشوة الاغتصاب والتلذّذ بالدمّ ثم القتل والنشوة، مراحل نفسية تعيشها الشخصية، أبدع في تقمصها ناجي القنواتي «سامباتيك» الشخصية التي تبدو شريرة ولا معقولة في تصرفاتها غريبة وكلماتها اغرب، شخصية مركبة استطاعت الغوص في تفاصيل المرض النفسي، شخصية كتلك التي يقول عنها كامو ««أريد أن أفهم كل شيء أو ألا أفهم أي شيء. فالعقل يعجز أمام صراخ القلب والعبث يتولد عن هذا الصدام بين نداء الإنسان وصمت العالم اللاّمعقول».

المكان في «تطهير» أمكنة، بعضها موجود أي قاعة الانتظار في المطار وبعضها متخيّل حسب استرجاع الشخصيات لأحداث من الماضي فنجد بيت العائلة والمقبرة ومنزل «بية» أمكنة متغيرة تغير الحالات النفسية للشخصيتين.

على الرّكح تجد الشخصية وصورتها، نفس الحركة، نفس الوجع تحريكة اليد عينها نفس طريقة التحرك على الرّكح، الحركة عادة شبه دائرية تبدأ دون أن تنتهي كأنها دلالة على الخوف وعدم الثقة بالنفس وهي إحدى المشاكل النفسية التي تعانيها الشخصية.

للون الأحمر حضوره فالحقائب الثلاث في أقصى الرّكح حمراء اللون، وقميص رجل الأعمال احمر، وللأحمر رمزية الدم هو لون الانفعال والمرض كذلك وظف الضوء الخافت الذي ينير جزءا قليلا من الرّكح يتحرك مع الشخصيات، كأنه انعكاس للظلمة الداخلية التي تعيشها الشخصيات، ظلمة تخرجها في على شاكلة العنف والألم والقتل والإرهاب والدموية.

فبالضوء والموسيقى وسيطرة اللونين الأسود والأحمر يغوص المخرج في الثنايا النفسية للذات البشرية، يتساءل عن انسانية الإنسان، يتساءل عن المظهر المخادع وأقنعة البراءة المزيفة التي يلبسها الكثيرون ليثبتوا أنهم الأكثر نقاء وهم مطلّخين بالدماء.

المسرح سؤال لا اجابة له
المسرح سؤال متمرد المسرح فعل حياة وممارسة أزلية لفن السؤال والبحث الدائم عن طريقة للدخول إلى عوالم المختلفة، المسرح نقد وفي «تطهير» نقد الدراماتورج والمخرج «الراسمالية المتوحشة» التي انتهكت كل الحقوق وسرقت كل الأحلام قبالة التغول، الرأسمالية التي تسفك الدماء وتشرب دماء المضطهدين والحالمين ثمّ تبتسم ابتسامة البراءة وتسال من القاتل؟ من السارق؟ من الجلاد ومن الضحية؟ أسئلة تطرح في مسرح تطهير بطريقة غير مباشرة.

فشخصية رجل الأعمال هي كناية عن نظام رأسمالي متوحش أكل أحلام الشباب فقط ليزيد من ثروته غير المحدودة تماما مثل الشخصية التي اغتصبت الفتاة ثم قتلتها فقط للشعور بمزيد من المتعة، فالشخصية الدموية تظهر وكأنها مسالمة تقرأ كتابا تبحث عن الهدوء وبمجرد النبش قليلا في غياهب الذاكرة المقفولة ومحاولة البحث عن حقائق في الأركان المظلمة تتضح قسوتها ووحشيتها كذلك هي الانظمة الديكتاتورية وبعض الساسة عبدة المال الذين يظهرون بمظهر الحمل الوديع وخلفه يخبئون أنياب ذئب متعطش للدماء.

تطهير مسرحية إنسانية عالمية، نص له أكثر من قراءة وأكثر من تفسير، مسرحية عبثية ممتعة تطرح اسئلة وجودية عن الإنسان، عن السلم والظلم، عن الأنا والآخر، عمل موجع ومضحك يغوص في ثنايا الذات البشرية فيفككها ليعيد تركيبها قبل نهاية العرض الذي ينتهي كما بدأ بصوت المضيفة تعلن عن موعد الطائرة لتنطلق رحلة السؤال من جديد.

ناجي القنواتي: فارس مسرحي بامتياز
فنان مميز، ممثل محترف يتقن تفاصيل الشخصية ويلامس تفاصيلها، يتماهى مع جزئياتها، يشعرك انه حزين إلى حدّ الصدق وفرح إلى حدّ النشوة، ممثل مميز لحضوره كل الابهة والاناقة في اداء الشخصية والارتجال احيانا، ناجي القنواتي مبدع مسرحي يمكن نعته بالفارس فهو في صراع دائم من الابداع، كلما صعد على الركح الا واشبع جمهوره بمتعة مسرحية منقطعة النظير، هو العاشق للمسرح عاشق لا يكبر وعشقه للخشبة يصنع تفرّده.

مفيدة خليل #تونس

____________

المصدر / المغرب

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش