المسرح وكيمياء اللغة فى تسع وتسعين حكاية / فتحية الحداد

المصدر / المصري اليوم / نشر محمد سامي موقع الخشبة

إن كان لأى مهرجان من إيجابية فاختلاف التجارب التى تتخلله وتباينها يبدو الأهم، كما فى مهرجان أفينيو المسرحى والذى يقام سنويا فى جنوب فرنسا. هذا العام حضرتُ عروضا كان منها عرض «تمارين فى الأسلوبية»، وهو أيضا عنوان كتاب تعرفت إليه عام 2003 يتعلق بكتابة القصة وفن سرد الحكاية نفسها بتسع وتسعين طريقة مختلفة. الفضول شجعنى على اختيار هذا العرض: فكيف بعمل سردى لا يتعدى أسطرا قليلة أن يشكل مسرحية؟

الكتاب للفرنسى (RaymodQueneau) ألف الكتاب عام 1947 حيث يركب الراوى الباص ويشهد موقفا يظهر فيه راكب برقبة طويلة تبعث على الضحك أحيانا، يرتدى قبعة واسمه زازو، وهناك راكب آخر يبدو أنه يثير الجلبة. ما يحدث أن الراوى يصادف بعد ساعات وفى محطة قطار معروفة فى باريس الشخص نفسه وهو يتلقى من صاحب له نصيحة بوضع زر إضافى إلى الجاكيت الذى يرتديه. بساطة هذه القصة تمثل منعطف التعقيد، إذ كيف يمكن للسارد أن يرويها تسع وتسعين مرة بشكل مختلف، وإذا كان مؤلف الكتاب قد نجح فى ذلك فكيف للمسرحى أن يعيد نتاج السرد ليُمثل عرضا تتخلله الحركة والحوارات؟

يتطلب الأمر تطبيق مبادئ الكيمياء أو فن السحر، ليختار المبدع عناصر بذاتها، يخلطها ليحصل على المزيج الذى يريده، فكيف تعامل المسرحيون مع هذا السرد وخاصية التكرار؟ كانت هناك تجارب عدة فى فرنسا، فى العرض الذى حضرته اختار المخرج إشراك أكثر من شخصية فلن يكون هناك راوِ واحد بل أكثر لتكون تلك الخطوة الأولى فى هدم النص الأصلى وإعادة بنائه. المسرح حاد الظلمة دون أثر لأى إضاءة، ترفع الستارة عن ثلاثة ممثلين كل منهم ببدلة يختلف فيها عن زميله ليعادل التشكيل فى الألوان واحدا من تقنيات التباين فى سرد القصة. تباين بصرى يناسب سياق العرض ليبدأ واحد من الممثلين بالسرد ويتمم زميلاه عن يمينه ويساره الحوار ليشعر الجمهور تدريجيا بالتلوين بالإيقاع وبأن هناك حوارا يدور بين الثلاثة يكسر نمط القصة فى العمل السردى. بعد ذلك تتكرر القصة لكن ملامحها تتغير فتتغير اللغة إلى الإنكليزية للحظات، ثم تأتى القصة على لسان رجل يقلد امرأة أو يأخذ دورها لتولد من القصة حوارات عدة تنتهى بموسيقى وأغنية من وحى العمل يشارك فيها الجمهور فتلتحم الخشبة بالصالة بحيوية ننسى معها أن العمل انطلق من نص سردى.

هذه المسرحية لم تكن الوحيدة التى انطلقت من هذا النص، والأعمال المُنتجة تؤكد أهمية أن يخرج المسرحى من قوقعة الأعمال لمسرحية ليقرأ مختلف النصوص الأدبية وغيرها. كتاب «تمارين فى الأسلوبية»، والذى كان موجها فى الأصل لتعليم طرق الكتابة السردية، أوحى لمخرجين آخرين بعروض مسرحية نرى اليوم أعمالهم على اليوتيوب. كما الكيميائى الذى يغير محيط العناصر التى يتعامل معها للحصول على نتائج مختلفة، اختار أحد المخرجين نقل النص إلى سياق يضمن له التنويع فى السرد، فكان مركز الشرطة هو مكان السرد. حدث أو مشادة حضرها أكثر من شخص، يتحولون إلى شهود فى قضية ليجد المحقق أن كل واحد منهم يسرد القصة نفسها بشكل مختلف. قصة الرجل الذى ركب الباص ونزل فى محطة قطار وصادف صديقا وتحدثا عن زر فى البالطو. الرجل الأفريقى يتحدث بلكنته والمرأة تدخل فى تفاصيل جانبية والرجل العربى يتميز بزيه ليروى القصة كما رآها أو كما يعتقد.

«تمارين فى الأسلوبية» نموذج على أن العمل الأدبى والفنى هو عمل إنسانى يتوارثه المبدعون وإن استقى مسرحيو اليوم عروضهم من كتاب (RaymodQueneau) فإن هذا الأخير قد ألف كتابه عام 1947 مستفيدا من مؤلفات سابقة تعود إلى بداية القرن السادس عشر وتبحث فى جماليات الخطاب وطرق التنويع فى التعبير وإعادة تأليف نصوص مكتوبة من قبل وصبها فى سياق جديد. هذا العمل يعود إلى العام 1512 ومقسم إلى كتابين تحت العنوان «أساسيات غزارة الأسلوب» (Copia: Foundations of the Abundant Style) لمؤلفه الهولندى (Desiderius Erasmus) الذى أتصور أنه لم يتخيل أن دروسه ستنفذ مسرحياً.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *