المسرح.. يرسّخ الخير والحب والجمال

تعميمه في مدارس الشارقة تجربة جديرة بالاهتمام
المسرح.. يرسّخ الخير والحب والجمال
إلى أي مدى يسهم المسرح في تشكّل وعي الطفل، ويحصنه ضد التطرف والعنف؟، هذا سؤال كبير لجهة انفتاح وسائل الاتصال الحديثة على مصاريعها في تقديم وعرض أشكال لا حصر لها من المشاهدات التي تخدش عالم الطفولة، ونقصد هنا، ما تبثه وسائل الإعلام من حروب وكوارث يومية أصبحت تغزو الشاشات الصغيرة والكبيرة.
 
في هذه الحالة، تصبح المسؤولية كبيرة سواء على المربين أو الموجهين التربويين وأيضاً فئة الكتاب والمثقفين الذين تقع على عاتقهم مهمة تشكيل وجدان وخيال الأطفال. 
 
إن التعامل مع هذه المشاهد اليومية التي تحتوي على قدر كبير من الدمار والعنف، يتطلب جهوداً مضاعفة من التربويين والأهل والجهات الرسمية والأهلية، في الحيلولة دون وصولها للطفل.هل نتحدث عن رقابة من نوع ما؟ نعم، وهو المطلوب لكي نبعد شريحة الأطفال عن مثل هذه المشاهد التي تتضمن تأثيراً عنفياً ونفسياً، ينعكس سلباً في عقول ووجدان الطفولة التي يجب تنشئتها وتحصينها ضد التطرف والعنف.
 
الموضوع بالأساس هو موضوع تربوي، يبدأ من فكرة توجيه الأطفال نحو تمجيد قيم الخير والحب والسلام، من دون التطرق لنصوص مباشرة غارقة أفكارها في الحروب والدمار، ونحو ذلك مما يحرّف بوصلة الطفل بعيداً نحو الخوف والهلع وكثير من الارتدادات النفسية التي لا يمكن حصرها.
 
وفي هذا المقام، تعد تجربة الشارقة بتوجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في تطوير المسرح المدرسي، خطوة جادة نحو تنمية مهارات الطلبة الفنية، وترسيخ ثقافة نشر دمج الفنون في العملية التعليمية، لاسيما بعد أن أعلن مسرحيون وتربويون يمثلون وزارات التربية في الوطن العربي، في الشارقة عن تبنيهم لاستراتيجية تنمية وتطوير المسرح المدرسي في الوطن العربي، والتعاون مع الهيئة العربية للمسرح لوضع الآليات وطرق التنفيذ لها، بموجب بيان يحمل اسم «إعلان الشارقة».
 
وينص «إعلان الشارقة» على عدد من البرامج ترسم خريطة طريق للتطوير والتنمية الحقيقية للمسرح المدرسي بصفته أساساً لتنمية المسرح وأداة مهمة للتنمية المجتمعية ونقطة انطلاق نحو تطوير العملية التربوية والتعليمية التي تبدو الآن أكثر أهمية لتحصين طلبة اليوم قادة الغد ضد موجات التطرف والتعصب، التي باتت تجتاح وطننا والعالم.
وتهدف الاستراتيجية إلى نشر ثقافة المسرح المدرسي، ونشر الممارسات المسرحية في الوسط المدرسي، واكتشاف المواهب المسرحية الطلابية والعمل على صقلها، وبناء شخصية الطالب لإكسابه مهارات وقيماً من خلال الممارسة المسرحية حتى يكون عنصراً فاعلاً في تنمية مجتمعه، إلى جانب تأهيل كفاءات متخصصة لتفعيل النشاط، وبناء شراكات مجتمعية للنهوض بالمسرح المدرسي.
ومن الخطوات المشهودة أيضاً في إمارة الشارقة «عاصمة الثقافة»، احتضان معهد الشارقة للفنون المسرحية، 18 فرقة مسرحية مدرسية، تم انتقائها من بين 66 فرقة مسرحية مدرسية، وسجلت مدينة الشارقة أعلى نسبة مشاركة، إذ تقدمت ب 29 مدرسة، وتقدمت مدينة كلباء ب 13 مدرسة، وتلتها خورفكان ب 12، ودبا الحصن ب 4، ومن المنطقة الوسطى 22 مدرسة، ووصل عدد المشاركين في العروض إلى ما يقارب 860 طالباً وطالبة، وبلغ عدد المشاركين في الإشراف والإعداد من المعلمين والمعلمات نحو 262.
وقاربت العروض موضوعات عدة بين الأمانة والحلم والصبر وحب الوطن، وحثت إلى السلم والتعاون ومراعاة قيم الأخوّة والصداقة، وانتقت لمظاهرها الجمالية فضاءات مفعمة بالألوان والموسيقى والأزياء واختبرت العديد من الأشكال الأدائية التي تداخلت ما بين الحركة والسرد والاستعراض والتمثيل.
التوجه للطفل
 
هذا ما يؤكده عدد كبير من المسرحيين الإماراتيين، حيث يرى المؤلّف والممثل عبدالله صالح أن الابتعاد عن طرح القضايا السياسية المباشرة في المسرح الموجه للطفل، هو أمر مهم، وفي الإمارات تتحسس لجان اختيار النصوص المسرحية وكذلك لجان المشاهدة، حين يقدم لها نصوص غارقة في المشاهد العنفية كما هو حال الحروب والنزاعات المسلحة وغيرها.. إن الأصوب في هذا المجال هو «ترك الطفل يتعامل مع عالمه البريء باختيار نصوص تناسب سنّه، وتحرص على غرس قيم الحب والخير والجمال».
ويضيف: مثل هذه الطرق غير المباشرة، تنعكس إيجاباً في وجدان الأطفال، وتزرع في أحاسيسهم وعقولهم ما يشبه المناعة الذاتية التي تشجب العنف والإرهاب والتطرف.
من جهة ثانية يشير صالح إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تتعلق بكتابة النصوص المسرحية، التي يغلب عليها الاجتهاد الشخصي، حيث يؤكد على أن الساحة الفنية والمسرحية في الإمارات لا تمنح الكاتب المسرحي تفرغاً تجعله يبدع نصاً مسرحياً خاصاً يعالج مثل هذه المسألة بموضوعية وبنوع من الحرفية، وهنا أيضاً، فنحن بحاجة ماسة إلى أفكار وأقلام جديدة على مستوى الكتابة المسرحية الواعية التي ترصد مثل هذه القضايا وتقدمها بموضوعية تليق بأحاسيس وعقول الطفولة.
 
التوجيه والإرشاد
 
يؤكد المخرج حسن رجب على أهمية هذا الموضوع، وهو يصر على أنه قبل الحديث عن مسرح الطفل ودوره في الارتقاء بذائقة الطفل وتحصينها ضد التطرف والعنف، فإن الموضوع برمته يحال إلى مفهوم التربية، لا سيما ونحن نتعامل مع شرائح عمرية غضة، بحاجة إلى التوجيه والإرشاد، لذا فلا بد من أن نبدأ من البيت والمدرسة، فالمدرسة لها دور كبير في تنشئة الأطفال وتصميم برامج تثقيفية وتوعوية تناسب أعمارهم، وتنمي عندهم قيم الجمال ونبذ العنف ورفع سوية الخير ضد الشر وهكذا.
 
البدء بالتربية مهم لجهة تمكين الأطفال من تنمية حس الجمال عندهم، وهي التي تساعدهم على محاربة الشرور بكافة أنواعها، ومن خلال التربية أيضاً يصبح الطفل رقيب نفسه، وقادراً على التمييز وميالاً لإشاعة أجواء البهجة والتفاؤل ورفض السلبيات بكافة أنواعها.
 
ويشير إلى أن نصيب المسرح من مسألة العنف هو جزء يسير، إذا ما قورن بشاشة التلفاز، فالطفل يقضي وقتاً أطول في البيت، ومؤثرات ما يعرضه التلفاز سرعان ما تنتقل مباشرة إليه وهنا يبرز دور الأهل في الرقابة، التي لا بد منها، وإشغال الأطفال ببرامج تثقيفية وتوعوية تنمي لديهم حس الخيال والمتعة وتغليب المهارات التي تناسب أعمارهم وعقولهم على حد سواء.
 
يجب أن يقرأ
 
ويرصد الفنان المسرحي إبراهيم سالم هذا الموضوع من عدة زوايا أبرزها يتعلق بالثقافة، حيث يؤكد على هذا الموضوع الإشكالي والتاريخي في الوقت ذاته فيقول: «إن الطفل يجب أن يقرأ، وأن يتثقف، وأن يزود بالمعرفة التي تساعده على التمييز بين الخير والشر، فالثقافة أمر مهم تمكن الطفل من ترسيخ مكانه الصحيح في المجتمع وتلمس الدور المنوط به في المستقبل».
 
فالثقافة تمكن الطفل، بل تنقذه من الانزلاق والتعثر والسير في دروب جانبية، هو في غنى عنها، طالما أحسن توجيهه.
 
ومن خلال الثقافة والمعرفة التي تمنى سالم أن تأخذ مداها من لدن المؤسسات على اختلاف تخصصاتها سواء كانت تربوية أو فنية أو ثقافية، يمكن تنشئة جيل قابل للتعاطي مع كافة أشكال الفنون ومنها المسرح.
ويبين أن فكرة المسرح الأساسية ترتكز على الدراما التي تفرق بين الخير والشر، ولا بد للطفل من تأسيس ثقافي ومعرفي، يجعله حين دخوله خشبة المسرح قادراً على استيعاب مثل هذه الأساسيات، والدراما المسرحية مهمة بكل تأكيد لتنمية خيال الطفل وتنمية وعيه ومدركاته الحسية والعقلية، التي تذوب أمامها كل أشكال التطرف والعنف والإرهاب.
 
سذاجة في التعامل
 
الكاتب والمخرج المسرحي علي جمال يرى أن مسرح الطفل في الإمارات، ما زال حتى اللحظة يتعامل مع هذه الشريحة العمرية بنوع من السذاجة، خاصة في ما يتعلق بالنص أو التأليف المسرحي، وهذه الأعمال لا ترتقي بوعي طفل اليوم، الذي أصبح بفعل التكنولوجيا المعاصرة أكثر انفتاحاً من الأمس.
ويضيف: في الوقت ذاته، فإن المشكلة تتكرر على مستوى السينوغرافيا، التي ما زالت هي الأخرى بذات العقلية الماضية، مع إضافة بعض التعديلات التقنية التي لا تفيد مخيلة الطفل ولا تحرك عقله ووجدانه.
على المستوى الشخصي يوضح جمال بأنه يشتغل الآن على فكرة نص جديد يخاطب طفل اليوم، ضمن فهمه لهذه الشريحة العمرية، التي نشهد عزوفها عن حضور المسرح، بسبب افتقار هذه الأعمال لخصائص وميزات العروض الناجحة التي ينبغي أن تكون على صلة بالطفولة التي تعيش واقعاً مغايراً ولديها هواجس وأحلام مختلفة.
 
وتمنى أن تشكل لجان لمراجعة النصوص قبل اتخاذ القرار بعرضها، حتى لو أجيزت هذه النصوص من قبل الجهات المعنية، ويكون لهذه اللجان حرية رد النصوص أو تعديلها، لكي نرتقي بأحاسيس وتوقعات هذه الطفولة التي تعيش اليوم.
 
احترام الآخر
 
الممثل المسرحي حميد فارس يرى أن للمسرح دوراً كبيراً في بناء الطفل والتأثير على أفكاره من خلال الأعمال التي تستهدف هذه الشريحة، وهذا يتطلب أن تكون الرسالة نفسها هادفة وتحمل الوعي في داخلها. ويؤكد فارس على ضرورة أن يتم تضمين مسرح الأطفال في المناهج الدراسية، والاهتمام به تربوياً بحيث يصبح جزءاً من ثقافته التعليمية، حتى ينتمي الطفل إلى عوالم الخير والحب والجمال، وهي العوالم التي تشكل حصانة ضد الآراء الفاسدة والمتطرفة والمتشددة، وتعزز القيم الإنسانية وترى بضرورة احترام الآخر وثقافته وعرقه ولونه، ولا تعترف بالتفرقة على هذه الأسس، وبالتالي تسهم هذه العوالم في تشكيل وعي الطفل وفكره، وتؤثر على اتجاهاته بحيث تشكل حصانة حقيقية ضد الأفكار الهدامة، وتنسجم بالتالي مع القيم الجميلة.
 
ويشير إلى أحد العروض المسرحية التي قدمها خلال أيام الشارقة المسرحية، وذكر أن كثيرين وجدوا أن هذا العمل يصلح للأطفال لما يحتوي من قيم إنسانية وتربوية تهدف إلى محاربة الأفكار الهدامة مثل التطرف والتشدد.
 
وجدان وعقل الطفل
 
بدوره يؤكد المخرج علاء النعيمي أن للمسرح تأثيراً كبيراً في تشكيل وجدان وعقل الطفل، وينطلق النعيمي من خلال تجربته الشخصية في مسرح الطفل، كونه متخصصاً في هذا المجال الذي يرى فيه فناً صعباً جداً، فالأطفال يقدمون ملاحظاتهم أثناء العرض وليس بعده بعكس الكبار، إذ يتمتعون بخاصية الالتقاط السريع وخصوبة المخيلة، وهو يرى أن هناك تقصيراً في هذا الجانب رغم وجود مهرجان لمسرح الطفل، منادياً باهتمام أكبر على كل الصعد والمستويات، وضرورة أن يشاهد الطفل أعمالاً مسرحية تثري مخيلته.
 
ويرفض النعيمي القول الشائع بضرورة النزول إلى مستوى الطفل، ويقترح استبدال ذلك بضرورة الارتقاء إلى مستوى مخيلة الطفل.
 
وينادي بالاهتمام بمسرح الطفل، والعروض الموجهة إليه، والتركيز عليها لأهميتها القصوى، وهو ما يتطلب اهتماماً كبيراً وعلى كافة المستويات في الدولة، كوزارة التربية والتعليم، والإدارات الثقافية والفنية في كل المدن، ويرى أن الارتقاء بالطفل والإسهام في تشكيل وجدانه وعقله، يتطلب الارتقاء بمسرحه وتطويره والاهتمام به، مقترحاً «مسرحة المناهج الدراسية»، وتقديم أعمال خارج المنهاج الدراسي، إذ إن مسرحة المناهج تسهم في توضيح الأشياء وتقريبها لذهنية الطفل.
 
ويشير إلى ضرورة التفرقة من حيث الفئة العمرية لكل مرحلة، فإذا كانت مراحل الطفولة الأولى قبل البلوغ تطلب تنمية الخيال، فإن مرحلة البلوغ تكون العقول فيها مستعدة للتوجيه، ويصف تلك المرحلة بالخطيرة، وأن الاهتمام بهذه المرحلة العمرية يكاد يكون مفقوداً، من حيث تناولها وتناول قضاياها واهتماماتها ومشاكلها.
 
أما الفنان حميد سمبيج فيعتقد أن المسرح بما يتضمنه من فعاليات وقصص وحكايات، لها انتماؤها الإنساني والوجداني، وبما تركز عليه من قيم الخير والجمال، لها تأثير كبير على الطفل، وعلى انحيازه للقيم الجميلة، فتجعله يحترم ثقافات الشعوب، ويذوب نفوره من الآخر.. ونوّه إلى أن هذا العالم المتعدد الثقافات واللغات موجود في الإمارات التي يتعايش فيها الجميع بكل احترام وحب بغض النظر عن التباين الثقافي والعرقي، وقد استوعب الفنانون والمسرحيون الإماراتيون ذلك التعدد وهضموه وقدموه أعمالاً مسرحية تتناول قيم الحب والخير والجمال، وهو ما انعكس على الأعمال المقدمة للطفل.
 
بناء جيل متسامح
 
المسرحي د.سعيد الحداد يؤكد على أهمية مسرح الطفل، وعلى ضرورة الارتقاء به وبالمسرح بشكل عام، الأمر الذي يحتم على المسرحيين الابتعاد عن تقديم العروض التي لا تحمل رسالة أو هدفاً، والتي تحتشد بالكلمات السلبية التي تؤثر على الأطفال، إذ إن الكلمة هي التي تبني الطفل، منبهاً إلى أن الأطفال يلتقطون الأشياء بنباهة بالغة، وهذا يتطلب الحذر والاهتمام بالرسالة المسرحية. 
ويشيد في هذا الصدد بإسهامات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في إقامة المهرجانات المسرحية والاهتمام بالحركة الفنية وبالذات مسرح الطفل، وفي ذلك اهتمام بالمستقبل، وبناء جيل متسامح ينتمي إلى القيم الجميلة والعظيمة، التي تجعل الأطفال منتمين إلى الإنسانية بكل تفاصيلها، بغض النظر عن الاختلاف الثقافي والديني والمذهبي، مشيراً إلى أن ذلك هو ديدن دولة الإمارات التي يتعايش فيها الجميع بمحبة وألفة.
 
———————————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية  – عثمان حسن وعلاء الدين محمود – الخليج  

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *