المسرح التونسي : مائة عام من الفن و الفرجة

 

تتمثل خصوصية الحركة المسرحية التونسية في عراقتها و في ريادتها في التأسيس و الفعل عربيا و إفريقيا و التي تتواصل على مدى أكثر من قرن من الزمن ، حركة تطورت مع التطورات السياسية و الاجتماعية التي عرفها المجتمع التونسي و مثلت طيلة هذه الفترة دعامة أساسية من دعائم الحركة الفنية و الثقافية في تونس و عنصرا فعالا في محاولات التغيير رغم سعي السلطة في كل الفترات إلى تدجينه و تدجين الفاعلين فيه .

البدايات :

بدأت تونس في التعرف على المسرح الأوروبي خاصة منه الايطالي منذ أوائل القرن 19 حيث تثبت الوثائق التاريخية قدوم فرقة مسرحية ايطالية من البندقية إلى تونس سنة 1826 و تقديم بعض العروض للجالية الايطالية في تونس طيلة موسم كامل .

كما حل بتونس الجوق المصري سنة 1908 بقيادة سليمان قرداحي وقدم بعض العروض في كل من سوسة و صفاقس و العاصمة و القيروان لمسرحيات » صلاح الدين الأيوبي » و » هاملت » و » عطيل » و » هارون الرشيد » و » روميو و جوليات » و إثرها استقر قرداحي بالعاصمة ليقدم عروضه بمسرح روسيني ( سينما البالاص حاليا ) بانتظام كل جمعة و سبت و أحد .

بقدوم قرداحي شاهد الجمهور التونسي لأول مرة تمثيل الرواية العربية على المسرح و التي كان يحضرها الامراء و كبار الموظفين و الأعيان و الأدباء .

ولادة المسرح التونسي :

في الثاني من جوان سنة 1909 صعد مجموعة من الممثلين التونسيين على الركح لأول مرة و هم محمد بورقيبة و محمود بوليمان و احمد بوليمان و الهادي الارناؤوط و محمد بن تركية و محمد الحجام ، و كانوا ينتمون إلى الجوق التونسي المصري الذي تأسس بعد وفاة سليمان قرداحي وقدموا مسرحية » صدق الإخاء » بالاشتراك مع ممثلين مصريين .

و في الثاني و العشرين من سنة 1910 تم تأسيس أول جمعية مسرحية و هي جمعية » الشهامة الأدبية » التي لم تتوفق في تقديم عملها المسرحي الأول لتتأسس في فترة لاحقة جمعية » الآداب العربية » و تقدم مسرحية صلاح الدين الأيوبي يوم 7 افريل 1911 .

و في الجهات تأسست اول فرقة مسرحية في مدينة بنزرت سنة 1923 و هي فرقة » النهضة التمثيلية العربية ، مدنين عرفت المسرح عن طريق » فرقة الشبيبة الورغمية » سنة 1930 ،كما عرفت القيروان تأسيس فرقة الاغالبة من طرف إبراهيم القديدي سنة 1933 ، صفاقس شهدت أيضا ميلاد فرقة » التاج » سنة 1933 و « النجم المسرحي » سنة 1934 و » الهلال الصفاقسي « سنة 1936 ، كما تاسست بالمهدية فرقة » التمثيل » سنة 1922 و » الشباب الناهض « سنة 1931 و » الناشئة الأدبية » سنة 1933 ، سوسة أيضا عرفت » فرقة الجوق التمثيلي الاكودي » 1949 كما انبعثت في المنستير فرقة » المنستيري » سنة 1936 و » جمعية المسرح المنستيري » 1937 ، قابس تكونت فيها فرقة » النهضة التمثيلية » سنة 1936 و في توزر تأسست فرقة » الينبوع » سنة 1937 كما تكونت » فرقة الشباب التمثيلي في قفصة سنة 1937 .

كما تأسست فرق مسرحية أخرى في بعض المناطق و التي ساهمت في نشر الوعي المسرحي و كذلك في إذكاء روح التحرر الوطني و مقاومة الاحتلال بأشكال مختلفة .

أول فرقة مسرحية محترفة في تونس :

تكونت الفرقة البلدية بصفة رسمية بمقتضى قرار بلدي مؤرخ في 25 جانفي 1955 و كلف المسرحي المصري زكي طليمان بتسييرها فنيا في مرحلتها الأولى و أسندت إدارتها إلى محمد عبد العزيز العقربي و هي اول فرقة عاشت تجربة الاحتراف و قع انتقاء نخبة من الممثلين البارزين آنذاك لتأثيث الفرقة و هم الطاهر بالحاج و احمد التريكي و حمدة بالتيجاني و عز الدين السويسي و الهادي السملالي و حمادي الجزيري و الزهرة فايزة كما انضم اليها في فترة لاحقة جميل الجودي و نور الدين القصباوي و رشيد قارة و منى نور الدين و علي بن عياد الذي تولى إدارتها سنة 1963 الذي عرفت الفرقة في عهده تطورا و تغييرا في الأداء و في الإنتاج . ومن الأسماء الأخرى التي أشرفت على إدارة الفرقة نجد محمد كوكة والبشير الدريسي ومنى نورالدين وغيرهم وعلى امتداد مسيرتها قدمت فرقة بلدية تونس للتمثيل عديد الأعمال المسرحية الخالدة: تاجر البندقية، هملت، عطيل، أنطيقون، الماريشال، ثورة صاحب الحمار، مراد الثالث، كاليغولا..

أول مدرسة لتمثيل في تونس :

في فيفري 1955 تأسست مدرسة التمثيل العربي كمدرسة مستقلة تتحصل على منحة سنوية من ادارة العلوم و المعارف ثم من كتابة الدولة للتربية القومية و تعطي دروسا ليلية ، و قد تخرج منها عدد هام من الممثلين و الممثلات .

و في أكتوبر 1959 تم تأميم مدرسة التمثيل العربي و أصبحت فرعا من المعهد القومي للتمثيل و الرقص و الموسيقى تعطي دروسا يومية كغيرها من المدارس العمومية و منها تخرج المرشدون المسرحيون من حاملي شهادة الفن المسرحي الذين تم توزيعهم على ولايات الجمهورية لتسيير الفرق المسرحية المدرسية و تنشيط الحركة المسرحية داخل الولايات .

في أكتوبر 1965 تحولت مدرسة التمثيل العربي الى مركز للفن المسرحي تابع لمصلحة المسرح و تنقسم المواد التي يتلقاها الطلبة الى قسم نظري و قسم تطبيقي .

و في أكتوبر 1982 تحول المركز إلى معهد عال للفن المسرحي تحت إشراف مزدوج لكل من وزارة الثقافة و وزارة التعليم العالي يستقبل حاملي شهادة الباكالوريا تستغرق فيه الدراسة أربع سنوات ، و إضافة إلى التكوين الأساسي يضطلع المعهد بالتكوين المستمر لإطارات المسرح المباشرين كما يساهم في النهوض بالبحث التطبيقي في مجالات التكوين و التنشيط و الوسائل التربوية المسرحية .

في أكتوبر 1998 تحولت المؤسسة إلى وزارة التعليم العالي لتمثل مخبرا هاما لتجارب مسرحية كثيرة قام بها الطلبة بتاطير من الأساتذة و بمشاركة حرفيين كثيرين .

مسرح الدولة الحديثة :

مع دولة الاستقلال اتخذ المسرح موقعا هاما في المشهد الثقافي مواصلا بذلك مسارا مختلفا عما كان في الفترة السابقة سواء من خلال المسرح الهاوي أو من خلال المسرح المحترف في الفرق العمومية في العاصمة و الجهات أو من خلال المسرح الخاص الذي مثل نقلة نوعية للمسرح التونسي بواسطة نخبة من الفنانين سواء منهم من تكونوا في المدرسة التونسية أو من تلقوا تكوينا في الخارج و جاؤوا محملين بأفكار و معارف جديدة و برؤى مختلفة لفن المسرح .

و إلى جانب الفرقة البلدية بالعاصمة تكونت عدة فرق محترفة بصفاقس و الكاف و سوسة و القيروان و قفصة و نابل و المهدية و زغوان و بنزرت و هو ما مثل نقلة في مستوى الإنتاج المسرحي من حيث الكم و الكيف و جعله يتماشى مع الواقع التونسي و قدمت انتاجات عديدة متفاوتة المستوى و ساهمت بدرجة كبيرة في إثراء المشهد المسرحي و تكوين جمهور متابع للحركة المسرحية ، و في سنوات التسعينات تحولت الفرق الجهوية الى مراكز للفنون الركحية و الدرامية في كل من الكاف و قفصة و صفاقس و مدنين و القيروان لمزيد استقطاب المسرحيين المحترفين و تمكينهم من آلية العمل و الإنتاج .

كما يعد انبعاث المسرح الوطني التونسي سنة 1984 مرحلة هامة من مراحل تاريخ المسرح التونسي العمومي فبعد اعتماد اللامركزية توجه الاهتمام إلى خلق إطار عمومي مركزي بطموحات اكبر و إمكانيات أهم خاصة بعد تعثّر الكثير من الفرق المسرحيّة التونسيّة، وتراجع إنتاجها، وكان الهدف من بعثه تطوير الخطاب المسرحيّ في تونس وفتحه على آفاق تعبيريّة وفنيّة جديد ة .

مسرح الدولة الحديثة كانت مساهمته جادة في بناء دولة ما بعد الاستقلال و في محاولة تثقيف و تطوير المجتمع ، كما اسس هذا المسرح لوجود قاعدة جماهيرية متابعة للشأن المسرحي خاصة في المناطق الداخلية كما مثل ايضا في بعض الاحيان » العين الناقدة » للواقع و للسلطة التي التجأت في بعض الفترات الى الرقاية الصنصرة .

من العمومي إلى الخاص :

بولادة جيل جديد من المسرحيين في أواخر ستينات و أوائل سبعينات القرن الماضي ، جيل له معارف و رؤى جديدة للمسرح و للثقافة بصفة عامة و للواقع السياسي و الاجتماعي كان لا بد من اتخاذ سبل و طرق جديدة للفعل المسرحي حيث مثل تأسيس فرقة المسرح الجديد سنة 1975 نقلة نوعية و مرحلة جديدة في تاريخ المسرح التونسي ، حيقا قدمت مجموعة من المسرحيين الشبان تتكون أساسا من الفاضل الجعايبي و محمد إدريس و جليلة بكار و الفاضل الجزيري و الحبيب المسروقي على الشروع في العمل وفق مقاييس جديدة و تنظير جديد للخطاب المسرحي و آلياته و للعلاقة التي تربط المنتج بالدولة و أنتجوا أعمالا مثلت نقلة فنية فارقة في الخطاب المسرحي في تونس .

بعد المسرح الجديد عرف نسق ظهور هياكل الإنتاج المسرحي الخاصة حيوية كبيرة حيث تكونت الفضاءات الخاصة و شركات الإنتاج الخاصة و هي الآن بالعشرات إلا أن الإمكانيات المحدودة لهذه الهياكل و انعدام فضاءات التمارين و التوزيع الخاصة جعل أعمالها متفاوتة و بقيت في اغلبها مرتهنة لدعم الدولة الذي لم يرقى رغم أهميته لإنتاج أعمال ضخمة و ذات قيمة فنية عالية لأغلب هذه الهياكل .

أيام قرطاج المسرحية :

تبلغ أيام قرطاج المسرحية هذه السنة دورتها الثامنة عشر و هي أهم تظاهرة مسرحية في تونس ، حيث تأسست سنة 1983 كمهرجان دولي يقام كل سنتين على غرار أيام قرطاج السينمائية يساعد على تطويرالفنون المسرحية العربية و الافريقية و ذلك باستجلاب العروض التي تمثل نسق تطور بلدانها و تعبر عن واقعها الفني و الثقافي و الاجتماعي ، كما يدعم المهرجان التجارب الرائدة و البحوث المتقدمة في مجال المسرح مع إذكاء روح التنافس بين المسرحيين العرب و الأفارقة .

و كان المهرجان يقوم على مسابقة رسمية تمنح ضمنها جوائز إضافة إلى العروض الموازية و الندوات المختصة التي تهتم بالراهن المسرحي و الدورات التدريبية و الفقرات التنشيطية المتنوعة إلى جانب تكريم المبدعين المسرحيين التونسيين و الأجانب .

و في فترة لاحقة تم الاستغناء عن الجوائز على اعتبار أن التظاهرة هي بالدرجة الأولى فرصة لاتقاء الفنانين و عرض تجاربهم خارج اطر المنافسات و قد تحولت منذ الدورة الفارطة إلى موعد سنوي عوض تنظيمها كل سنتين .

هل استفاد المسرح التونسي من الثورة :

على أهميته و جديته و ريادته خاصة في المنطقة العربية كان المشهد المسرحي يرزخ تحت وطأة السلطة قبل 14 جانفي ، التي تتحكم فيه و تحاول تطويعه من خلال مسألة الدعم العمومي أو من خلال سلطة الرقابة و مع ذلك كان المسرح التونسي في جزء منه يستشرف الواقع و يحاول طرح القضايا الأساسية و الهامة و ثوريا في طرحه و في آليات بحثه .

و لعل طفرة الحرية التي ظفر بها بعد الثورة مازال الوقت لا يسمح بتقييمها لان الفن الحقيقي على اهمية علاقته بالواقع لا بد له من بعض الوقت لتقييم الواقع و جعله مادة فنية عميقة خارج نسق الاثارة و » الانتهازية » الفنية .

—————————————————————————————–

المصدر: مجلة الفنون المسرحية – محمد سفينة – مجلة الحياة الثقافية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *