المسرح العالمي ينتصر للطروحات الحداثية بتقنيات سينمائية


شهد عام 2016 المسرحي في فرنسا عروضا متنوعة تلبي كافة الأذواق، منها الكلاسيكي الذي يستند إلى الأسماء الكوميدية والتراجيدية الكبرى كموليير وراسين وكورناي وشكسبير، ومنها المعاصر الذي صار في عداد الكلاسيكيات كأعمال تشيخوف وأوسكار وايلد ويونسكو وصامويل بيكيت ونورمان ميلر وتينيسي ويليامز، ومنها ما استند إلى نصوص سردية لكتاب كبار كفلوبير وستيفان زفايغ وجول رونار، إلى جانب عودة قوية لمسرح الفودفيل، سواء باستحضار أعمال الكلاسيكيين كجورج فايدو وأوجين لابيش وساشا غيتري، أو بأعمال مستجدة تنهل من النبع نفسه، لجيل من المؤلفين الجدد أمثال فلوريان زيلر وجان ديل وجيرالد سيبليراس وكلووي لامبير.
حفلت السنة المسرحية الفرنسية في 2016 بالعديد من الأعمال الكلاسيكية وأخرى مستجدة، إلاّ أننا اخترنا في هذه الورقة التوقف عند الأعمال الراسخة ذات الطرح الحداثي، والأعمال التي شكلت إضافة جادة، سواء من جهة نص الانطلاق، أو من جهة الابتكار في الإخراج، أو من كليهما.
 
أسماء مكرسة
 
في مسرحية “سبلنديدز” التي تكشف بطريقة موحية خبايا الحياة داخل السجون، بدا جان جينيه (1910/1986) متأثرا بالأفلام البوليسية الأميركية الكلاسيكية، حيث يمتزج الحب بالعنف، والتنافس بالغيرة، والمكابرة بالتحدي، ويكون السلاح فيصلا في الحرب التي تضع وجها لوجه الخارجين عن القانون والبوليس، وعادة ما تُجمّل النهاية المحتومة، إما ببطولة ملحمية، وإما باقتناع أحد ممثلي القانون بمشروعية تمرد من يعتبرهم المجتمع منحرفين، وغالبا ما ينظر إلى أولئك الخارجين عن القانون من زاوية تجلب التعاطف نحوهم، لا سيما إذا كانوا حسان الخلقة أو ذوي بنية جسدية لافتة.
تحتوي المسرحية على كل العناصر التي تجعل منها فيلما بوليسيا: الأسلحة، والكلام المتبادل، والعضلات المفتولة، والوشم الذي يغطي الأجساد، والشرطي المتسلل بينهم خفية، والأخبار التي يبثها الراديو عنهم وعن الشرطة التي تطوق المكان بكل العتاد اللازم، هي دراما إذن تقوم على التوتر والانتظار، انتظار هجوم محتوم، خصوصا بعد أن قتل المنحرفون الرهينة.
في هذا الزمن المعلّق، تدور أحداث المسرحية فيبدو الأبطال ميتين في وجه من الوجوه، لأنهم وضعوا أنفسهم داخل سجن ليس دونه إلاّ الموت، بل هو الموت نفسه في نظر جينيه. اختار المخرج أرتير نوزيسيال بهذا العمل الذي لم يعرض سوى مرة واحدة عام 1995، تكريم روح جينيه، وشفعه بعمل ثان بمثابة المقدمة، وهو شريط قصير صامت بالأسود والأبيض بعنوان “أنشودة حب” كان جينيه أعده عام 1950، لكونه يصوّر حياة المساجين وأنواع الكبت التي يعانونها، ما جعله محظورا على من هم دون سنّ الـ16.
ومن ثمّ كانت الشاشة قائمة في مقدمة الخشبة، ما جعلها تسد الأفق، وتمنع المتفرج من تبيّن ما وراءها من ديكور، وقد أرادها المخرج دلالة على انغلاق السجين داخل زنزانة، حيث لا يجد له من منفذ لاختراق جدرانها سوى التخيل، وهو ما عاشه جينيه نفسه، إذ استطاع بفضل مخيلته أن يتجاوز قضبان حبسه إلى عوالم متخيلة، ليصوغ أعمالا خلّدت ذكراه.
“الشريط الأخير” أو “شريط كراب الأخير” في الأصل الإنكليزي، مسرحية كتبها بيكيت (1906/1989) في نطاق اشتغاله على استقطابية الكتابة الدرامية، بين مسرحيات كوريغرافية تتجسد فيها الحركة وحدها وسط غياب كلي للمنطوق، وتمثيليات إذاعية تعتمد على الكلمات فقط ولا وجود فيها للحركة، فكانت هذه المسرحية مزاوجة بين ذينك القطبين ضمن عمل واحد، ولو أن الاقتصاد في الكلام وفي الحركة يطغى عليها.
وقد نهض بأدائهاعملاقان من عمالقة المسرح في أوروبا، هما المخرج الألماني بيتر شتاين والممثل الفرنسي جاك فيبر، اختار شتاين أن يكون كراب حاضرا على الخشبة قبل دخول الجمهور إلى القاعة، في هيئة تذكّر بفلاديمير وإستراغون في مسرحية “في انتظار غودو”، سواء من جهة لباسه أو من جهة بعض حركاته، وإن بدا الحيز الزمني هنا أكثر واقعية. وكراب، كما يقدمه لنا بيكيت، عجوز وحيد أشعث الشعر مشوش الهندام متهالك على مكتبه، على يمينه آلة تسجيل، وعلى يساره مكبّر صوت، ينتظر الظلمة كي يقوّم جذعه وينهض لتسجيل “الشريط الأخير” مثلما اعتاد أن يفعل في عيد مولده كل عام.
وتلك طريقة لمحاورة الرجل الذي كان، واستعادة النسخة الصوتية الأصلية لحياة طافحة بالآمال الخائبة، والعلاقات الغرامية البائدة، والإشراقات الخاطئة، وقد نجح المخرج في إيجاد توتر دائم بين الحاضر والماضي، بين صوت العجوز الحيّ وصوت الشاب المسجّل، وحركات الممثل المضحكة وزمجرته وأنينه.
ساعده بقدر كبير أداء الممثل
القدير جاك فيبر، الذي استطاع أن ينقل غموض ذلك الرجل العجوز وهو يواجه أحلامه الماضية، ووحدته التي تسير بنفسها إلى النهاية، في تكشيرته وتذمره وأنّاته وحسراته التي تأتي في الغالب في شكل تلميح يدركه المتفرج الفطن، فيحس بألمه ويتعاطف معه.
وتأتي “رافعة الأطباق” لهارولد بنتر (1930/2008) مسرحية بنيت على غرار أفلام الرعب والجاسوسية، بطلاها رجلان يلفهما الغموض، لا نعرف عنهما إلاّ أن الأول يدعى بن والثاني يدعى غوس، ولا ندري هل هما حارسا دهليز أم حارسان ليليّان أم قاتلان مأجوران.
ولا نستدل على المكان الذي يوجدان فيه، فهو فضاء مغلق به سريران بسيطان، قد يكون غرفة فندق، أو قاعة تابعة لمطعم تحت الأرض، يقبع فيه هذان الرجلان ليهرفا بكلام مشوش عن أمور الحياة المعتادة، والثابت أنهما في حالة انتظار.
يفلح المؤلف في خلق جوّ مشحون بالترقب، على غرار مسرح بيكيت، ولكن دون القوة التراجيدية والميتافيزيقية التي تطبع مسرحية “في انتظار غودو”، فالوقت هنا أيضا يمضي، ولكن حركة الرجلين تبدو معلّقة في معنى لا يتحقق، فلا مكان هنا لغوص في نفسية هذا الفرد أو ذاك، إذ يكتفي بينتر بخلق جو ضبابي ملؤه الضجر والفراغ.
البطلان هنا غائبان عن نفسيهما وعن العالم، عاجزان عن مواجهة خطر لا يدركان كنهه، ويبلغ التوتر ذروته بظهور رافعة أطباق، كشخصية ثالثة خطرة وبلا وجه، وإذا سلطة لا مرئية ممثلة في هذه الآلة التي تبعث إليهما بطلبات أطعمة عبر هاتف داخلي.
وقد نجح جاك بوديه ومكسيم لومبار في نقل ملامح هذه الفئة من الناس التي تبث الرعب في النفوس: فهي محدودة الذكاء، محرومة من الشك الوجودي، لا تملك إلاّ طبعا فظا، يحتد عند أول إحساس بالاعتراض على ما تقترح، ولو في أمور تافهة، ولكنها يمكن أن تكون خطرة إذا ما جُعلت لخدمة أيديولوجيا أو قضية إجرامية أو إرهابية.
في هذه المسرحية يضعنا بنتر أمام عبثية وضعية لا تنفك تتأزم عبر مواقف هزلية وأخرى سوريالية، ويزداد التوتر حدة بظهور رافعة الأطباق المفاجئ وصوت الهاتف الداخلي الذي يصدر أوامر غامضة، كناية تراجيدية عن سلطة بلا وجه.
يقول المخرج كريستوف غاند “النفوذ في قلب الحدث: قائد لا يُرى يعطي أوامر غريبة يرمز لها برافعة أطباق، تبدو ذات سلطة لا تناقش، هذه الشخصية الثالثة غير المنتظرة تكسر قواعد صحبتهما، فتبدو مهمتهما، وهي غاية وجودها في ذلك الفضاء المغلق، تقودهما نحو نهاية يجهلانها، رغم أنها في نظرهما محتومة، المسرحية في رأيي رمز غير زمني لنزع الطابع الإنساني عن السلطة”.
 
تجارب فرنسية جريئة
 
كيف يمكن أن نجعل من سجين لم يمارس التمثيل قط ممثلا كفؤا؟ وكيف يمكن لممثل قاتل أن ينهض بالمهمة؟ وكيف يمكن أن يتم ذلك داخل زنزانة تضمّ ثلاثة مساجين يعانون ما يعاني أمثالهم في مثل تلك الظروف التي تفقد الإنسان إنسانيته، فضلا عن ولعه بالفنّ؟ إمكانات مثلت المحاور الرئيسية لعمل مسرحي خارج عن المألوف عنوانه “تمثيل”، صاغه وأخرجه غزافييه دورانجيه الذي جمع بين التأليف والإخراج المسرحي والإخراج السينمائي والتلفزيوني، فضلا عن كتابة السيناريو والفيديو كليب.
وخلاصته أن أحد السجناء طلب من رفيقه في الزنزانة، الذي كان ممثلا ومخرجا قبل أن يسجن عن جريمة قتل، أن يجعل منه ممثلا، فلا تلبث الزنزانة أن تتحول إلى ورشة للإنتاج الدرامي، قطباها رجل مسرح يتحدث عن شكسبير وتشيخوف وستانيسليفسكي وأورسن ويلز، ومبتدئ لا يملك من الثقافة المسرحية أدنى زاد، ولا يطمح إلاّ في أن يصبح نجما من نجوم هوليوود.
والمسرحية دعوة ذكية إلى التفكّر في مفهوم المسرح ومهنة التمثيل، من جهة الأستاذ حينا، ومن جهة التلميذ حينا آخر، فكلاهما ينظر إلى المسألة من زاوية معينة، وهذه الزنزانة التي تحولت إلى مسرح، هل هي كناية على أن المسرح فرصة أمام الإنسان كي يهرب من وضعه ليحلق في عوالم أخرى، أم هو في وجه من الوجوه زنزانة استعارية ينغلق الإنسان داخلها ليوهم نفسه، ولو لزمن محدود، بأنه تجاوز مشاكله الراهنة؟ وانطلاقا من بعض أعمال الألماني، فالك ريختر، صاغ سيريل تيست عملا مذهلا بعنوان “لا أحد” جمع بين المسرح والتقنية السينمائية، وفق إخراج بديع جعل بين الجمهور والخشبة حاجزا بلوريّا، تبدو وراءه مكاتب بها موظفون بكمبيوترات نقالة وآلة ناسخة وقاعة اجتماعات. وفوق تلك الفرجة البلورية شاشة يظهر عليها منذ البداية ميثاق هذا العمل المبتكر الذي يحوي سبع نقاط، استهل بالمقولة التالية “مع الإجراء الفيلمي، نعرض على الخشبة كتابة سينما زائلة، لا توجد إلاّ في حاضر المسرح”.
ثم يبدأ العرض الحيّ خلف الحاجز البلوري، وينتقل مباشرة عبر تصويره بالكاميرا إلى الشاشة، أي أن المتفرج الجالس أمام الحاجز يشاهد الممثلين على الخشبة وعلى الشاشة في الآن نفسه.
الجديد في هذه التقنية أن كل شيء مباشر، التمثيل والتصوير والمونتاج وميكساج الصوت والموسيقى، أي أن الممثلين يؤدون أدوارهم أمام الجمهور وأمام الكاميرا في الوقت ذاته، وكما في السينما، تتركز الكاميرا على وجه أو وضعية أو حوار، فيما يظل الأشخاص الآخرون يؤدون أدوارهم خارج الحقل، وما يخامر أذهان بعضهم أحيانا يرد في شكل صوت خارج مجال العدسة.
ولا يلبث المتفرج أن يلفي نفسه أمام جوّ خانق، يتبدى خلاله صراع صامت بين مختلف العاملين بالمؤسسة، حيث يحاول كل واحد أن يسحب البساط إليه، بالنميمة والعرقلة والتزلف، وتتجلى موازين القوى في أجلى مظاهرها بين من يخول له مركزه التعالي على زملائه ومخاطبتهم بجفاء، ومن يحتم عليه مركزه الوضيع التخاذل والتصاغر أمام من هم فوقه مرتبة.
والغاية هنا غايتان، غاية مؤسسة لا همّ لها إلاّ الكسب، لا تتردد في إعادة الهيكلة حفاظا على قدرة التنافس في السوق، وغاية موظفين همهم الوحيد المحافظة على مورد رزق، واستعمال كل الوسائل، حتى غير الأخلاقية منها، لتجنب الطرد، والطمع في الترقي ولو على حساب زميل.
في “إدمون” يستحضر المؤلف والمخرج المسرحي اللامع، ألكسيس مشاليك، ظروف تأليف إدمون روستان (1868 /1918) مسرحيته الشعرية الشهيرة “سيرانو دو برجوراك”، خلال بضعة أيام، تلك المسرحية التي تعهد في مطلع ديسمبر 1897 بإعدادها لأعياد آخر العام نفسه، ولم يكن في ذهنه عنها سوى العنوان، أي أن المتفرج يشاهد مسرحيتين؛ الأولى تنطلق من وقائع حقيقية بطلها إدمون رسوتان، ولم يتعدّ وقتها الثلاثين، مع زوجته روزموند وولديه، والثانية متخيلة بطلها سيرانو الذي يقال إنه شخص حقيقي عاش في القرن الـ17، وحبه العميق لروكزان، ذلك الحب الذي بدا مستحيلا بسبب شوهة خلقية في أنف سيرانو، وتعلق روكزان برجل آخر دونه ثقافة وصدقا في العواطف
والانتقال بين الواقع والمتخيل يجري على نسق سريع، ما يجعل الأحداث تختلط، وتتمازج بشكل يسمو بها إلى مناطق الحلم.

“إدمون” هي إخراج مسرحي حديث لإخراج مسرحي كلاسيكي، تتناوب فيه المشاهد بين مسرحية “إدمون” وبين مسرحية “سيرانو” التي يؤديها الممثلون أمامنا، أي أنه مسرح داخل المسرح، عالجه ميشاليك بمهارة عبر إيقاع مدروس، يتوخى المشاهد القصيرة، والخطابات الموجزة، والإيحاءات الدالة، وتغيير الديكور في لمح البصر، مضفيا على العرض روحا مرحة من خلال مواقف مضحكة، كفواصل بين زخم من الأحداث والشخصيات قد يتيه فيه المتفرج.
وكما هو الشأن في مسرحيتيه السابقتين “حلقة المخادعين” و”حامل الحكاية”، يعتمد ميشاليك على إخراج أقرب إلى التقنيات السينمائية، من جهة تعدد تغيير الديكور في أوقات قياسية، واستعمال المؤثرات الصوتية والخدع السينمائية والموسيقى التصويرية.
————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – أبو بكر العيادي – العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *