المسرح التونسي بين الـتأسيس والتجريب والتأصيل

جميـــل حمـــداوي

 المسرح التونسي بين الـتأسيس والتجريب والتأصيل

الطبعة الأولى سنة 2006م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

لوحة الغلاف : مسرح الجم الروماني

الإهـــــــــداء

أهدي هذا العمل المتواضع إلى أخي العزيز الناقد والأستاذ الجامعي التونسي المتميز حافظ الجديدي.

الفــــهـــرس

الإهــــــداء

المقدمـــة………………………………………………………………….6

الفصل الأول: تاريخ المسرح التونسي بين الماضي والحاضر………..8

المبحث الأول: بدايات المسرح الأمازيغي بتونس……………………….9

المبحث الثاني: مرحلة الركود إبان الفتوح الإسلامية………………….17

المبحث الثالث: المرحلة الفطرية التراثية إبان العثمانييين……………..19

المبحث الرابع: المسرح التونسي إبان التواجد الاستعماري……………29

المبحث الخامس:  مرحلة التأسيس والتثبيت…………………………..31

المبحث السادس: مرحلة التجريب والتأصيل………………………….36

الفصل الثاني:  المسرح التونسي والثورة على الفضاء الركحي……..39

المبحث الأول: بيان الأحد عشر ………………………………………..40

المبحث الثاني: المنصف السويسي وتثوير الفضاء المسرحي…………42

المبحث الثالث: عز الدين المدني وتنويع الأركاح……………………..44

المبحث الرابع: فرقة المسرح الجديد ………………………………….50

المبحث الخامس: المسرح المثلث وفضاء الصورة……………………55

المبحث السادس: الفاضـــل الجزيري والفضاء الصوفي …………….57

المبحث السابع: توفيق الجبالي والفضاء الفرجوي…………………….60

الفصل الثالث: المسرح التراثي عند عزالدين المدني………………….63

المبحث الأول: التصــور النظـــري…………………………………….64

المبحث الثاني: المرجعيــات النظريــة…………………………………68

المبحث الثالث: موقــف عزالدين المــدني من التــراث………………..69

المبحث الرابع: أنواع التراث في مسرح عز الدين المدني…………….73

المبحث الخامس: : آليــات التعامــل مع التــراث…………………….76

المبحث السادس: الإنتــاج المســرحي…………………………………81

الخاتمــــة………………………………………………………………..83

ثبت المصادر والمراجع…………………………………………………87

الفهــــرس

المقدمـــــة

تعد تونس من الدول المغاربية البارزة في مجال المسرح كتابة، وتأليفا، وتمثيلا، وتأثيثا، وإخراجا، ونقدا، وتنظيرا. ومن ثم، فقد عرف المسرح التونسي، طوال تاريخه، مجموعة من المراحل الفنية والجمالية والدرامية الأساسية التي يمكن حصرها في المراحل التالية:

Œمرحلة المسرح الأمازيغي إبان التواجد القرطاجني والروماني؛

 مرحلة الفتوحات الإسلامية وركود المسرح التونسي؛

Ž مرحلة التجارب الفطرية التراثية مع الأتراك العثمانيين؛

 مرحلة تغريب المسرح التونسي إبان الاحتلال الفرنسي؛

 مرحلة النشأة والتأسيس والتثبيت؛

‘ مرحلة التجريب والتأصيل.

وقد عرفت تونس مرحلة تجريبية وتأصيلية متميزة بفضل مخرجيها المسرحيين المتميزين عربيا ودوليا، كعز الدين المدني، والمنصف السويسي، والفاضل الجعايبي، و الحبيب شبيل، والفاضل الجزيري، وجليلة بكار، ومحمد إدريس، والحبيب المسروقي، وتوفيق الجبالي…

ومن بين النظريات المسرحية المعروفة عربيا نظرية المسرح التراثي مع عز الدين المدني، ونظرية المسرح الجديد، ونظرية المسرح المثلث…وقد استفادت هذه النظريات من التصور الاحتفالي من جهة أولى، والدعوة إلى توظيف التراث المحلي والشعبي الأصيل من جهة ثانية، والاستفادة من التقنيات المسرحية التي استعملتها الكتابة السردية الموروثة من جهة ثالثة، والانفتاح على التجارب المسرحية الغربية المعاصرة من جهة رابعة. وإن كان  الطاهر قيقة من الدعاة الأوائل للشباب التونسي إلى توظيف التراث في المسرح، حيث كان ينصحهم بالالتفات” إلى التراث القصصي العربي، ويستنبطوا منه أشكالا فنية تخدم المسرح. عرض عليهم أن يفيدوا من شخصية الراوية في هذا التراث.هذا الذي كان يجلس على منصة عالية جدا، ومعه عصا طويلة يرد بها المتخاصمين والمتناحرين حول أبطال السير الشعبية، ويمنعهم أن يقتتلوا حول مصائر الأبطال، ويدافع بها أيضا عن نفسه حين تقضي وقائع السيرة أن ينتصر بطل على بطل، فيثور أنصار المهزوم، ويهمون بأن يضربوا لا خصومهم وحسب، بل والراوية أيضا”.1

وعلى العموم، يتناول كتابنا هذا مجمل التجارب المسرحية في تونس من لحظة النشأة والتأسيس والتثبيت إلى لحظة التجريب والتأصيل. مع العلم أن تلك التجارب المسرحية التونسية كانت تستفيد من التراث العربي الإسلامي (الأصالة) من ناحية ، ومن المسرح الغربي(المعاصرة) من ناحية أخرى.

إذاً، ما أهم المراحل التي عرفها المسرح التونسي طوال تاريخه الطويل؟ وما أهم القضايا التي تناولها هذا المسرح؟ وما أهم تجليات التجريب والتأصيل في هذا المسرح؟ وما خصوصياته الفنية والجمالية والتقنية والسينوغرافية والإخراجية؟

هذا ما سوف نركز عليه في كتابنا هذا الذي خصصناه للمسرح التونسي من لحظة النشأة والتأسيس والتثبيت إلى لحظة التجريب والتأصيل والبحث عن الجديد، متمنيا أن يلقى هذا الكتاب المتواضع بعض الرضا عند قرائنا الأعزاء في الوطن العربي بصفة عامة، وقراء تونس بصفة خاصة. وأتمنى لنفسي النجاح والتوفيق بمشيئة الله وهدايته وعنايته الكريمة.

الفصل الأول:

تاريخ المسرح التونسي بين الماضي والحاضر

عرف المسرح التونسي، طوال مسيرته التاريخية الطويلة، مجموعة من المراحل الفنية والجمالية والدرامية التي يمكن حصرها في ما يلي:

Œمرحلة المسرح الأمازيغي إبان التواجد القرطاجني والروماني؛

 مرحلة الفتوحات الإسلامية وركود المسرح التونسي؛

Ž مرحلة التجارب الفطرية التراثية مع الأتراك العثمانيين؛

 مرحلة تغريب المسرح التونسي إبان الاحتلال الفرنسي؛

 مرحلة النشأة والتأسيس والتثبيت؛

‘ مرحلة التجريب والتأصيل.

المبحث الأول: بدايات المسرح الأمازيغي بتونس

عرفت تونس المسرح منذ فترة مبكرة ضمن ما يسمى بالمسرح الأمازيغي. بعد أن شهدت تمدنا واسعا لافتا للانتباه شمل جميع مرافق الدولة. وحققت أيضا ازدهارا حضاريا كبيرا في ظل الفنيقيين، والقرطاجنيين، والرومان، والأمازيغ. كما تأثرت تونس بالثقافة اليونانية من جهة، والثقافة المصرية الفرعونية من جهة أخرى.

ويعني هذا أن المسرح التونسي قد تشكل منذ المرحلة الرومانية كما يرى الباحث التونسي عثمان الكعاك:” إنما نشأ المسرح التونسي لأول مرة على عهد الرومانيين. أي: منذ عشرين قرنا عندما أقبل سراة القوم والنخبة المفكرة وعامة الجماهير على المسارح التي أنشأها الخواص أو المجالس البلدية في كل مدينة من المدن التونسية.2″

وما وصل إلينا من آثار التمثيل الأمازيغي إلا القليل منه بسبب ضياع الكثير من البصمات المسرحية التي تدل على الحركة المسرحية الأمازيغية.وفي هذا، يقول عثمان الكعاك:” لانعلم أن للبربر  تمثيلا وهم أقدم سكان شمال أفريقيا، قد ظهروا به منذ العصر الحجري الجديد أي في عهد سابق لفجر التاريخ، ولربما كان لهم تمثيل قد ضاعت آثاره ولم تصلنا أخباره لأن البربري بطبيعته مغرم بحلقات [الفرج] والملاهي.3″

ومن جهة أخرى، يرى عثمان الكعاك أن المسرح فن قديم عند البربر جاؤوا به من الهند، واليونان، والرومان.وفي هذا، يقول الباحث في كتابه (البربر):” التمثيل قديم عند البربر جاؤوا به من الهند، وأسس له يوبا الثاني معهدا لتدريسه بشرشال وألف فيه التصانيف، والتمثيل البربري إما ديني على الطريقة الهندية واليونانية القديمة فهو أناشيد ورقص وحركات وتصاوير تمثيلية لاسترضاء الآلهة أو إبعاد غضبهم، أو خزعبلات مضحكة للسخرية من بعض الشخصيات البارزة وإظهار عيوب الناس المنتقدة، وشارك البربر في التمثيل اليوناني ثم الروماني لاسيما وقد نبغ منهم طيرستيوس القرطاجني أكبر مسرحي باللغة الرومانية، وقد بنى ابن جلدتهم غورديانوس مسرح الجم وهو من أكبر المسارح الرومانية، والمسارح منبثة في شمال أفريقيا انبثاثا يدل على ولوع البربر بالفن المسرحي.”4

وقد عرفت الحضارة القرطاجنية بتونس المسرح كباقي المدنيات والحضارات المعروفة في حوض البحر الأبيض المتوسط آنذاك، وبنيت بعض المسارح في مدينة قرطاج، مادامت قبلة للعلم والثقافة والفنون الإنسانية بامتياز، يرتادها الطلبة والعلماء والفنانون والمثقفون، كما يتبين ذلك بجلاء في شهادات واعترافات كل من أغسطين وأفولاي. ولا نتفق مع عثمان الكعاك الذي أثبت أن القرطاجنيين لم يعرفوا المسرح بقوله:”كما أن التاريخ لم يحدثنا أيضا عن مسرح قرطاجني رغم أن قرطاجنة قد كانت من زعيمات المدنية القديمة طيلة عشرة قرون، ورغم أنها كانت في اتصال مستمر مع اليونانيين واضعي أصول التمثيل في العالم القديم.5″

في حين، يقر بولمونسو ، في كتابه الذي خصه للأفارقة ، بوجود مسرح قرطاجني. فقد” كان المجتمع القرطاجني يأخذ نصيبه من هذه الملاهي الشعبية ، ولكنه كان يحب أيضا المشاهد الراقية، فقد ذكر الكاتب الإفريقي ترتوليانوس في رسالته( ضد المشاهد) أن علية أهل قرطاجنة كانوا يقبلون ليس فقط على سباق الخيل وألاعيب الفيلة ومصارعة الأسود ومبارزة البهلوانيين ومنازلة السيافين، بل أيضا على الأجواق الغنائية وعلى تمثيل الفاجعات والمضحكات وقد كان ذلك موجودا في آخر أيام الحكم الروماني في أفريقية.”6

هذا، وقد بنيت ، في تونس ، مجموعة من المسارح المدرجة وشبه المدرجة التي مازالت تفتخر بها تونس ، في العهد اللاتيني، كمسرح قرطاج،  ومسرح بلاريجيا، ومسرح الجم، ومسرح تيليبت   (    Thelepte)،  ومسرح دقة. وقد تحدث شارل أندري جوليان، في كتابه (تاريخ أفريقيا الشمالية)، عن علو كعب مدنية شمال أفريقيا في عهد الإمبراطورية الرومانية، وخاصة تونس صاحبة مسرح دقة الذي بناه مرقس أوريليوس. وفي الوقت نفسه، تحدث عن كثرة المسارح الفنية التي كانت من مظاهر حضارة الرومان في منطقة تامازغا7. وفي هذا الصدد، يقول  شارل أندري جوليان:” كان عدد المسارح في أفريقية يفوق عدد الملاعب ، وكان مسرحا تيمكاد ودقة منحوتين في ربوة كما هو الشأن في اليونان، أما مسرح تيبازة فقد كان بالعكس مبنيا ومن الممكن أن يتبين المرء إلى اليوم في مسرح تيمكاد الثقب المستطيلة الشكل التي كانت تمكن من تحريك الستار. وكان مسرح دكة المشيد في عهد مرقس أوريليوس يحتوي على( 21 ) مدرجا تنقسم إلى ثلاثة أقسام بواسطة درابزين. وتوجد في مؤخر الركح خمس درجات كبرى توضع فوقها مقاعد متنقلة. ويتركب الجانب الأمامي من الركح من مشاك عديدة لا تزال ماثلة إلى اليوم. وكان طول الركح 75.36 م وعرضه 50.5 م مفروشا بفسيفساء، تحملها ترابة معتمدة على أقبية. وكانت توجد ثلاثة أبواب في الجدار الخلفي من الركح كما يوجد بابان على جانبي الركح يمكن منهما التوصل مباشرة إلى مجموعة من الأعمدة قائمة أمام المسرح”8.

ويعني هذا أن المسارح التي كانت تبنى في شمال أفريقية، بما فيها تونس، إما مسارح طبيعية منحوتة في الجبال، وإما مسارح مبنية من قبل السلطات الحاكمة. وكانت هذه المسارح واسعة الركح طولا وعرضا، مبنية بطريقة المدرجات من أجل استيعاب الكثير من النظارة على غرار المسرحين: الروماني واليوناني. ويحتوي هذا المسرح كذلك على أبواب منفتحة على الكواليس والجمهور، وستار واسع يفصل الجمهور عن الممثلين، كماهو حال المسرح الغربي اليوم. وكانت أرضية الركح منقوشة بالفسيفساء الملونة والزخارف المرصعة.

وقد شهد مسرح قرطاج نهضة مسرحية أمازيغية كبرى. فقد عرضت، على خشبته، فرجات مسرحية كثيرة ، كانت من طبيعة كوميدية أو تراجيدية. وقد استمتع أوغسطين النوميدي بهذه الفرجات المشهدية، عندما كان طالبا يدرس العلم بتونس ، فقد انبهر بروعة هذه المسرحيات التي كانت تقدم على مسرح قرطاج. وكانت تترك آثارا مفيدة وممتعة في نوفس الراصدين الأمازيغ والقرطاجنيين والرومان على حد سواء.

وقد ذاع صيت أفولاي الجزائري في تونس بسبب عروضه المسرحية التي كان يمثلها فوق خشبة مسرح قرطاج. ويعني هذا أن أفولاي قد مارس الفن المسرحي تشخيصا، وإبداعا، وكتابة، وإخراجا. فقد ورد أنه زار قرطاجنة للتعلم، فاندهش بها  أيما اندهاش. كما اندهش منه القرطاجنيون لما له من معرفة موسوعية في جميع الفنون، والمعارف، والآداب . فكان القرطاجنيون يهتفون به كلما صعد إلى المسرح ، وهو بدوره يهتف بهم قائلا:”إني لا أرى في مدينتكم  إلا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة، وتبحروا في جميع العلوم: أخذوا العلم صغارا، وتحلوا به شبانا، ودرسوه شيوخا. إن قرطاج لهي المدرسة المقدسة في مقاطعتينا، وهي عروس الشعر في أفريقيا، وهي أخيرا ملهمة الطبقة التي تلبس الحلة”9.

ويمكن القول: إن أفولاي كان شاعرا متنوع الأغراض ، يبدع الشعر الملحمي، والشعر الغنائي الوجداني . كما كان كاتبا مسرحيا غزير الإنتاج؛ إذ ألف مجموعة من التراجيديات والكوميديات مستعملا في ذلك الشعر على غرار المسرحيين اليونانيين والرومانيين. ويقول أفولاي في إحدى اعترافاته الصريحة:”أعترف أني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان، لمرح الملهاة أو جلال المأساة. وكذلك لا أقصر لا في الهجاء ولا في الأحاجي ولا أعجز عن مختلف الروايات، والخطب يثني عليها البلغاء، والحوارات يتذوقها الفلاسفة، ثم ماذا بعد هذا كله؟ إني أنشئ في كل شيء سواء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس ونفس الأسلوب”.10

ونفهم من هذا أن  قرطاجة كانت عاصمة تامازغا في مجال المسرح والشعر والثقافة والسياسة  إبان المرحلة اللاتينية. وكان للبرابرة باع كبير في مجال الثقافة والفنون المسرحية. وكان الرومان والمؤرخون الأجانب القدامى والمحدثون والمعاصرون، بالإضافة إلى المستمزغين، يعترفون لهم بذلك أيما اعتراف. وأقصد المثقفين الذين تعلموا اللغة اللاتينية باعتبارها لغة رسمية، وأداة للتعليم والتعلم، و وسيلة للترقية المادية والمعنوية، ومطية لتولي المناصب الإدارية، والسياسية ، والمدنية، والدينية.

ومن الطبيعي أن يكون جل المتعلمين ينحدرون من طبقة أرستقراطية مقربة من السلطات الرومانية. وفي هذا السياق، يقول شارل أندري جوليان:” وكان الطلبة ينحدرون بصفة عامة من الطبقة الأرستقراطية القاطنة في البلديات. وكان بعض الأغنياء يشمل أحيانا برعايته أحد الشبان البربر النجباء، فيمكنه من تنمية ملكاته في قرطاج. ولم يكن هؤلاء الشبان جميعهم، مثلا يحتذى في المواظبة والفضيلة. فكانوا يرتادون المسارح والملاهي وينغمسون فيما سماه القديس أغسطنيوس متندما” مرجل الأهواء التي يندى لها الجبين”. وكان عدد منهم مثل أغسطنيوس لا يقل ولوعهم بحبيباتهم عن ولوعهم بالدرس. وكان آخرون يؤلفون عصابات من المشاغبين، فيهجمون على قاعات الدرس، ويشاكسون الأستاذ، ويشيعون الطلبة الوديعين لكما وضربا.

وكان التعليم الذي يقوم به النحاة يزود أفريقية بالإداريين والمحامين البارعين وبعض الحكام الأعلام، وأشهرهم سالفيوس جوليانوس أصيل حضر موت (سوسة) وصاحب القانون الأبدي، ويزودها أيضا برجال كانت ثقافتهم إلى السطحية أقرب منها إلى العمق”11.

وهناك مسرحي أمازيغي آخر نسبت ولادته إلى قرطاج ما بين سنتي190و105ق.م، وأخذ عبدا أو أسيرا إلى روما، فتبناه أحد أعضاء مجلس الشيوخ الذي يسمى تيرانيوس  لوقيانوس، ” فخلع عليه اسمه، وأدخله دائرة الطبقة الارستقراطية”12  ، وهذا المسرحي هو ترنيوس آفر، وهو من كبار مبدعي المسرح في المرحلة اللاتينية . له ست مسرحيات مشهورة تجمع بين التراجيدي والكوميدي. وهذه المسرحيات هي : (فتاة أندروس)، و(الحماة)، و(المعذب نفسه)، و(الخصي)، و(فورميو)، و(الأخوان)13.

ويقول عنه الباحث المسرحي التونسي محمد عبازه:” ولكن التاريخ، وتاريخ المسرح بالذات، يذكر لنا مؤلفا قرطاجنيا كتب الكثير من المسرحيات الهزلية التي أثرت في المسرح الروماني، وخاصة في الكوميديا، هذا الرجل هو تيرانسيوس الذي كان أسلوبه متميزا، مما سبب له غيرة وحسدا، من كتاب المسرح الرومان أنفسهم، إذ رموه بالعديد من التهم، كالسرقة الأدبية والسطو على الآثار والتكرار، وكان آخر الاتهامات التي ألصقت به، هي أن مسرحياته هزيلة الحوار، وضعيفة البناء.وقد دافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة وأنكر التهم الموجهة إليه، وترك بصمات واضحة في مسيرة الكوميديا الرومانية من حيث اللباقة والرقة والحس الأخلاقي العميق، كل ذلك مكسو بمسحة من الكآبة التي لايمكن أن يلمسها إلا من كان مغتربا عن وطنه، واقتيد قسرا فكتب عليه النفي الأزلي.”14

وعلى العموم، فقد تأثر المسرح الأمازيغي التونسي بالمسرح اليوناني والروماني على مستوى المعمار الهندسي والجمالي من جهة، وتأثر بهما أيضا على صعيد السينوغرافيا، وكتابة المسرحيات التراجيدية والكوميدية من جهة أخرى، سواء أكان ذلك  الفعل المسرحي  قد قدم باللغة اليونانية أم باللغة اللاتينية أم باللغة الأمازيغية الأفريقية.

وقد يتشكك البعض في أمازيغية هذا المسرح جزئيا أو كليا ، إلا أننا نرد عليهم أن ثمة معايير ثلاثة  لإثبات هوية المسرح الأمازيغي هي:

u أن المسرح الأمازيغي هو الذي يكون من  إنتاج الإنسان، أو الذات الأمازيغية أو البربرية؛

vأن المسرح الأمازيغي هو الذي يتخذ  القضايا الأمازيغية موضوعا له؛

w أن  المسرح الأمازيغي هو الذي يستعمل اللغة الأمازيغية أداة للتعبير والتبليغ والتوصيل.15

ويعني هذا أن الأمازيغ التونسيين قد مارسوا المسرح ، ولم يكن ذلك حكرا على الرومانيين فقط كما يذهب إلى ذلك الباحث التونسي محمد عبازه بقوله:” لا أستغرب أن يكون السكان الرومان، هم وحدهم الذين ساهموا في العروض المسرحية، إنتاجا واستهلاكا، لأن أهل البلاد الأصليين، لم يكونوا يسكنون المدن التي بنيت خصيصا للرومان، بكل طبقاتهم الاجتماعية، من تجار ونبلاء وقواد جيش وفلاحين، أما الأهالي الأصليون، فهم يسكنون مدنهم الخاصة بهم، أو في الأرياف، بحكم اعتمادهم أساسا على النشاط الفلاحي.إن عدم الاختلاط في المدن، أو في النشاطات الاقتصادية، جعل المحتل الروماني ينظر نظرة احتقار إلى السكان الأصليين، وهم بدورهم ينظرون بحقد كبير إلى الغاصب المحتل، فلم تقم علاقة حوار وتفاهم بين الاثنين، والعلاقة  الوحيدة التي وجدت بين الشعبين، كانت علاقة عبودية، وكان الشاهد على هذا النوع من العلاقة تيرانيوس الذي أخذ أسيرا إلى روما.في خضم هذه العلاقة المتوترة المليئة بالأحقاد، جعلت الاحتكاك الثقافي والفني، وبالنتيجة التفاعل بين الثقافة الداخلية المستعمرة، والثقافة المحلية المستعمرة، أمرا مستحيلا طوال حقبة الاحتلال الروماني، لم نر هذا التأثير الثقافي الحضاري، في سكان البلاد وثقافتهم وإبداعاتهم الفنية، لذلك قلنا: إن البلد (تونس)، عرف المسرح، أما السكان فلم يعرفوه بحكم غياب حوار الثقافات، القرطاجنية  والبربرية من ناحية، والرومانية من ناحية أخرى.”16

والدليل على إقبال الأمازيغ على المسرح والمشاركة في عروضه المسرحية هو أن أفولاي كان ممثلا أمازيغيا  ناجحا، تصفق عليها الجماهير الحاضرة بفرح وسرور، مشيدة بأدواره المسرحية المتنوعة والرائعة. وقد شاهد أوغسطين بدوره كثيرا من العروض المسرحية المفجعة والمضحكة، وأدلى بذلك في كتابه (الاعترافات). ويدل هذا كله على أن الأمازيغ كانوا متواجدين بكثرة في رحبات المسارح التونسية والقرطاجنية والرومانية.

المبحث الثاني: مرحلة الركود إبان الفتوح الإسلامية

شهد المسرح الأمازيغي التونسي، في أثناء الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا مع عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير، ركودا مسرحيا كبيرا بسبب انشغال الأمازيغيين بالحروب والجهاد، وخوض المعارك ضد المرتدين البرابرة و نصارى الأندلس. كما ساهمت الحروب في اندثار معالم المسارح والمتاحف والمعابد. بينما بقيت بعض المسارح خالدة إلى يومنا هذا كمسرح قرطاج بتونس، ومسرحي تيمكاد وتيبازة بالجزائر.

وقد ذكر البكري، في وصفه لقرطاجنة، أن أعجب ما بها” دار الملعب وهم يسمونها الطياطر، قد بنيت أقواسا على سواري، وعليها مثلما ما أحاط بالدار، وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات، وجعلت فيه صور الرياح، فجعل صورة الصبا وجهه مستبشر وصورة الدبور وجهه عابس….

وفيها قصر يعرف بالمعلقة مفرط العظم والعلو، أقباء معقودة طبقات كثيرة مطل على البحر، في غربيه قصر يعرف بالطياتر وهو الذي فيه دار الملعب المذكورة، وهو كثير الأبواب والتراويح، وهو أيضا طبقات ، على كل باب صورة حيوان وصور الصناع”.17

ومن الدواعي الأخرى التي كانت وراء ركود المسرح الأمازيغي بتونس، وعدم الحفاظ على المسرح اليوناني والروماني، الفهم السيء لموقف الإسلام من الشعر والتصوير والتمثيل والتشخيص ؛ إذ كان تأويل المسلمين لموقف الإسلام من الفن سببا كافيا لانطفاء  شعلة المسرح في شمال أفريقيا.

ويذهب  الباحث المغربي عباس الجراري إلى أن العامل الديني،  ووجود الصراع التراجيدي الأفقي، من بين الأسباب التي حالت دون استمرار المسرح الأمازيغي بتونس بشكله القديم. وفي هذا الصدد، يقول الباحث:” إذا كان [التونسيون] لم يحتفظوا بهذه التقاليد المسرحية في ظل الإسلام، فذلك راجع إلى أن هذا الدين جاء بثقافة جديدة، وأنهم لم يجدوا في نطاق ثقافته حاجة إلى التعبير بالمسرح على الشكل الإغريقي الروماني الذي عرفوه. إذ لايخفى أن هذا المسرح كان يتوسل به في أداء الطقوس والشعائر الدينية، فضلا عن أنه كان مرتبطا بالصراع، ولاسيما في مواجهة القضاء والقدر، والدين الإسلامي يحد من هذا الصراع، ويحث على الطمأنينة النفسية بالدعوة إلى الإيمان بالقدر خيره وشره. “18

ونفهم من هذا النص أن المسرح الأمازيغي بتونس قد اندثر مع الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا بسبب ارتباطه بالوثنية الإغريقية، وبنائه على الصراع التراجيدي الميتافيزيقي. وقد تم تعويض ذلك كله بفرجات احتفالية مشهدية شعبية ودينية وطقوسية وفنية، مثل: الرقص الشعبي الأمازيغي، ورقص الطوائف الطرقية، والاستفادة من خيال الظل. بل يمكن الحديث عن أشكال مسرحية أمازيغية أخرى قد تبلورت بتامازغا ، بشكل واضح، في  نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .

المبحث الثالث: المرحلة الفطرية التراثية إبان العثمانييين

كان المسرح التونسي، في عهد العثمانيين، مسرحا تراثيا فطريا بامتياز، يعتمد على على خيال الظل والكراكوز والعرائس والمداح والمقلداتي والراوي والحكواتي والمهرج بسبب هيمنة العثمانيين على دواليب الحكم والسلطة، وانتشار حضارتهم بين صفوف التونسيين، وتأثر المغلوب بحضارة الغالب. ومن جهة أخرى، كان الدايات والبايات العثمانيون وحواشيهم على اطلاع كبير على المسرح الغربي الحديث منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بسبب توافد الفرق الإيطالية على تونس19.

ومن باب العلم أن خيال الظل، أو ظل الخيال، أو خيال الستار، أو طيف الخيال، أو القراقوز عند الأتراك، عبارة عن فرجة درامية تعتمد على تقديم مجموعة من الفصول والبابات ( القصص والحكايات)، بتحريك مجموعة من الشخصيات عن طريق الإشعاع الضوئي الذي ينعكس على شاشة الرصد. ويحرك هذه الشخصيات بعض الخياليين الذين يمثلون القصة بمستويات صوتية مختلفة، ويبغون من وراء ذلك إمتاع المشاهدين وتسليتهم والترفيه عنهم.

 ومن هنا، يستند خيال الظل إلى تشغيل الأشعة الضوئية لتشخيص الأشياء التي من خلالها تنعكس الظلال على شاشة خاصة، باستعمال الأيدي والأرجل وبعض الصور.

ويعرف المستشرق ( منزل Menzel) كلمة خيال الظل في دائرة المعارف الإسلامية بقوله:” ظل الخيال لأن المقصود من المخايلة، الصورة الظلية التي يعكسها الخيال المادي أمام الضوء الخلفي، وقياسا على هذا سمي شمس الدين بن دانيال مصنفه الذي ضمنه تمثيلياته الظلية الثلاث، اسم تمثيليته الأولى ( طيف الخيال)، وبهذا نسب الظاهر إلى الباطن وجعل الأهمية للبقعة المنعكسة على الشاشة، ولا يمنع ذلك إذا ما أسميناه ( خيال الظل) كما هو شائع بين الناس وكما انصهر في ضمير الشعب. لأننا إذا نظرنا إلى الظل باعتباره النتيجة المرغوبة في العملية ونسبنا إليه الخيال، قد يكون هنا تأكيدا لأهمية الظل وأنه الهدف الأساس في العملية كما لو ننسب مجهولا إلى معلوم”.20

ويقوم خيال الظل، في الحقيقة العملية، على بعض المكونات الأساسية كالصورة الضوئية، والستارة، والإطار، والبابات (الفصول)، واللاعبون(المخايل أو الخيالي)، وفعل التحريك (يخايل)، والجمهور الراصد. كما يستعين خيال الظل، في تقديم باباته المتنوعة، بالحركة، والحوار، والسجع، والشعر، والزجل. ويستلزم خيال الظل أن تقدم باباته وفرجاته الدرامية في الليل الظالم لكي تنعكس الإضاءة على شاشة الإطار بوضوح شفاف ولائق للرؤية والمشاهدة . أما الفضاء، فلابد أن يكون مغلقا لكي ينجح الانعكاس الضوئي كالخيمة، والقصر، والبيت ، والغرفة…

ويعتبر خيال الظل طريقة فنية من أجل تشخيص مجموعة من المواقف المسرحية فوق خشبة الركح. كما يعد تقنية درامية مثيرة للأطفال لكونها تعتمد على الظلال والأضواء الراقصة والمشعة. وتستعمل أيضا الأشعة التموجية لتحريك الشخصيات التي تقوم بمجموعة من الأدوار المسرحية المتناقضة قصد تحبيك القصة التي فصلها المخرج أو المؤلف على قد الشخصيات المنتقاة. ومن هنا، يعتمد مسرح خيال الظل على الإطار، والستارة، والإضاءة، والظلال، وفعل التحريك عن طريق الشموع، أو القناديل، أو الفوانيس. وتعتمد إضاءة خيال الظل، في عصرنا هذا، على الآليات الضوئية الحديثة وتقنياتها المتطورة.

 وهناك من يحصر أركان خيال الظل في الصورة البصرية المشهدية، والضوء العاكس المشع، والسرد الحكائي. ويتخذ اللاعبون له” بيتا مربعا يقام بروافد من الخشب، ويكسى بالخيش أو نحوه من الجهات الثلاث، ويسدل على الوجه الرابع ستر أبيض يشد من جهاته الأربع شدا محكما على الأخشاب، وفيه يكون ظهور الشخوص.

فإذا أظلم الليل دخل اللاعبون هذا البيت ويكونون خمسة في العادة، منهم غلام يقلد النساء وآخر حسن الصوت للغناء، فإذا أرادوا اللعب أشعلوا نارا قوامها القطن والزيت تكون بين أيدي اللاعبين، أي بينهم وبين الشخوص، ويحرك الشخص بعودين دقيقين من خشب الزان، يمسك اللاعب كل واحد بيد فيحرك بهما الشخص على مايريد. وتتخذ الشخوص من جلود البقر وهي في الغالب جلود تأتي من السودان، فيشتري بعضها لاعبو الخيال من التجار ويصورون منها ما يشاء من الشخوص ثم يصبغونها بالأصباغ على ما تقتضيه ألوان الوجوه والثياب وأجسام الحيوان وجذوع الأشجار وأوراقها وأثمارها وأحجار المباني وغير ذلك، بحيث إذا عرضت الصور أمام ضوء النار المشعلة ظهرت زاهية بهية لشفوف تلك الجلود”.21

ويعني هذا أن خيال الظل يرتكز على إطار مصنوع من الخشب في الغالب يشبه – اليوم- مسرح العلبة الإيطالية. و يغطى الإطار بستارة بيضاء كاشفة للصور والظلال والأضواء. وغالبا، ما تتخذ هذه الستارة من القماش أو النسيج الأبيض. كما كان هذا الفن يعتمد على البابة أو البابات. أي: الحكايات والقصص. وكانت الشخصيات مصنوعة من جلود الحيوانات أو البلاستيك أو الخشب أو الورق،  فيتم تحريكها من قبل الخيالي. أما فعل التحريك، فيسمى فعل” خايل / يخايل”.

ويمكن الحديث عن الكواليس الخلفية التي كان يتموقع فيها بعض الخياليين لتقديم حكاياتهم بالاعتماد على الصوت، وتحريك العيدان لتشغيل الممثلين. وعلى العموم، كانت فرجات خيال الظل تقدم ، في كثير من الأحيان، ليلا في فضاءات مغلقة خاصة، مثل: الخيام، والقصور، والبيوت.

وقد أكد بعض الباحثين على أن خيال الظل” مسرح متكامل، شخوصه بشر تمثل صوتا، ودمى تظهر صورة، وفيه مكان هو المسرح، وفيه قصة لها بداية ونهاية، وفيه إضاءة مسرحية تراعي حركة الأشخاص والأشياء وأجواء الليل والنهار. وفيه إخراج وإرشادات مسرحية يلقيها المخايل أثناء التمهيد وفي سياق الحوار ، وفيه جو المسرح حيث إن العرض يتم مساء فتطفأ الصالة وتضاء أنوار المسرح، وفيه جمهور يشاهد لقاء أجر معلوم. وهذه بعينها عناصر أي مسرح نشأ في الغرب أو الشرق على السواء، وعرفه العرب منذ القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي، فكان من أشهر نماذج المسرح العربي القديم.”22

والمقصود من هذه القولة أن العرب عرفوا المسرح منذ القديم على غرار الشعوب الغربية، وليس المسرح فنا غربيا مستحدثا في القرن التاسع عشر مع يعقوب صنوع، وأبي خليل القباني، ومارون النقاش، وآخرين… كما يذهب إلى ذلك الكثير من دارسي المسرح ومؤرخيه.

ومن المعروف أن خيال الظل له وظائف عديدة ومتنوعة. من بين هذه الوظائف الأساسية أن خيال الظل أداة للتثقيف والتعليم. كما أنه وسيلة للترفيه والتسلية والإمتاع. وقد كان خيال الظل، في تاريخه العربي الإسلامي، ينتقد الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية. لذلك، حاربه السلاطين، ولاسيما سلاطين الدولة العثمانية بمنطقة الشام ؛ لما لخيال الظل من أهداف ثورية وتنويرية وتوعوية، تتمثل في الدعوة  إلى الاستقلال ، والتحرر من قبضة الحكومة التركية المستبدة. وفي هذا السياق، ذكر المؤرخ المصري ابن إياس أن السلطان ( جقمق) أصدر أمره بحرق خيال الظل عام 1451م. 23

وكان خيال الظل أيضا وسيلة لتخدير الشعب واستلابه وتمييعه أخلاقيا وسلوكيا من أجل إبعاده عن الاهتمام بالسياسة السلطانية نقدا وتقويما وتشريحا، وإبعاده عن شواغل الأمور الجادة المرتبطة بالواقع العربي وبنياته المهترئة بسبب الفساد والاستبداد إبان الدولة العثمانية .

ومن المثبت تاريخيا أن خيال الظل، في عالمنا العربي والإسلامي، قد عرف في مصر والعراق على حد سواء. ويذكر أن صلاح الدين الأيوبي حضر عرضا لخيال الظل مع وزيره القاضي الفاضل عام 567هـ. وقد اشتهر في هذه اللعبة ابن دانيــال الموصلي، والشيخ مسعود، وعلي النحلة، وداود العطار الزجال. وقد ارتحل خيال الظل عبر مجموعة من الدول والمناطق ليستقر في الوطن العربي. بعد أن انتقل من الهند إلى الصين  ، حيث تسلمته القبائل التركية الشرقية التي سربته بدورها إلى فارس ثم إلى الشرق الأوسط، وتلقته مصر لتنشره في شمال إفريقيا. 24

وقد ازدهر خيال الظل وانتعش أيما انتعاش في مصر إبان الفاطميين، فانتشر أيضا في الشرق العربي وشمال أفريقيا في أثناء الحكم العثماني الذي هيمن على كل أطراف البلدان العربية باستثناء المغرب. وعلى الرغم من ذلك، فقد عرف المغرب بدوره خيال الظل في عصر السعديين على سبيل التخصيص.

 وربما كان الأتراك في هذا الفن عالة على المصريين – حسب الباحث المغربي عباس الجراري- ” استنادا إلى أن فرقة مصرية لخيال الظل زارت تركيا سنة اثنتي عشرة وستمائة وألف، وكانت برئاسة الشاعر الزجال داود العطار”.25

بيد أن  الباحث العراقي عمر محمد الطالب يؤكد أسبقية العراق على مصر في هذا المجال:” عرف خيال الظل في العراق قبل مصر، فقد ورد عن مظفر الدين صاحب أربل بالعراق المتوفى عام 630هـ، أنه كان يستعد كل عام للاحتفال بذكرى المولد، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة وتعد في كل جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال وأصحاب الملاهي، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلون في القباب.”26

ويثبت هذا الرأي الباحث المصري إبراهيم حمادة حينما قال: ” إن خيال الظل ربما وفد على مصر مع الوفود العديدة التي جاءت مصر لزيارة الإمام الفاطمي أو مع التجار الذين كانوا يفضلون بيع بضائعهم للفاطميين بسبب ثرائهم الفاحش وولعهم باقتناء كل غريب طريف وكل نفيس فريد، وكان الفاطميون مولعين بالفنون على اختلاف ألوانها يكرمون أرباب الفنون إكراما لم نسمع بمثله في أية دولة من الدول، فلاغرو أن يحظى فن خيال الظل في عصر الفاطميين لأصحاب هذا الفن ولأرباب المساخر أنهم كانوا يستأجرونهم للترفيه عن المرضى في المستشفيات ولإضحاك الجنود في ثكناتهم”.27

وعرف خيال الظل عند الأتراك بالكراكوز. ويعني هذا أن خيال الظل استعان بمسرح الدمى والعرائس في تقديم الفرجة الدرامية للصغار والكبار على حد سواء. ويقول عباس الجراري:” في الأساطير التركية أن نشأة كراكوز ترجع إلى حادث وقع في أيام السلطان أورهان عند منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. فقد كان أمر هذا السلطان ببناء جامع، وكان يشرف على بنائه شخصان: أحدهما بناء هو كراكوز، والثاني حداد هو حاجي عيواظ. ولكن مرح هذين الرجلين وميلهما إلى القص والحكي والتسلية حالا دون إنجاز العمال للبناء في الوقت المحدد. وأصدر السلطان أمره بقتل الرجلين، ولكنه سرعان ما تملكه الندم والحزن على ذلك فلجأ أحد مسليه، واسمه كوسترى، إلى وضع ستار في إحدى غرف القصر، وأخذ من خلالها يعرض أمام السلطان شخصية الرجلين المرحين بمغامراتهما المضحكة.”28

وتظهر الوثائق التاريخية أن خيال الظل كان موجودا بالعراق في القرن الثالث الهجري إبان الدولة العباسية، وكان يطلق عليه الناس الخيال، واختلف حوله الناس. فهناك من كان يعتبره وسيلة  للفكاهة والخلاعة والانحراف والضلال. وهناك من كان يعتبره وسيلة للتثقيف وترقية الذوق.29

والدليل على ذلك ما يرويه أحمد الأبشيهي في كتابه(  المستطرف)،  حيث يشبه الدنيا الزائلة الفاتنة بخيال الظل:

رأيت خيال الظل أعظــم عبـــرة

                                      لمن كان في علم الحقائق راقـــي

شخوصا وأصواتا يخالف بعضها

                                        لبعـــــض وأشكــــالا بغير وفاق

تجيء وتمضي بابة بعد بابــــة

                                      وتفنى جميعا والمحـــــرك باقي30

ويقول صلاح الدين الصفدي مصورا أثر خيال الظل في الراصد المشاهد:31

هويت خياليا حكى الغصن قده

                                    إذا ما انثنى هاجــــت عليه البلابل

أراق دم العشاق سيف جفونـه

                                    ومن بعد ذا أضحى عليهم يخايل

ومن أشهر كتاب خيال الظل محمد بن دانيال الموصلي الذي توفي في القرن الثامن الهجري (710هـ)، فقد خلف ثلاث تمثيليات من نوع خيال الظل هي: الأمير وصال، وعجيب وغريب، والمتيم والضائع اليتيم.

وقد وصلتنا هذه  المسرحيات في شكل نسخ مخطوطة بالقاهرة وإستانبول.

بيد أن أولى مسرحية وصلتنا ضمن خيال الظل تسمى بمسرحية( حرب العجم) أو( لعب المنار)، و” سميت كذلك أنها تتناول الحروب الصليبية، ولأن أحداثها وقعت في الإسكندرية، وترجع إلى القرن السادس أو السابع الهجري. وقد أخبر عنها وأورد جزءا منها الشاعر الزجال داود العطار في مخطوطة ضمنها بعض أزجاله. “32

وعليه، فقد استمر خيال الظل إلى عصرنا الحالي باستعمال الأدوات القديمة نفسها. وفي الوقت نفسه، استفاد من تقنيات جديدة على مستوى العرض والإضاءة ، وصنع الشخوص، وبناء السينوغرافيا والديكور.

ومن أهم الدول العربية التي عرفت خيال الظل ، أو فن الكراكوز، إيالة تونس منذ الحكم العثماني في القرن السادس عشر الميلادي. أي: إن تونس ظلت وفية للأشكال ماقبل المسرحية التراثية الفطرية كخيال الظل، والكراكوز، ومسرح العرائس…وقد انبهر بها التونسيون كثيرا.وفي هذا السياق، يقول عباس الجراري : ” ومع ذلك ، فقد بقيت لتلك التقاليد آثار غير قليلة تتجلى في الرقص الشعبي، سواء منه الرقص البربري والبدوي أم رقص الطوائف الطرقية. كما تتجلى هذه الآثار في الاستعداد الذي ظل عند المغاربة للعمل المسرحي، وقد جعلهم يقتبسون” خيال الظل” لاسيما في تونس والجزائر، لما كان لهما من علاقة مع الدولة العثمانية. ويبدو أنه كان مزدهرا في القطر الجزائري حتى منتصف القرن الماضي، حيث قررت سلطات الاحتلال منعه لما كان له من دور في توعية المواطنين، ولعله كان معروفا بمغربنا الأقصى في فترة من التاريخ، لاسيما أيام السعديين الذين كانت لهم علاقة وطيدة مع الأتراك”33.

ويرى الباحث التونسي محمود الماجري أن تونس عرفت خيال الظل، أو ما يسمى أيضا بمسرح العرائس، منذ فترة الأتراك .وفي هذا الصدد، يقول الباحث:” عرفت مدينة تونس مسرح خيال الظل قبل معرفتها للمسرح. ويبدو أن بداياته تزامنت مع السيطرة العثمانية على التجارة في البحر  الأبيض المتوسط التي تأكدت بإخضاع البلاد التونسية للاحتلال العثماني سنة 1574، لكن من المرجح أنه لم يبدأ في الانتشار الفعلي إلا بداية من القرن السابع عشر في البلدان التي وقعت تحت السيطرة التركية مثل: اليونان، وليبيا، وتونس، والجزائر. لقد كان كاركوز، قبل حلوله بشمال أفريقيا، فرجة منتشرة في تركيا كما يشهد على ذلك أدب الرحلة الذي احتفظ لنا بصورة مفيدة عنها…”34

ويضيف الباحث قائلا:” إذا كان كاركوز قد بلغ في تركيا خلال القرن السابع عشر ذلك المستوى التقني والفني المتقدم، فمن البديهي أن ينقله الأتراك معهم إلى البلدان الذين سيطروا عليها باعتباره من وسائل الترفيه عندهم وبالخصوص لدى الجند منهم، وهو ما سمح للتونسيين، عند اختلاطهم بهم، بالاطلاع على عروضه فقلدوها وعربوا بعض مواضيعها ونسجوا على منوالها.ولاشك أن كاركوز قد تطبع، على مر السنين، بمعطيات البلاد وخاصة المتصلة منها باللغة فصارت عروضه تقدم بالدارجة بينما كانت تقدم، قبل ذلك، باللغة التركية وتناولت أعماله مواضيع مستقاة من الحياة اليومية بمختلف تجلياتها فخرج من حيز العروض النخبوية إلى مجال أشمل لتشاهده جموع كبيرة من الكهول والأطفال خصوصا خلال ليالي رمضان ببطحاء الحلفاوين، بتونس العاصمة، أو ببعض حوانيتها ومنازلها أو حتى داخل خيمة مثلثة الأضلع خالية من المقاعد.35″

ومن جهة أخرى، كان الدايات والبايات العثمانيون وحواشيهم على اطلاع كبير على المسرح منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بسبب توافد الفرق الإيطالية على تونس36.

وبناء على ماسبق، تعد المرحلة التراثية الفطرية ثالث مرحلة عرفها المسرح التونسي في تطوره الفني والجمالي، بعد مرحلة المسرح الأمازيغي ، ومرحلة الركود في عهد الفتوحات الإسلامية بالمغرب الكبير.

المبحث الرابع: المسرح التونسي إبان التواجد الاستعماري

تبتدئ هذه المرحلة مع تواجد المستعمر الفرنسي في تونس.أي: من سنة 1881إلى سنة 1956م. ويعني هذا فترة زمنية تقدر بخمس وسبعين سنة37. وهي فترة طويلة جدا مقارنة مع الفترة التي قضاها الاستعمار الفرنسي في المغرب ، وتقدر بأربع وأربعين سنة . وتدل هذه الفترة أيضا على مرحلة تغريب المسرح التونسي، والقضاء على الكراكوز العثماني، والخضوع للعلبة الإيطالية، والانسياق وراء المسرح الفرنسي الكوميدي الشعبي الساخر، على الرغم من زيارة بعض الفرق المصرية لتونس منذ 1908م، كفرقة محمد المغربي، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة الشباب المصري، وفرقة الشيخ سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض، وفرقة رمسيس…وقد نتج عن هذه الزيارات أن تكونت فرق وجمعيات مسرحية تونسية محضة،  أو فرق مسرحية مختلطة مع الفرق المسرحية المصرية، مثل: جمعية النجمة، وجماعة الشهامة العربية، وجماعة الآداب العربية، والجوق المصري التونسي، وفرقة المستقبل التمثيلي، وفرقة السعادة، وفرقة الشيخ الأكودي، وجمعية التمثيل العربي…

وقد تأثر المسرح التونسي بالمسرح المصري تأثرا كبيرا. وقد اعتمد هذا المسرح على اللغة العربية الفصحى في تقديم العروض الدرامية. ولم يعتمد على الدارجة في البداية، كما فعل المسرح الجزائري الذي كان بعيدا عن العربية الفصحى بسبب التواجد الطويل للاستعمار الفرنسي. وكانت بين الفرق المسرحية التونسية مسابقات وتنافس محمود لتقديم أجود العروض المسرحية، وجلب أكبر عدد من الجمهور الراصد. وفي هذه الفترة الاستعمارية بالذات، اشتهر الفنان المسرحي خليفة سطنبولي، والممثلة زبيدة الجزائرية. وظهرت فرق وجمعيات مسرحية جديدة ، كالاتحاد المسرحي، والكوكب التمثيلي، وتونس المسرحية، وغيرها من الفرق والجمعيات المسرحية…وتناولت هذه الفرق والجمعيات المسرحية مواضيع درامية مختلفة ومتنوعة، مثل: المواضيع التاريخية، والمواضيع التربوية، والمواضيع الدينية، والمواضيع الأدبية، والمواضيع التراثية، والمواضيع الاجتماعية، والمواضيع الكوميدية الساخرة، والمواضيع السياسية في قالب رمزي واضح…

وتعد مسرحية (صدق الإخاء) أولى مسرحية تونسية أنتجها الجوق التونسي المصري في 26 أيار (مايو) 1909م.وبهذا، تكون تونس سباقة إلى تدشين البدايات المسرحية الأولى مقارنة بالمغرب، والجزائر، وليبيا، وموريتانيا.

وكان أهم عائق يواجهه المسرح التونسي، ولاسيما في سنوات الخمسين من القرن الماضي،  هو غياب العنصر النسوي؛ مما أثر سلبا في جودة المسرح التونسي وجاذبيته الإقناعية والتأثيرية.

وعلى الرغم من تأثير المسرح المصري في المسرح التونسي على مستوى المؤثرات الفنية والجمالية واللغوية والسينوغرافية، وعلى مستوى التكوين والتأطير، فإن هذا المسرح قد تأثر كذلك بالمسرح الغربي، ولاسيما الفرنسي منه، واستفاد من تقنياته الجمالية، وانفتح على تياراته ومدارسه وأجناسه الدرامية كالتراجيديا والكوميديا. واتخذ العلبة الإيطالية فضاء ركحيا لتقديم الفرجة المسرحية .وهذا ما جهل المسرح التونسي مسيجا بالمرجعية الأوروبية القائمة على تغريب المسرح العربي، والخضوع لمتطلبات العلبة الإيطالية المغلقة، واحترام الوحدات المسرحية الأرسطية الكلاسيكية، والانفتاح على التجارب المسرحية الغربية التجريبية والطليعية. وأكثر من هذا، فقد شيد المستعمر في تونس كثيرا من البنايات المسرحية ، كالمسرح القرطاجني، ومسرح طابيا، ومسرح دافيد كوهين طنوجي، والمسرح الإيطالي، ومسرح أرينا، والمسرح البلدي… وحضرت إلى تونس فرق مسرحية فرنسية، وفرق إيطالية، وفرق أوروبية، وفرق مسرحية عالمية لتقدم عروضها الفرجوية المختلفة38.

المبحث الخامس:  مرحلة التأسيس والتثبيت

يمكن القول : إن المسرح التونسي قد نشأ، في الحقيقة، في بداية الستينيات من القرن الماضي، عندما اجتمع رئيس الدولة السيد الحبيب بورقيبة مع إطارات المسرح التونسي بدار الإذاعة في 7نوفمبر 1962م لتدارس وضعية المسرح، والبحث عن السبل الكفيلة لتنوير المجتمع التونسي وتوعيته تربويا وفكريا وثقافيا ، وتطوير فن المسرح فنيا وتقنيا وجماليا ، وبناء المسرح التونسي على أسس علمية ثابتة ورصينة .لذلك، أوصى الرئيس بإرسال بعثة من المسرحيين التونسيين إلى الخارج للتكوين في كل ما يخص المسرح من تقنيات ، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة. وبعد ذلك، تكونت مجموعة من الفرق المدرسية التي وصلت إلى أربعين فرقة سنة 1965م. وقد شاركت هذه الفرق كلها في مسابقات مسرحية مدرسية، شارك فيها الإناث إلى جانب الذكور. ويعني هذا أن المسرح التونسي بدأ يعتمد على العنصر النسوي في تقوية النهضة المسرحية التونسية.

وبعد ذلك، تأسس مركز الفن المسرحي سنة 1966م لتكوين الأطر الشابة في المسرح وتأطيرها في مجالات التأليف، والتشخيص، والتأثيث، والسينوغرافيا، والإخراج. وكان هذا المركز يعنى بالرقص، والمسرح، والموسيقا. وقد تحول هذا المركز إلى المعهد العالي للفن المسرحي.

كما نظمت تونس، منذ أغسطس 1964م، مهرجان المسرح المغربي العربي الكبير بغية الاستفادة من التجارب الأخوية في مجال المسرح.ومن ثم، أضحى هذا المهرجان تقليدا فنيا وجماليا في الحياة المسرحية التونسية، إلى جانب مجموعة من المهرجانات المسرحية الأخرى، كمهرجان مسرح قرطاج، ومهرجان مسرح الطفل، ومهرجان المسرح الجامعي، ومهرجان مسرح الجمعيات… وقد أثبت مصطفى الفارسي أن تونس قدمت ما بين 1966و1971م مايزيد على خمسمائة مسرحية39.

ويمكن الحديث عن مجموعة من المؤسسين للمسرح التونسي الحديث أمثال:  حماد الجزيري، ومحمد بن عبد العزيز العقربي، وحسن الزمرلي، وعلي بن عياد، والحبيب بولعراس، والزبير التركي، والمنصف السويسي…

ويعد علي بن عياد المؤسس الفعلي للمسرح التونسي الاحترافي، بعد أن أشرف على إدارة فرقة بلدية تونس منذ سنة 1963م، وقد تتلمذ علي بن عياد على روني سيمون وجان فيلار.وبذلك أمكن له أن يخلق حركة مسرحية نشيطة بتونس، ويرسي دعائم فن المسرح بكل مقوماته الفنية والجمالية الحقيقية، ويتشرب تعاليم المسرح الغربي وفق أسسه العلمية والتقنية. ويعد علي بن عياد- حسب الناقد التونسي محمد عبازه- “المؤسس الفعل المسرحي بتونس على كافة المستويات، سواء على مستوى الكتابة الدراماتورجية، أو على مستوى الإخراج، أو على مستوى الهيكلة من حيث الإنتاج والتوزيع، وأخيرا على مستوى إيجاد الاختصاصات المتداخلة في إنتاج العرض المسرحي (الديكور، الأزياء، الإضاءة، القيافة…).40”

ويثبت الباحث ، في مكان آخر  من كتابه النقدي القيم، أن تجربة علي بن عياد هي التي رفعت المسرح التونسي إلى عنان السماء مجدا وفخرا وتفوقا، وجعل بلده تونس تتربع على عرش المسرح العربي:”  وهذه بديهة أهملها سابقوه، وتشبث بها لاحقوه، وهذا ما جعل المسرح التونسي يتصدر طليعة المسرح العربي، وهذا ما لاحظناه في العديد من التظاهرات المسرحية العربية.ولاجدال في أن الفضل في هذا التطور، يعود إلى مرحلة التأسيس التي قادها علي بن عياد عن جدارة.كان علي بن عياد فنانا، أصيلا، مثقفا، مؤمنا بالاختصاص في الإبداع المسرحي، فجمع حوله فريقا متجانسا، ساعده على أداء رسالته النبيلة، والتي آمن بها، ودافع عنها حتى الموت، والمتمثلة في جعل المسرح يتجذر في المدينة، ويجمع سكانها بين أحضانه المستفزة والدافئة، في الآن نفسه تغرس فيهم حب المسرح بمعناه اليوناني، وتقنياته الغربية، فتبنوه، وبحثوا من خلاله عن أنفسهم، من خلال تداخل واقعهم بماضيهم، وهذا ما وجدوه في مسرحية ” مراد الثالث” التي كانت نقطة التحول التأسيسي.

ومن هنا يحق لنا أن نتصور، أن علي بن عياد، هيأ بطريقة أو بأخرى، للاحقيه، أن يتقدموا بالفعل المسرحي، وهم مستندون إلى أرضية صلبة، بعد عملية التأسيس التي قام بها، وهذا ما فعلته أجيال المسرحيين التونسيين، الذين لم يتوقفوا عن البذل والعطاء، للسير قدما، بالإبداع المسرحين في مسالك التجديد، وشعاب الإضافة، وتجارب البحث المتواصل.”41

 ومن هنا، يتبين لنا أن محمد بن عياد هو حامل مشعل تأسيس المسرح التونسي عن جدارة واستحقاق. وهو أيضا المؤسس الفعلي للمسرح التونسي في جميع تجلياته ومظاهره الفنية والجمالية والتقنية والإدارية. وفي هذا، يقول محمد المديوني:”ومن مظاهر التحولات التي حققها علي بن عياد في مجال ممارسة هذا الفن هو أنه أزال صندوق الملقن من واجهة الركح ، واستغنى نهائيا عن هذه الوظيفة، وعدل عن فتح الستار وإسداله، وتفنن في استعمال وسائل الإضاءة استعمالا وظيفيا، واستعاض عن استعمال الديكورات الجاهزة الموروثة من الفرق الفرنسية والتي كانت تستعملها أغلب الفرق في الحقبة السابقة إذا ما فتح لها باب المسرح، ومال عن الأسس التجسيدية الواقعية التي تقوم عليها تلك المناظر إلى التشكيلات الركحية الإيحائية والوظيفية التي أوكل أمر تصورها وإنجازها إلى رسامين ونحاتين تونسيين وغير تونسيين لهم باع في عوالم الألوان والأحجام وضبط أداء المثملين والممثلات ضبطا صارما سعى معه إلى إزالة صور التقريبية في الأداء وضروب التصرف والارتجال محاولا من وراء ذلك التأليف بين مكونات العرض المسرحية في رؤية إخراجية مكتملة، فكان له أن أرسى بذلك تقاليد جديدة للعمل الاحترافي قائمة على الدقة.”42

ويشبه علي بن عياد ما قام به الطيب الصديقي في المغرب، فقد تعلما كلاهما بفرنسا على يد جان فيلار، وعادا إلى أرضهما لتأسيس الفعل المسرحي على أسس علمية موضوعية رصينة. وحملا معا مشعل الإدارة والقيادة والإشراف على التدريب والتكوين والتأطير. وقد أشرفا كلاهما على إدارة المسرح البلدي، واحد أشرف عليها بالدار البيضاء، والثاني أشرف عليها بمدينة بتونس.

وفي ظل هذا الجو الذي خيم عليه فعل التثبيت المسرحي، تأسس المسرح المدرسي، والمسرح الاحترافي، والمسرح الجامعي، ومسرح الشباب، ومسرح الطفل، ومسرح العرائس، ومسرح الهواة، والمسرح الجهوي…وقد اهتمت وزارة الثقافة التونسية، منذ  إرسائها إداريا ومؤسساتيا ووزاريا، بتطوير الفعل الثقافي بصفة عامة، والفعل المسرحي بصفة خاصة، ضمن سياسة ثقافية ديمقراطية تشاركية وجماهيرية.

هذا، وقد تحققت النهضة المسرحية بتونس بتأسيس مجموعة من الفرق والجمعيات المسرحية، مثل: فرقة بلدية تونس مع محمد بن عياد، وفرقة صفاقس مع جميل الجودى، و فرقة الكاف مع المنصف السويسي، وفرقة قفصة مع رجاء فرحات ثم عبد القادر مقداد، وفرقة المغرب العربي مع الأمين النهدي، وفرقة المسرح الجديد  بقيادة الفاضل الجزيري.وبعد ذلك، ظهرت مؤسسات مسرحية، مثل: فرقة بلدية تونس للتمثيل، والمركز الوطني لفن العرائس، والمسرح الوطني الناشىء سنة 1983م،  وفرقة مسرح فو مع توفيق الجبالي، ورؤوف الهنداوي، ورجاء بن عمار، والمنصف الصايم. وتأسست فرقة المسرح العضوي مع عزالدين قنون، وفتحي العكاري، وفتحي بن عزيزة، وعبد المجيد الجلولي…أما فرقة مسرح الأرض، فقد أشرف عليها الزوجان نور الدين الورغي وناجية الورغي ، وفرقة سنمار التي أشرف عليها توفيق الجبالي ومحمد إدريس، وفرقة المسرح المثلث التي تعود رئاستها إلى الحبيب شبيل، وفرقة تياترو مع توفيق الجبالي،  ودار سندباد للإنتاج الفني مع حماد المزي…

وقد” نشأت بين سنتي 1976 و1985 اثنتا عشرة فرقة خاصة،  وتطور هذا العدد ليصل إلى (27) فرقة سنة 1992 وإلى  (82) فرقة سنة 2001 ليصل عدد الفرق المحترفة الخاصة سنة 2008 إلى (149) مائة وتسع وأربعين فرقة. ولقد صاحبت هذه التحولات نصوص تنظيمية أصدرتها سلطة الإشراف تفاعلا مع متطلبات هذا الشكل من الهياكل وتجاوبا مع انتظارات رجال المسرح المنضوين تحتها ومع مطالبهم وبعثت لجان خاصة لتطبيق الآليات الضرورية لتنفيذ تلك الأوامر والقرارات وكان لرجال المسرح فيها مواقع. “43

وهكذا، يتبين لنا أن تأسيس المسرح التونسي كان في بدايات الستين من القرن الماضي، مع دعوة الحبيب بورقيبة إلى تطوير فن المسرح، وإقامته على أسس علمية دقيقة ورصينة. ومن ثم، فقد أعطى محمد بن عياد الانطلاقة الأولى لبداية المسرح التونسي، بعد عودته مباشرة من فرنسا.

المبحث السادس: مرحلـــة التجريب والتأصيل

انطلق المسرح التونسي في التجريب والتأصيل  منذ فترة السبعينيات من القرن العشرين ، فواصل ذلك التحديث مع امتداد سنوات الألفية الثالثة متأثرا في ذلك بالمسرح الغربي  المعاصر من جهة، ومستفيدا من تقنيات المسرح العربي التجريبي والاحتفالي من جهة أخرى. دون أن ننسى تأثره المباشر والواضح بدعوات وتنظيرات وبيانات مسرح الهواة  بالمغرب الذي انتعش فعليا في سنوات السبعين من القرن العشرين انتعاشا كبيرا.

ومن أهم المخرجين التونسيين الذين حاولوا التجريب والتأصيل عز الدين المدني، والمنصف السويسي، والفاضل الجعايبي، و الحبيب شبيل، والفاضل الجزيري، وجليلة بكار، ومحمد إدريس، والحبيب المسروقي، وتوفيق الجبالي، وحسن المؤذن…

ومن أهم العروض المسرحية التي شاهدتها –  شخصيا- بتونس، مسرحية تراثية احتفالية بامتياز،  تميل نحو البحث والتجريب والتأصيل، والاعتماد على السينوغرافيا التراثية، وهي مسرحية (آخر بني سراج) للمخرج التونسي حسن المؤذن. وقد عرضت المسرحية بقاعة الفن الرابع بتونس العاصمة، يوم الجمعة 17 دجنبر2010م.

 وتتناول المسرحية ما تعرض له الموريسكيون التونسيون (بنو سراج) في الأندلس من قمع وطرد واضطهاد من قبل محاكم التفتيش. ومن  ثم، تركز المسرحية على استعراض فرجة تراثية رمزية بالخصوص، تسرد قصة حب رومانسية وجدانية رائعة، تذكرنا بمسرحية (هرناني) لفيكتور هيجو. تجمع تلك القصة الغرامية بين حاكم من حكام بني سراج والجميلة الإسبانية بلانكا. بيد أن هذه العلاقة تنتهي بالفشل والفراق والانفصال بسبب ما كان يفرض على العاشق العربي من شروط وضغوطات لايستطيع تحملها، كالدخول في المسيحية ، والتخلي عن الإسلام، والاندماج في المجتمع الإسباني الجديد. لكن هذا العاشق العربي كان ، في الحقيقة، يكن لحبيبته حبا جنونيا ، يتخطى كل العقائد والأديان والملل والنحل. وكان يسعى جاهدا إلى أن يكون الحب من أجل الحب بعيدا عن الطقوس والرسوم والفوارق الشكلية. وبالتالي، فالمسرحية تعبير عن الصراع بين الضفتين: الشمال والجنوب. وبالتالي، تثبت هذه المسرحية أن العلاقة التي تجمع بين الأنا والآخر ينبغي أن تنبني على أساس التواصل والتعايش والتسامح والصداقة والمحبة بعيدا عن كل تبشير ديني، وتمييز جنسي، واضطهاد طائفي، وتطهير عرقي.

ولقد استخدم المخرج ، في هذا العرض التراثي الاحتفالي، تقنية الراوي الذي يتخذ دور المخرج المفسر، فيوقف الأحداث للتعليق عليها شرحا ونقدا واستفسارا. ويعني هذا أن المسرحية لها متن (مشاهد التمثيل والتشخيص)، وحاشية (مشاهد الراوي المفسر). كما شغل المخرج لعبة المرايا بامتياز، باستخدام خيال الظل، والاستعانة بألواح شفافة التي تظهر من جهة على أنها بمثابة مسرح مصغر يتخذ أبعادا وظائفية سيميائية متنوعة. ومن جهة أخرى، تتحول المرايا إلى أبواب.

ومن أهم المكونات التراثية الأخرى التي تزين السينوغرافيا المشهدية الملابس التراثية، والماكياج، والفلامنكو، والإكسسوارات  الأصيلة، كالقنديل والسيف وغيرها من الملحقات الثانوية التكميلية.

ومن هنا، فالسينوغرافيا الفضائية التي تستند إليها مسرحية( آخر بني سراج) للمخرج حسن المؤذن هي سينوغرافيا تراثية احتفالية ذات طابع تاريخي بامتياز، تقوم على التخييل، والترميز، والتناص، والإحالة على ثنائية الشرق والغرب.

وأخيرا، يتبين لنا  – مما سبق ذكره- أن المسرح التونسي قد عرف مجموعة من المراحل التاريخية المتميزة. فقد تأثر في البداية بالمسرح الأمازيغي، والمسرح اليوناني، والمسرح الروماني. لكنه انكمش مرحليا  إبان الفتوحات الإسلامية بسبب موقف الإسلام من الشعر والتصوير والتمثيل. إلا  أنه قد تبلور في شكل  فرجات فطرية، سميت بالأشكال  الفرجوية ماقبل المسرحية كخيال الظل، والكراكوز، والراوي، والمداح، والمقلداتي مع الفترة العثمانية، لينتهي هذا المسرح بفترة التأسيس و النشأة مع محمد بن عياد، ولتعقبها أيضا فترة التجريب والتأصيل مع ظهور مخرجين مسرحيين متميزين كعز الدين المدني، والمنصف السويسي، والفاضل الجعايبي، و الحبيب شبيل، والفاضل الجزيري، وجليلة بكار، ومحمد إدريس، والحبيب المسروقي، وتوفيق الجبالي….ومن ثم، فقد أضحت تونس فضاء متميزا لكثرة الفرق المسرحية ذات الطابع الليبرالي، فقد وصل عددها – اليوم- إلى أكثر من مائة وخمسين شركة إنتاج مسرحي44.

الفصل الثاني:

المسرح التونسي والثورة على الفضاء الركحي

يعتبر المسرح التونسي من أهم المسارح المغاربية تحديثا وتجريبا وطليعية، على الرغم من كونه قد ظل رهين العلبة الإيطالية لمدة طويلة، وبقي أيضا أسير الجدران الأربعة، وحبيس الكواليس الخلفية والديكورات الواقعية والطبيعية والتاريخية والعبثية، يعيد مسرحة الريبرتوار الغربي اقتباسا، وترجمة، واستنباتا، وإعدادا، وتونسة. بيد أنه في العقود الأخيرة، بدأنا نرى مجموعة من التجارب المسرحية التي تحمل مشعل التغيير والتثوير داعية إلى مسرح بديل يعوض المسرح الغربي، من خلال الانفتاح على فضاءات ركحية وسينوغرافية عربية حقيقية، تتسم بالانفتاح، والتنوع، والأصالة، والاحتفالية ، والشعبية، والمشاركة التواصلية الحميمة بين الممثل والجمهور، وتشغيل التراث بصيغ فنية وطرائق جمالية مختلفة بشكل من الأشكال.

إذاً، ما أهم هذه التجارب المسرحية التونسية التي تمردت عن الفضاء الركحي الكلاسيكي؟ وما تصوراتها حول مفهوم الفضاء الركحي والسينوغرافي تنظيرا وبناء وتشكيلا ودلالة ؟ هذا ما سوف نثبته في المباحث التالية:

المبحث الأول: بيان الأحد عشر والدعوة إلى مراجعة الفضاء المسرحي

ارتأى أحد عشر مثقفا تونسيا أن يكتبوا بيانا نظريا يتكون من تسع فقرات، من أجل إعادة النظر في المسرح التونسي بصفة عامة، ومراجعة هندسة الفضاء الركحي بصفة خاصة. ومن هؤلاء الموقعين على ذلك البيان فرج شوشان، وعلي اللواتي، ومحمد الغربي، وتوفيق الجبالي، وعبد الله رواشد، وتوفيق عبد الهادي، ويوسف الرقيق، والناصر شمام، والمنصف السويسي، وأحمد المراكشي، والهادي الحيوي. وقد نشر البيان في شكل مقال على كامل الصفحة السادسة من جريدة لابريس(La Presse) بتاريخ 30 غشت 1966م 45.

ومن أهم الأطروحات التي يتضمنها البيان هو إعادة النظر في هندسة المسارح التونسية، وهذا ما يقوله البيان جليا في الفقرة السابعة:” إن هندسة الفضاءات الركحية يجب أن تراجع. نخص بالذكر دور الشعب وقاعات المعاهد ودور الثقافة ودور الشباب التي يجب على المهندسين أن يعيدوا النظر في هندستها وفضائها وتجهيزاتها لضمان الوظيفة الاجتماعية لمسرح الإيقاظ والتوعية. هذا المسرح الذي سيركز يوما في كل مكان من تونس، وليس فقط في العاصمة الداعية إلى اللامركزية المتنقلة، باختصار المستعمرة للداخل…الدعوة إلى اللامركزية نعم، ولكن أين المركز؟

إن تصميم وتقسيم الفضاءات المخصصة للمسرح ينبغي أن تراجع ليتمكن أكبر عدد ممكن من الجماهير استغلال فرصة مشاهدة العروض في نفس الظروف المريحة، وبأقل التكاليف طبعا، وذلك لنتجنب التفرقة الثقافية والتمييز الاجتماعي.”46

ومن هنا، يدعو البيان إلى المراجعة، وإعادة النظر في هندسة الفضاءات الركحية التي لم تعد تتماشى، بأي حال من الأحوال، مع المعايير المعاصرة في بناء المسارح الغربية المتطورة. كما يدعو البيان من جهة أخرى إلى تطبيق سياسة اللامركزية الثقافية في توزيع المسارح وبنائها، وتقريبها من المواطنين ، مع ضرورة تقديم الفرجات المسرحية بأثمنة تكون في متناول الجميع درءا لكل تفاوت اجتماعي أو طبقي.

المبحث الثاني: المنصف السويسي وتثوير الفضاء المسرحي.

يعد المنصف السويسي من كبار المخرجين المسرحيين التونسيين الذين جربوا الكثير من الأشكال المسرحية الغربية والشرقية تجريبا وتأصيلا. وقد أسس فرقة الكاف منذ منتصف الستينيات (1966-1967م) من القرن العشرين. وقدم معها مجموعة من الأعمال المسرحية اقتباسا، وإعدادا، وتأليفا، وتمثيلا، وإخراجا، وتركيبا. بيد أنه انتقل إلى توظيف المسرح التراثي، بعد أن تأثر بالكثير من أعمال عزالدين المدني كتابة وتنظيرا ورؤية.

ومن أهم المسرحيات التي حاول فيها المخرج المنصف السويسي تثوير الفضاء الركحي مع فرقته الكاف، مسرحية ( ديوان الزنج) لعز الدين المدني، حيث تشكل هذه المسرحية – حسب محمد عبازه- ” منعرجا خطيرا ، في ملامسة التجربة المسرحية التونسية والممارسة الإبداعية في المسرح التونسي على عدة مستويات:ديكور متحرك، تفجير للفضاء الركحي، وظيفة جديدة للممثل وتعامل جديد مثلما قام به محمد رجاء فرحات الذي مثل دور الطبري في المسرحية، يظهر من كل زوايا المسرح حول المشاهدين، تبادل المواقع بين الممثلين والمشاهدين، ممثل يخرج من المقاعد المخصصة للجمهور ويصعد على الركح ثم يخرج ويأتي غيره، وهكذا دواليك، تقنية لعلها تبدو الآن عادية، ولكنها في ذلك الوقت كانت بدعة، كانت تقنية عجيبة غريبة يمارس خلالها الممثل لعبة الخفاء والتجلي، لعبة الحقيقة والخيال، لعبة الممثل والمشاهد، فكسر الجدار الرابع وأصبحت القاعة تنفذ إلى الركح والركح يحيل إلى القاعة، انطلاقا من أن المسرحية أعدت بالأساس خصيصا لمسرح الحمامات وماشابهه من مسارح الهواء الطلق(أي فضاء مفتوح)، فقد بادر بتشكيل العرض، وصياغة إيقاعه بناء على هذا المعطى، بأن عمد إلى فرقعة الفضاء التقليدي، وإدماجه ضمن فضاء أشمل يستغل فيه كل حيز(مهما كان حجمه وعمقه) قادر على توليد المعنى، وتنظيم فضاء ركحي جديد يقوم على تقاطع الأمكنة وتجاوب الدلالات.””47

ومن هنا، يكون المخرج التونسي المنصف السويسي من السباقين إلى تغيير المسرح السائد في المسرح المغاربي بصفة عامة، والمسرح التونسي بصفة خاصة، بتثوير الفضاء المسرحي، وتطبيق المنهج البريشتي في تكسير الجدار الرابع، والاستعانة بآراء النظرية الاحتفالية المغربية في خلق تواصل حميم بين الممثل والمتفرج فوق الخشبة المسرحية، مع استخدام سينوغرافيا أصيلة ، كتشغيل السينما، وتوظيف المونتاج والفوانيس داخل هذه المسرحية التاريخية. ومن ثم، فإن ” تفجير الفضاء في مسرحية (ديوان الزنج)، كان بالنسبة إلى المنصف السويسي اختيارا جماليا، فكريا واعيا أثبت من خلاله أنه مخرج متميز، مخرج متمكن من أدواته الإبداعية والجمالية والإيديولوجية، مخرج حرفي تعرف على جل المدارس الإخراجية تنظيرا وممارسة.”48

ولم يفجر المنصف السويسي الفضاء الركحي فحسب، بل فجر كذلك السينوغرافيا الفضائية،  معتمدا في ذلك على أستاذه بريشت؛” إذ استغل في هذا العرض [مسرحية ديوان الزنج ] ثلاثة أركاح منفصلة لكن التواصل بينها كان موجودا عن طريق حبكة درامية وقع تدارسها مع المجموعة، وخاصة المدني ورجاء فرحات وزبير التركي، وكان التطور تطورا منظورا وحكائيا، ومن جهة أخرى، استغنى عن الديكور، واكتفى بالمنصات المتحركة لما تتيحه من يسر وسرعة في الانتقال من مكان إلى آخر أو المرور من وضعية إلى أخرى والتداول بين السرد والتشخيص أو بين اللعب الفردي والتعبير الجماعي…”49

وننتهي من هذا كله إلى القول : إن المخرج المنصف السويسي سيبقى من أهم العلامات المسرحية المضيئة بتونس بصفة خاصة، والعالم العربي بصفة عامة؛ لأنه ساهم في تحقيق قطيعة مع المسرح السائد الذي كان يمثله النجم علي بن عياد مع فرقة تونس، والتمرد عن البناية الغربية، بتثوير الفضاء الركحي والسينوغرافي، بربط الفضاء المسرحي بالتراث والرؤية الاحتفالية رغبة في التجريب، والتحديث، والتأصيل، والتأسيس لمسرح عربي جديد، بقالب جديد، وروح ودماء جديدة. وقد تأثر في ذلك أيما تأثر ببريشت، وجان فيلار، وعز الدين المدني. فضلا عن تأثره بالجماعة الاحتفالية المغاربية ( الطيب الصديقي، وعبد الكريم برشيد، وعبد القادر علولة…).

المبحث الثالث: عز الدين المدني وتنويع الأركاح.

حاول المسرحي التونسي عزالدين المدني تثوير المسرح العربي من داخل الكتابة المسرحية، بتشغيل الفضاء التراثي الاحتفالي، وتقسيم الخشبة المسرحية إلى أركاح متنوعة حسب منهج الاستطراد والاستخراج.

إذاً، ما تصور عز الدين المدني للفضاء المسرحي والسينوغرافي؟

يرى عزالدين المدني أنه آن الأوان للتفكير في مسرح عربي جديد يكون بديلا للمسرج الغربي القائم على اللعبة الإيطالية. ولن يتم تحصيل فضاء مسرحي جديد إلا بالنبش في التراث العربي الأصيل، وفهم المجتمعات العربية فهما عميقا ودقيقا.وفي هذا، يقول الباحث:” إنه كان خليقا بالعرب المعاصرين، لما تبنوا الفن المسرحي الغربي، وأعطوه الصدارة في آدابهم وفنونهم، ألا يتبنوا منه إلا النوع فقط، وأن يتركوا جانبا الفنيات ، والأشكال، والاتجاهات التي رافقت النوع، والتصقت به، وكادت تمتزج بأصوله… وإنه كان ضروريا بالنسبة إليهم أن ينظروا في جوهر المسرح، وأن يمعنوا النظر في أدواته، وأن يتأملوا في اتجاهاته. ولئن شرع البعض منهم- في السنوات الأخيرة الماضية- في تغيير ملامح المسرح في العالم العربي ، بإدخال فنية المداح والحلقة ، أو باستعمال فنية الكراكوز، أو بتحوير التركيب الدرامي شيئا ما، على نمط المقامات مثلا،فإنهم مازالوا لم يتعمقوا التعمق الكافي في المجتمع العربي: كالمجتمع التونسي أو المجتمع الجزائري، الذي هو ليس إلا تضاريس لحضارة ألفية لها خصائصها ، ومميزاتها، وأصباغها، ونظرتها، وباختصار علاماتها الحضارية التي لا تزال في أشد الحاجة القصوى إلى سبر مجهولها ، وموؤودها، واقتفاء آثار ثوريتها، ومتابعة منعرجات صعودها وهبوطها.

وإنه لا يكفي بالنسبة إلى رجل المسرح – سواء كان مؤلفا أو مخرجا- أن يستعمل المداح مثلا في عمله المسرحي حتى يكون عمله هذا عربي المشاغل والإطار، تونسي الواقع والآمال، شعبي المشاكل والمطامح، طلائعي النزعة والشكل والإخراج، فلأن المداح أو الكاركوز أو إسماعيل باشا ليس إلا ظاهرة فولكلورية ذات أصباغ زاهية يرتاح إليها الصبي، وينتعش بها الشيخ، وتزهو في عين الزائر، كفولكلورية الأماكن السياحية.. لم تأخذ من العلامات الحضارية إلا بعض القشور.

ونقصد بهذا كله أنه يجب التعمق في التفكير العربي، والتشبع به، والوقوف على خصائصه، والرسوب في أغواره، وتفهم رقائق مداركه…”50

ومن هنا، فقد كتب عزالدين المدني لمسرح عربي تراثي احتفالي ، يتجاوز بناية المسرح المغلقة، بارتياد فضاءات تراثية جديدة تتسم بالأصالة والانفتاح والمشاركة الجماعية.” وإذا كان نص المدني يلتقي مع بعض تقنيات الكتابة المسرحية الغربية، شأنه في ذلك شأن كل نصوص رواد البحث عن قالب مسرحي عربي، فهذا يعود إلى ما أسميناه بالعناصر الثابتة في فن المسرح، كما أن النص، مهما اجتهد فيه صاحبه، لا يعدو أن يكون صيغة مسرحية مقترحة تتبلور على يد المخرج وأثناء العرض المسرحي.

أما في مجال المسرح، فقد قاده هذا الاعتقاد إلى اقتراح مشروع مسرحي عربي يستلهم بعض الأشكال الواردة في الكتابة القديمة، ويجعل المتفرج في علاقة مباشرة مع الأحداث الممسرحة دون اضطراره إلى العودة لمواصفات المسرح في شكله الإيطالي”51.

وينبغي أن يتميز هذا الفضاء المسرحي ، بطابعه العربي والمشرقي، تميزا واختلافا عن الفضاء المغلق أو المدرج في المسرح الغربي. وفي هذا السياق، يقول المدني:” لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ألا يتبنوا من الفن المسرحي إلا النوع وحسب، لأنهم بتقليدهم التقنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثلا، قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الأوربية، في حين أن الشرق القديم قد عرف حق المعرفة بتقنيات وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح العربي المعاصر…”52

وعليه، يدافع عز الدين المدني عن فضاء مسرحي تراثي شعبي ، وسينوغرافيا احتفالية، حيث يقول عز الدين المدني في مقدمة مسرحية(ديوان الزنج):”هذا الديوان المسرحي يريده المؤلف ، والمخرج، والممثلون، والممثلات والفنيون أن يكون حفلة فنية جماهيرية بما في كلمة حفلة من دلالات شتى:

– في اللغة، وهي التجمع والاحتشاد.

– في النفس وهي الإمتاع الذي يوقظ الحواس.

– في الاجتماع وهي المشاركة بالمشاعر حينا وبالفكر حينا. وربما بالجسم أحيانا.

– في الفكر وهي الجدال والسجال بين القوى المتناقضة، والمتعارضة والتي يعدو بعضها على بعض إلى بلوغ التركيب.

– في الفن المسرحي وهي الخلق الجماعي المتضافر الرفيع الذي يتوجه الانسجام الفني في كل جزئية من جزئياته.”53

وفي هذا الإطار كذلك، يقول الباحث المغربي مصطفى رمضاني:” وبعد استقرائنا لنصوص عز الدين المدني المسرحية، وجدنا أنه يطبق بذكاء دعوته إلى مسرح عربي احتفالي. فقد جمع إلى جانب تلك الخصائص الفنية التراثية، خصائص من المسرح الغربي الشعبي نحو التغريب وشعبية الفرجة المسرحية، والتباعد، والمسرح داخل المسرح، تقنيات شعبية أخرى من المسرح الشرقي.” 54

ويعني هذا أن عزالدين المدني يمثل تجربة مسرحية تونسية طليعية بامتياز، تدعو إلى تغيير المسرح السائد، وتثويره جذريا، بالبحث عن فضاءات ركحية جديدة، وتشغيل سينوغرافيات تراثية واحتفالية لصيقة بالمجتمع العربي الإسلامي. وفي هذا السياق، يقول عز الدين المدني:”ونحن حينما نعود إلى التراث العربي الإسلامي، وخصوصا إلى فنياته الجمالية، لا نريد بذلك أن نستدل على صحة مفهوم الأصالة المزعوم، وأن نقدس هذا التراث أكثر مما يطيق من التقديس، وأن نجعله بالتالي صالحا لكل زمان ومكان، وإنما نعتبره مجموعة من القيم، والأفكار، والأشكال مازالت في حاجة أكيدة إلى التقصي، لاسيما أنها لم تحظ بالدرس في معظمها، وإنها قد أصيبت بداء التأويل الزائغ، وإنها دفنت بنظرة الإعجاب، والقداسة والتقليد…كما نعد هذه المجموعة من الأشياء جدلية مع حاضرنا ومستقبلنا رغم أن خيط الزمان قد انقطع لأسباب يعرفها العام والخاص مدة قرون طويلة.

ومتى أدركنا هذا الكلام حق الإدراك، فإننا سنمسك حتما عن تقليد ما نجم مكتملا من التراث- سواء كان عروضا شعريا أو صيغا صرفية أو أجهزة فلسفية أو أشكالا معمارية- وسنعمل حتما على تطويرها ، وتعصيرها، وتثويرها حتى يربط من جديد خيط التاريخية بينها وبيننا بصفة حركية متفاعلة دائما.”55

وعليه، فلقد شغل عزالدين المدني الفضاء الاحتفالي، واعتمد على تنويع الأركاح فوق الخشبة المسرحية بسبب اعتماده كثيرا على تقنيتي الاستطراد والاستخراج التراثيين. ومن هنا، يقترح” المؤلف أن يقع استعمال أركاح متعددة لإخراج هذا الديوان المسرحي [يقصد ديوان الزنج] ، وذات أحجام وارتفاعات متعددة ومختلفة، وأن تكون- قدر الإمكان- مندمجة في الجمهور حتى تلائم ماجاء في هذا الديوان المسرحي من عمل درامي.”56

ويرى عبد الكريم برشيد أن عز الدين المدني من أكثر الكتاب التونسيين تعاملا مع الفضاء التراثي بمفهومه الإيجابي التأسيسي والتأصيلي، باستخدام فن الحلقة ومجموعة من الأشكال الفرجوية التراثية: “وفي المسرح التونسي لم يكتف عز الدين المدني بعملية الـتأليف المشترك بين المؤلف والمخرج، أو باستخدام المداح، أو مسرح الحلقة، أو التركيب الدرامي على نمط المقامات بحيث يصبح العرض مزيجا من فن التمثيل وفن الرواية، بل استغل تقاليد المسرح الأخرى من فنون الأراجوز والمقلد والبهلوان والمهرج والفواصل التمثيلية الشعبية.

في كل هذه المحاولات نجد العودة إلى الشخصيات والمواقف التي تميز الفنون الشعبية في عروض البهلوانات والأراجوزات والمقلدين والحكواتية، كما نجد العودة إلى منابع التراث في  القصص الشعبي والمقامات وألف ليلة وليلة، وإلى شكل السامر الشعبي الذي يتحقق إما في مسرح حلقة مفتوح أو حتى داخل المسرح التقليدي.”57

ومن هنا، يوظف المدني فضاء مسرحيا احتفاليا منقسما إلى عدة أركاح ، متبعا في ذلك تقنية الاستطراد التي تقوم على تناول مجموعة من المواضيع داخل مسرحية واحدة، حيث ينتقل الكاتب من موضوع محوري بارز ، لينتقل – بعد ذلك- إلى محاور أخرى مكملة ومعضدة دراميا، كما كان يفعل الجاحظ في كتاباته، كالحيوان والبيان والتبيين ، مثلا، حيث كان المدني ينتقل من الشعر إلى النثر، ومن الجد إلى الهزل، ضاربا الأمثال، ذاكرا العبر، جامعا بين الكلام والأغراض والملح والطرائف… والمقصود من الاستطراد عند المدني هو استخدام أركاح متعددة لإخراج المسرحية، مع الحفاظ على الاندماج الموجود بين المتكلم والمتلقي قدر الإمكان.

ومن المعلوم، أن المدني قد سبق أن وظف هذه التقنية السردية التراثية في مسرحية( الحمال والبنات)، بيد أن تقنية الاستطراد تعد عيبا فاحشا في النثر العربي القديم وبلاغته بسبب التداخل في الأغراض، والتراكب في الأحاديث ، وإلقاء الكلام على عواهنه، وتكديسه على بعضه البعض58.

وهكذا، فإن تقنية الاستطراد آلية مسرحية جديدة ومبتكرة من قبل عز الدين المدني من أجل تأصيل المسرح العربي شكلا ودلالة ووظيفة، ويعرفها بقوله: ” والاستطراد عندي هو ذاك في خطوطه العريضة ، وفي مستوياته التي ذكرتها والتي لم أذكرها، حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له، وتتفاعل معها، بلا اعتباط، ولا عفو، ولا خلط، وإنما عمدا وقصدا، من أجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم أوجهه.

لذلك اقترحت في بداية هذا البيان أن تكون أركاح هذا الديوان المسرحي متعددة، ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامي.”59

ونخلص، من هذا كله، إلى أن المسرحي التونسي عزالدين المدني يعد من المسرحيين التونسيين السباقين إلى تكسير الفضاء الغربي الكلاسيكي المرتبط بالعلبة الإيطالية، واستبداله بفضاء ركحي احتفالي متنوع الأركاح والجنبات والمساحات.

المبحث الرابع: فرقة المسرح الجديد وتفجير السينوغرافيا التقليدية.

تعد فرقة المسرح الجديد (Le Nouveau Théâtre) بتونس من أهم الفرق المسرحية التي اختارت منحى التجريب والتحديث والتأصيل، بالبحث عن فضاء مسرحي جديد، يحدث قطيعة فنية وجمالية مع الركح الغربي  التقليدي بناء وتشكيلا ودلالة ورؤية. وتضم فرقة المسرح الجديد، بعد ظهورها سنة 1975م، كوكبة من الممثلين والمبدعين المسرحيين التونسيين الأكفاء الذين تكونوا من قبل في فرق مسرحية جهوية انتشرت في ربوع تونس شرقا وغربا ، ولاسيما فرقة قفصة المعروفة بإنتاجاتها الرائدة والمتميزة. ومن أهم هؤلاء المسرحيين الذين ينتمون إلى فرقة المسرح الجديد، طوال مسيرتها الإبداعية، الفاضل الجعايبي، وفاضل الجزيري، وجليلة بكار، وسمير العيادي، ورؤوف بن عمر، ومحمد رجاء فرحات، ومحمد إدريس، ورشيد المناعي،والحبيب المسروقي، ومحمد الهرابي، ولمين النهدي، وفتحي الهداوي، وكمال التواتي، وصباح بوزويتة…

وقد جاءت هذه الفرقة المسرحية الجديدة لتقطع صلتها مع المسرح الغربي، بتقديم مسرح تقدمي شعبي في ضوء المنهج البريشتي60، ومنهج أريان مينوشكين وجان فيلار، معتمدة في ذلك على الارتجال والعمل الجماعي، وتوظيف تقنيات السينما والفلاش باك في عدة مسرحيات، كمسرحية( العرس)، ومسرحية( التحقيق)، ومسرحية(غسالة النوادر)، ومسرحية( لام)، ومسرحية( عرب)، ومسرحية( العوادة) …

وينضاف إلى ذلك أن فرقة المسرح الجديد قدمت مجموعة من العروض المسرحية المتميزة في فضاءات ركحية مفتوحة ، وخاصة في قاعات الفنون التشكيلية، والكنائس، وساحات الهواء الطلق. فقد قدم العرض المسرحي ( العرس) في قاعة عروض تشكيلية (قاعة يحيى). وتؤشر هذه المسرحية على الرغبة الأكيدة لدى الفرقة لتفجير السينوغرافيا التقليدية تشكيلا وقالبا وبناء ورؤية؛ حيث جلس الجمهور على جانبي الفضاء الركحي. و” من حيث المبدأ لاتمثل قاعة يحيى فضاء ملائما لتقديم عرض مسرحي، ولكن على مستوى النية والرغبة في وضع الجمهور على جانبي الفضاء الركحي، وكان العرض باستمرار يحيل على جمهور الناحية اليمنى من خلال فضاء الركح، وبعيدا عن اللعب والأداء، فإن صورة الجمهور المقابل باعتبارها انعكاسا للذات على صفحة مرآة…”61

ويعني هذا أن المسرح الجديد قد انتقل بالمسرح التونسي من الفضاءات المغلقة والمدرجة إلى فضاءات عامة مفتوحة. في ” حين، اعتاد المسرحيون التونسيون، قبل المسرح الجديد، على تقديم عروضهم إما في فضاءات العلبة الإيطالية وإما في الفضاءات المفتوحة، سواء المسارح الرومانية( قرطاج، ودقة، وبلاريجيا)، أو رباط المنستير، وفضاء الحمامات بعد إنجازه، لكن جماعة المسرح الجديد ذهبوا إلى فضاءات غير تقليدية ( قاعات عروض الفنون التشكيلية، الكنائس…)، وبذلك أربكوا السينوغرافيا التقليدية التي تعود عليها المسرح التونسي، وتعود عليها جمهوره ومشاهدوه. إن الخروج من الفضاءات التقليدية أربك النقاد والمتابعين لعروض المسرح الجديد بين مؤيد معجب بهذه النظرة السينوغرافية الجديدة، وبين مدين مستكبر لها،” ففي كل لحظة من لحظات المسرحية، كان أحد صفوف المتفرجين أكثر حظا مقارنة بالصف الآخر الذي لا يستطيع إدراك لعب الممثلين، وحتى نصهم في بعض الأحيان، بما أن هؤلاء يديرون ظهورهم للجمهور…”62

بهذا الطرح السينوغرافي الجديد، انطلقت فرقة المسرح الجديد بتونس في العطاء،  وإنتاج التصورات النظرية والممارسات الركحية من أجل تحقيق هوية المسرح العربي، وتجسيد كينونته تأسيسا وتأصيلا. وبالتالي، يمكن القول : إن فرقة المسرح الجديد تعد من الفرق المسرحية التونسية  الأولى التي فكرت في التخلص من الفضاء المسرحي التقليدي(العلبة الإيطالية) بعد فرقة الكاف ، وتعويضه بفضاءات شعبية جماهيرية متحررة على غرار دعوة المسرحي المغربي الطيب الصديقي، حيث يقول أعضاؤها:”لقد رفضنا أمكنة العرض التقليدية والركح التقليدي، وأخذنا نمثل في الملاعب الرياضية وقاعات الأندية وفي الميادين، ونحن نحضر ونجهز هذا المكان لغرضنا بما ينسجم مع طبيعة كل عرض”63، ولكن:” إذا ذهبنا إلى مكان ولم نجد به سوى صالة العرض التقليدية، فإننا نكسر هذه التقليدية بإجراء تعديلات على الركح والصالة.”64

وربما تكون الفرقة قد تأثرت بالجماعة الاحتفالية المغربية من جهة، أو تأثرت بجان فيلار، أو أريان مينوشكين، أو بريشت من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يقول محمد عبازه:” خرج الجماعة على السينوغرافيا التقليدية، ويبدو أنهم كانوا متأثرين ببريشت ومدرسته وتلامذته وكانت أريان منوشكين واحدة من الذين تأثروا بهم، إذ إنها قدمت عرض مسرحية الثورة الفرنسية 1789 م في معمل قديم لصنع ذخيرة الأسلحة. ذلك، أن الخروج على تقليدية فضاء العرض قاد أيضا إلى تغيير الركح، إذ إنهم رفضوا الشكل التقليدي المفصول عن الجمهور:”مصطبة ينتهي امتدادها بعتبة الباب، في حين تبقى جوانبها الثلاثة الأخرى مفتوحة، وتشكل حيزا أشبه بالمنزل أو الصراط بتعبير أدق…تلك هي أولى سمات الفضاء الركحي لـ” غسالة النوادر”، وهو فضاء بما هو عليه من حميمية تقلص المسافة بين الرائي والمرئي، وحيادية (تيسير الانتقال من حيز/ مجال/ إلى آخر)…”

مما لاشك فيه أن الفضاء المسرحي يحيل على مرجعية ضاربة الجذور في التاريخ حيث بدأت عند الإغريق، ورفض هذا الفضاء ومرجعياته الدخول في فضاءات سينوغرافية ذات مرجعية مناقضة لعملهم يعتبر نوعا من خلخلة المقدسات، وكسر الإيهام والقطع مع المرجع الأرسطي في المسرح، وهذا أيضا من مؤثرات بريشت ومدرسته ومنهجه الذي يسعى من خلال ذلك إلى رفض المسرح بصفته مكانا لخلق الإيهام الخادع والجو المشابه للطقس الديني : الصالة المنظمة، إضاءة الخشبة الضعيفة، الفصل الواضح بين الخشبة والجمهور…65″

وقد ساهم  هذا الانزياح عن البناية التقليدية أن حققت عروض المسرح الجديد نوعا من التواصل الحميم بين الممثلين والجمهور، ونوعا من المشاركة الفعالة والبناءة بين قطبي العملية المسرحية: الملقي والمتلقي.”ومما يمكن ذكره في هذا المجال أن مجموعة المسرح الجديد عرضت في مسرح الهواء الطلق بالحمامات، مع إحداث تغييرات فيه على مستوى الركح.إذ إنهم رفعوه إلى مستوى مقاعد الجمهور حتى تتغير كل معطيات العلاقة بين الجمهور والممثلين بإحداث التواصل بين الطرفين وإيجاد الحميمية الغائبة عن المسرح الكلاسيكي. وبالتالي، لم يعد هناك فصل بين الباث والمتقبل، واختلط الممثلون مع المشاهدين ، وأصبح الجو عائليا، وأصبح الكل مساهما في العرض. ومن هنا، جاءت الإضافة التي عملت مجموعة المسرح الجديد على إيجادها من خلال طرحها لمسألة تثوير السينوغرافيا التقليدية، وطرح بديل يجعل للمسرح وظيفة لا أن يكون معبدا للنسيان، بل وسيلة للتغيير وللتعليم، وبالتالي، حمل رسالة ثقافية حضارية نبيلة وسامية لغرس القيم الإنسانية الخالدة.”66

هذا، وقد قدمت جماعة المسرح الجديد مسرحية( عرب) سنة 1986م، وعرضت في فضاء ديني مقدس، وهو كنسية القديس لويس في قرطاج. وقدمت الجماعة كذلك مسرحية ( التحقيق) في مهرجان الحمامات عام 1977م، ” على أساس رفض الأشكال المسرحية السائدة، ومقاطعتها، والمضي في طريق جديد يشقونه لأنفسهم بقوة العضلات والأفكار والتصميم على التغيير”.67

وعلى أي، فقد عملت فرقة المسرح الجديد على تجديد المسرح العربي بصفة عامة، والمسرح المغاربي بصفة خاصة، بتحطيم الأشكال المسرحية المستوردة، وإحداث القطيعة مع التراث المحلي من أجل تجريب أشكال مسرحية أخرى. وفي هذا الصدد، يقول أعضاء فرقة المسرح الجديد بتونس:” أردنا تحطيم الأنماط التقليدية المهيمنة فيما يتعلق بالنص المسرحي ووسائل الإنتاج وتوزيع المسؤوليات والأدوار داخل الفرقة… أردنا القطيعة مع التراث المحلي ومع المسرح المستورد بكافة أشكاله”.68

وهكذا، تعد فرقة المسرح الجديد من الفرق المسرحية التونسية السباقة إلى الثورة على بناية المسرح الغربي، بدعوتها إلى تقديم الفرجة المسرحية في فضاءات شعبية مفتوحة وعامة، يتحقق فيها التواصل المباشر بين الممثلين والجموع المحتشدة. وقد نجحت هذه الفرقة المسرحية الطليعية في ذلك أيما نجاح، بعد أن ثارت ثورة عارمة على المسرح السائد والكائن، فاختارت فضاءات مسرحية جديدة حسب رؤية الفرقة المستقبلية الممكنة.

المبحـــث الخامس: المسرح المثلث وفضاء الصورة

يرتبط المسرح المثلث بالفنان التشكيلي التونسي الحبيب شبيل الذي أسس جمعية مسرحية بهذا الاسم سنة 1978م دلالة على عشقه لعالم الهندسة والأشكال البصرية التكعيبية. وقد عرف الحبيب شبيل بإنجازاته المتميزة والرائدة في مجالات فنية متنوعة: الرسم، والتشكيل، والسينوغرافيا، والتأليف، والإخراج المسرحي، والموسيقا، والسينما. وما يميز هذا المبدع المسرحي هو اعتماده على مسرح الصورة كالمخرج العراقي صلاح القصب الذي قدم تنظيرات كثيرة في مجال مسرح الصورة، أو سيميائية الصورة المسرحية.

وقد كتب الحبيب شبيل مجموعة من النصوص المسرحية، مثل: ( أولاد باب الله)، و( القافزون)، و(الكريطة/ العربة)، و(السيرك)،و(سنفونية الحجارة)، و( موال)، و(كرنفال)،و(الدرس)، و( قصر اللوح)،و( الدولاب)،…

وعلى أي حال، فقد حاول الحبيب شبيل أن يخفف شيئا من سلطة الكلمة لحساب الحركة والصورة، مع تشغيل الفضاء السيميائي القائم على الصورة البصرية أو المرئية، بتحويل الركح إلى فضاء ثري بالعلامات، والرموز، والإشارات، والأيقونات السيميائية. كما حاول الحبيب شبيل الانتقال من الفضاءات المغلقة إلى فضاءات مفتوحة، كما تدل على ذلك نصوصه المسرحية، كمسرحية( موال) التي قال عنها محمد عبازه:” إن الفضاء الذي كانت تعمل فيه الفرقة لم يكن فضاء مسرحيا مغلقا، وهو مايعبر عنه بالعلبة الإيطالية أو غيره من الفضاءات المغلقة بأربعة جدران، بل رأينا أنه عبارة عن ساحة تستغلها الفرقة لتقديم عروضها، ولم تكن هذه الساحة مفتوحة على اللانهائي، أو على الأفق، بل تحيط بها بناءات عالية وعمارات شاهقة…”69

ويمكن القول : لقد تحول الفضاء الركحي، في مسرحيات وعروض الحبيب شبيل، إلى مسرح سيميائي بامتياز، يعتمد على صور فضائية تشكل ما يسمى بمسرح الصورة، أو بلاغة مسرح الصورة. ويذكرنا هذا بأنطونان أرطو وصلاح القصب اللذين حاولا جاهدين أن يحدا من هيمنة الكلمة الحوارية، وتعويضها بالحركة والصور المرئية البصرية التي تثير الراصد ببلاغتها الرمزية وعوالمها السيميائية.

المبحث السادس: الفاضـــل الجزيري والفضاء الصوفي المناقبي.

يعتبر الفاضل الجزيري من أهم المسرحيين التونسيين الذين حاولوا تجديد المسرح التونسي بشكل عام، بعد أن تلقى تعليمه بلندن مع فرقة المسرح المفتوح (Open theatre)،  من سنة 1969 إلى سنة 1970م. وأيضا بعد أن اكتسب تجربة مسرحية رائدة في فرقة قفصة . وقد ساهم  بأعمال مسرحية رائدة ومتميزة ، كمسرحية( الجازية الهلالية) (1974م)، ومسرحية( الكريطة) (1975م)، ومسرحية( زغندة وعزوز في صالة الفتح)، ومسرحية( الحضرة) ، ومسرحية( النوبة)، فضلا عن مجموعة من الأعمال السينمائية، كفيلم ( طريق الأولياء)، وفيلم (العبور)، وفيلم (الثلاثون).

ويعد الفاضل الجزيري من الذين حاولوا التعامل مع التراث منذ التسعينيات من القرن العشرين، من خلال منطلق تراثي وصوفي ومناقبي بغية تأصيل المسرح العربي، وتأسيسه هوية وتشكيلا وبناء. ومن هنا، يقترب فاضل الجزيري من المسرحيين الاحتفاليين الذين تعاملوا مع التراث تعاملا إيجابيا، في ضوء رؤى وتصورات متنوعة ومختلفة. وبالتالي، فلم ” نسمع عن الفاضل الجزيري أنه أسس هيكل إنتاج مستقل، بعد أن غادر رفاقه القدامى، ولكنه أنتج أعمالا شدت المشاهد التونسي، وهي أعمال ابتعدت نوعا ما عن المسرح بمفاهيمه المختلفة الأرسطي والبريشتي والعبثي، وقد دخلت ميدانا أوسع وأرحب يمكن أن نطلق عليه الفرجة أو الإتنوسينولوجيا ، مثل هذا التوجه للفاضل الجزيري نحو التراث الموسيقي بشقيه الديني والدنيوي خصوصية تستحق التوقف عندها؛ لأنه برهن من خلالها عن رغبته في البحث، والنبش في الذاكرة الشعبية الموسيقية ليخرج ببحث تجريبي متميز. استطاع الفاضل الجزيري أن يتحرر من ضغوطات الركح بأبعاده المختلفة والمسرح بضوابطه المتعددة، وطرح تصورا ورؤية تجريبية للعروض الفرجوية، بدأ الفاضل الجزيري يغازل المأثور الشعبي ، وخاصة الموسيقى منه مع الفاضل الجعايبي وجليلة بكار في مسرحية( العوادة…)”70

وإذا كان الفاضل الجعايبي – مؤسس فرقة فاميليا صحبة زوجته جليلة بكار- قد قدم عروضه المسرحية الاجتماعية(مشكل الشيخوخة عند المرأة- صراع الأجيال- عنف العلاقة الزوجية- الحب الضائع- الخيانة الزوجية- الجنس…)، ضمن فضاء مسرحي عار . يذكرنا، بشكل من الأشكال، بالمسرح الفقير عند غروتفسكي، مع الاستعانة بالتقنيات السينمائية وحركات مسرح النو الياباني، فإن الفاضل الجزيري قد ركز على مواضيع صوفية ومناقبية وموسيقية في أبعادها الإثنولوجية والمسرحية والحضارية.

هذا، ويعتبر فاضل الجزيري من المبدعين المسرحيين التونسيين الذين ثاروا على الفضاء المسرحي التقليدي، حينما أحس بالاختناق داخل فضاء العلبة الإيطالية، فارتأى أن يتحرر من جدرانها الواقعية والواهمة،  بالانفتاح على الفضاءات العامة، كالانفتاح – مثلا – على فضاء الحضرة الصوفية والمناقبية، وفضاء النوبة الموسيقية.

وهكذا، نجد مسرحية( النوبة) للفاضل الجزيري قد عرضت على ركح مسرح قرطاج الأثري. وقد استخدمت في العرض آلات موسيقية شعبية، وتعاقبت فيه لوحات غنائية كوريغرافية راقصة محورها الجسد، واللحن، والنغم. ويعني هذا أن الفاضل الجزيري تعامل مع التراث الموسيقي الشعبي الذي كان مهمشا أيما تهميش بتونس، بترجيح الإنتاج الغنائي والموسيقي المقنن.

ولم يكتف الفاضل الجزيري بالفضاء الموسيقي فقط ، بل انفتح على فضاءات صوفية مقدسة تتسم بالطابع الروحاني والديني، كما في مسرحيته(الحضرة) التي قدمها في مسرح قرطاج الأثري سنة 1993م71. وقد شارك فيها المريدون إلى جانب مريدتين. و تحيلنا تناصيا على عالم التصوف الطرقي الذي انتشر في الغرب الإسلامي انتشارا كبيرا، فقد كثر فيه الأولياء والمريدون والشيوخ والمجاذيب والكرامات الخارقة. ومن ثم، فقد تناول المسرح المغاربي هذا المقدس، كما في مسرحية ( ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب) للطيب الصديقي، و(الزاوية) لعبد الكريم برشيد،و( الحضرة) للفاضل الجزيري، وما نسمعه من ليالي العيساوية بالمغرب بطابعها الصوفي والمناقبي والدرامي.

 ومن المعلوم أن الحضرة  عند الفاضل الجزيري – كما يقول الناقد التونسي حافظ الجديدي- رمز للحب الإنساني والإلهي، واستثمار لكل الآليات التراثية الفنية والجمالية72.

وقد قدم الفاضل الجزيري فرجة مسرحية أخرى ذات طابع احتفالي غنائي كوريغرافي، في صالة الفتح تحت عنوان( زغندة وعزوز) التي تحيل على أجواء الكباريهات والغناء والرقص المنتشرة بتونس قبل الاستقلال.

وعلى أي،” فبغض النظر عن النتائج هل كانت إيجابية أو سلبية في توظيف التراث الموسيقي الصوفي في عرض فرجوي، نقول: إنها مغامرة فيها الكثير من الجرأة التي لاتتاح إلا لفنان خبر الفن، وعرف تعرجاته، وتمكن من تقنياته، وعاشر إبداعاته المختلفة. تطاول الفاضل الجزيري على المقدس، ولكنه كان في مستوى الحدث والمغامرة والتطاول، فقدم لنا عرضا فرجويا أمتع التونسيين، وعرفهم بتراثهم الذي كاد ينمحي من ذاكرتهم الجماعية؛ لأن وسائل الاتصال الحديثة، وتطور العقليات، أهمل وهمش هذا التراث الضارب الجذور في  ثقافتنا وممارساتنا الروحية. قدم الفاضل الجزيري عرض الحضرة، وتحاورت الطرق الصوفية برقصاتها وألحانها وكلماتها وشموعها ومفروشاتها، وأنجزتها في فضاء هو مسرح قرطاج الأثري، استجاب لمتطلبات العرض خاصة من حيث عدد المتدخلين فيه:” دخل الفاضل الجزيري مع هذا العمل بالفعل مغامرة تجريبية في أعماق المأثور الشعبي الذي أثقلته تراكمات القرون الأسطورية، فنزع الهالة القدسية التي تحيط بهذا المأثور الديني  الروحي وهذه الممارسات الطقوسية..”73

وعليه، يعد الفاضل الجزيري من كبار المخرجين المسرحيين التونسيين الذين شدوا انتباه الراصدين والمتفرجين التونسيين بشكل كبير، بفرجاته المسرحية المفيدة والممتعة التي تقدم أجواء احتفالية موسيقية ومناقبية تتخطى الفضاء الركحي التقليدي إلى فضاءات مسرحية وسينوغرافية مفتوحة، تعبق بأريج الهوية والأصالة والتراث تجريبا وتأصيلا وتأسيسا وتحديثا.

المبحث السابع: توفيق الجبالي والفضاء الفرجوي الكوريغرافي

ارتبط المخرج التونسي توفيق الجبالي بتقديم الفرجة المسرحية في إطارها التراثي الأصيل،حيث تمثل فضاء (الفداوي) ، وهو تراث تونسي عريق. ويظهر هذا التراث في عمله الطويل( كلام الليل) الذي أخرجه في حلقات بلغت العشرة. وبعدها، تعامل مع بريشت في( مذكرات ديناصور)، وهو عمل مقتبس عن حوار المنفيين.74

ومن هنا، فقد ركز توفيق الجبالي على الفضاءات التراثية والكوريغرافية، مع الاستعانة بالموروث الشعبي، والأمثال، والكلام المأثور، والعبارات التراثية المسكوكة، وتشغيل الحكايات التراثية، والثقافة الشفوية الأصيلة.

وبعد ذلك، اتجه توفيق الجبالي منحى تجريبيا آخر على هدي الحبيب شميل، حيث اعتمد على مسرح الصورة. ثم طلق الكلمة الحوارية الثرثارة، وحد من غلوائها وشططها،فقدم مسرحية( عطيل) التي لا علاقة لها بمسرحية عطيل لشكسبير إلا من باب العنوان، وقد شارك بها توفيق الجبالي في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي سنة 1998م. وقد استندت المسرحية إلى الكوريغرافيا الجسدية، في تجسيد علاقة حب عنيفة بين شاب وفتاة، بتصوير حكاية سيميائية بصرية قوامها: الحب، والغيرة، والموت.

 أما على المستوى السينوغرافي، فقد قدم توفيق الجبالي عرضه في شكل صور فضائية تشكيلية وبصرية أيقونية كأنها لوحة تشكيلية في طور الاكتمال.أما في مسرحية  ( ضد مجهول) ، فقد استعمل توفيق الجبالي سينوغرافيا الجنس والعري ، حيث قدم العرض لوحات ومشاهد إباحية تظهر ممثلات فوق الركح يتعرين للتعبير عن ظلم الإنسان وقهره. 75

نستنتج – مما سبق ذكره- أن المسرح التونسي قد تحرر- اليوم – فضائيا وركحيا وسينوغرافيا، بعد أن كان حبيس الجدران الأربعة، ورهين القاعة الإيطالية المغلقة لفترة زمنية طويلة بسبب التقليد للمسرح العربي، وانتشار سياسة التبعية والتغريب والاستلاب، والاعتماد على الغرب في كل شيء، حتى في الآداب، والفنون، والطقوس.

ومن هنا، فقد فكر مجموعة من المسرحيين التونسيين في الثورة على المسرح السائد، والتمرد عن الفضاءات الأرسطية المغلقة، باختيار فضاءات جماهيرية وشعبية مفتوحة، والاستعانة بالفرجة التراثية إن تجريبا، وإن تأصيلا ، وإن تأسيسا.

 وقد تحقق ذلك التجديد الطليعي بالفعل مع بيان الأحد عشر، وتجربة المنصف السويسي مع فرقة الكاف، وتجربة عزالدين المدني التراثية، وتجربة المسرح الجديد، وتجربة جمعية المثلث مع الحبيب شميل، وتجربة الفرجة الإثنوسينولوجية مع الفاضل الجزيري، وتجربة المسرح الفقير مع الفاضل الجعايبي، وتجربة المسرح الكوريغرافي مع توفيق الجبالي.

الفصل الثالث:

المسرح التراثي عند عز الدين المديني

يعتبر عز الدين المدني من أهم المبدعين التونسيين الذين مالوا إلى التجريب والحداثة والإبداع والابتكار في مجال المسرح. فقد قدم تصورا مسرحيا نظريا يعتمد على مسرحة التراث، وقراءته من جديد نقدا وحوارا وكتابة من أجل إعادة بنائه من جديد، وأيضا لفهم الواقع  الآني والحاضر، وقراءته قراءة تاريخية معاصرة قائمة على التغيير والتثوير والنقد العميق. ولاشك أن عز الدين المدني يقترب في تعامله مع التراث من النظريات الاحتفالية العربية التي أعطت اهتماما كبيرا للاحتفال الذي يجمع بين المتكلم والمتلقي. ومن المعروف أيضا أن عز الدين المدني أعطى الكثير الكثير للمسرح التونسي تأليفا وإخراجا وتنظيرا، فرفع من شأنه وشأوه لكي يتبوأ المكانة التي يستحقها بين المسارح العربية الأخرى.

 إذاً، ما التصور النظري الذي يتبناه عز الدين المدني؟ وكيف تعامل مع التراث؟ وما مرجعياته الفكرية والمعرفية في ذلك؟ وما الآليات التي استعملها أثناء محاورة التراث ونقده؟

المبحث الأول: التصــور النظـــري

يعد عز الدين المدني من أهم المنظرين العرب الذين انشغلوا بقضية التنظير المسرحي، والاهتمام بهوية المسرح تأسيسا وتجريبا وتأصيلا بغية البحث عن قالب مسرحي عربي. وقد انطلق المدني من ملاحظة هامة تتمثل في أن كثيرا من الدراميين العرب قد استوحوا من الغرب الفن المسرحي، وأخذوا منه التقنيات والفنيات بشكل ساذج ومستلب. بيد أن هناك من الباحثين من حاول أن يقدم مجموعة من التصورات المسرحية الداعية إلى التأصيل، لكن بدون فهم حقيقي للواقع العربي، وبدون قراءة متمعنة وعميقة للتراث، فسقطوا في النظرة الفنية السياحية والفلكلورية والإثنوغرافيا المجانية والسطحية.وفي هذا النطاق، يقول الباحث:” إنه كان خليقا بالعرب المعاصرين ، لما تبنوا الفن المسرحي الغربي، وأعطوه الصدارة في آدابهم وفنونهم، ألا يتبنوا منه إلا النوع فقط، وأن يتركوا جانبا الفنيات ، والأشكال، والاتجاهات التي رافقت النوع، والتصقت به، وكادت تمتزج بأصوله…وإنه كان ضروريا بالنسبة إليهم أن ينظروا في جوهر المسرح، وأن يمعنوا النظر في أدواته، وأن يتأملوا في اتجاهاته. ولئن شرع البعض منهم- في السنوات الأخيرة الماضية- في تغيير ملامح المسرح في العالم العربي ، بإدخال فنية المداح والحلقة ، أو باستعمال فنية الكراكوز، أو بتحوير التركيب الدرامي شيئا ما، على نمط المقامات مثلا،فإنهم مازالوا لم يتعمقوا التعمق الكافي في المجتمع العربي: كالمجتمع التونسي أو المجتمع الجزائري، الذي هو ليس إلا تضاريس لحضارة ألفية لها خصائصها ، ومميزاتها، وأصباغها، ونظرتها، وباختصار علاماتها الحضارية التي لا تزال في أشد الحاجة القصوى إلى سبر مجهولها ، وموؤودها، واقتفاء آثار ثوريتها، ومتابعة منعرجات صعودها وهبوطها.

وإنه لا يكفي بالنسبة إلى رجل المسرح – سواء كان مؤلفا أو مخرجا- أن يستعمل المداح مثلا في عمله المسرحي حتى يكون عمله هذا عربي المشاغل والإطار، تونسي الواقع والآمال، شعبي المشاكل والمطامح، طلائعي النزعة والشكل والإخراج، فلأن المداح أو الكاركوز أو إسماعيل باشا ليس إلا ظاهرة فولكلورية ذات أصباغ زاهية يرتاح إليها الصبي، وينتعش بها الشيخ، وتزهو في عين الزائر، كفولكلورية الأماكن السياحية..لم تأخذ من العلامات الحضارية إلا بعض القشور.

ونقصد بهذا كله أنه يجب التعمق في التفكير العربي، والتشبع به، والوقوف على خصائصه، والرسوب في أغواره، وتفهم رقائق مداركه…”76

وبالتالي،  ليس المدني من الباحثين والدارسين الذين ينكرون وجود المسرح لدى العرب، بل يثبت، بشكل قطعي وحاسم، وجود كتابة درامية في التراث العربي الإسلامي. كما يبدو ذلك جليا في كتب التاريخ، والمقامات، ورسالة الغفران، وكتب الآداب والمعارف والفنون. وفي هذا، يقول:” فعلا لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين أن لايتبنوا من الفن المسرحي إلا النوع، لأنهم بتقليدهم الفنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثلا، قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الأوروبية، في حين أن الشرق القديم قد عرفه حق المعرفة بتقنيات، وأشكال أخرى  لا تماثل تقنيات المسرح الغربي وأشكاله.”77

علاوة على ذلك، يشير عز الدين المدني إلى أن المسرحيين المحدثين والمعاصرين انساقوا وراء المسرح الغربي، ولم يهتموا بعنصرين ضروريين ومتكاملين هما: التراث والنزعة الشعبية ذات الطابع الواقعي. وفي هذا السياق، يقول المدني :” ابتعد رجال المسرح العرب شططا عن اهتمامات الشعب، وعن شواغل الإنسان التونسي مثلا، وعن قضايا المجتمع في بلادهم لأنهم لم يقيموا أي اعتبار للتراث الذي يحتفظ به الشعب في صدره، والذي يصونه الإنسان العربي في حافظته.فصار المسرح في البلاد العربية- إلا ماقل وندر منه- إما ضربا من التلهية وإما عنوان المفارقة على الرغم من أن هذا المسرح مكتوب بالعربية…”78

 هذا، وقد سعى المدني جادا في البداية للتوفيق بين الكتابة النصية التراثية العربية والقالب الغربي. وقد دفعه تفكيره في قضايا المسرح – شكلا ومضمونا- إلى  طرح تصور نظري  جديد ، يسمى في منظورنا بالمسرح التراثي . وهو قريب من التصور الاحتفالي كما عند عبد الكريم برشيد والطيب الصديقي. ويقترن هذا التصور النظري بالتراث اقترانا جدليا، فلا يمكن أن نفصل التراث عن أعمال المدني، فقد كتبت جلها بطريقة تراثية، وتشتغل على آليات ومقومات تراثية . وفي هذا، يقول الباحث المغربي محمد الكغاط:” وإذا كان نص المدني يلتقي مع بعض تقنيات الكتابة المسرحية الغربية، شأنه في ذلك شأن كل نصوص رواد البحث عن قالب مسرحي عربي، فهذا يعود إلى ما أسميناه بالعناصر الثابتة في فن المسرح، كما أن النص، مهما اجتهد فيه صاحبه، لا يعدو أن يكون صيغة مسرحية مقترحة تتبلور على يد المخرج وأثناء العرض المسرحي.

أما في مجال المسرح، فقد قاده هذا الاعتقاد إلى اقتراح مشروع مسرحي عربي يستلهم بعض الأشكال الواردة في الكتابة القديمة، ويجعل المتفرج في علاقة مباشرة مع الأحداث الممسرحة دون اضطراره إلى العودة لمواصفات المسرح في شكله الإيطالي”79.

علاوة على ذلك، ينظر عز الدين المدني إلى المسرح من خلال رؤية تراثية احتفالية عيدية متميزة، تقوم على الحفل، والتجمع، والاحتشاد، والمشاركة الوجدانية والذهنية والحركية بغية عرض فرجة مسرحية احتفالية ممتعة ومفيدة تثير الجمهور الحاضر. وتقترب هذه الرؤية النظرية كثيرا من رؤية عبد الكريم برشيد . وتمتح أيضا مقوماتها التطبيقية من الممارسات الميزانسينية للطيب الصديقي ، حيث يقول عز الدين المدني في مقدمة مسرحية( ديوان الزنج):” هذا الديوان المسرحي يريده المؤلف ، والمخرج ، والممثلون، والممثلات والفنيون أن يكون حفلة فنية جماهيرية بما في كلمة حفلة من دلالات شتى:

– في اللغة، وهي التجمع والاحتشاد.

– في النفس وهي الإمتاع الذي يوقظ الحواس.

– في الاجتماع وهي المشاركة بالمشاعر حينا وبالفكر حينا. وربما بالجسم أحيانا.

– في الفكر وهي الجدال والسجال بين القوى المتناقضة، والمتعارضة والتي يعدو بعضها على بعض إلى بلوغ التركيب.

– في الفن المسرحي وهي الخلق الجماعي المتضافر الرفيع الذي يتوجه الانسجام الفني في كل جزئية من جزئياته.”80

ويتبين لنا أن عز الدين المدني كاتب ومخرج مسرحي احتفالي وتراثي بامتياز، يعطي للاحتفال دورا كبيرا في خلق متعة العرض المسرحي، فيركز على ضرورة الجمع بين الملقي والمتلقي في حفلة فنية، ينصهر فيها الجميع ضمن مسرح شامل. وفي هذا الإطار، يقول الباحث المغربي مصطفى رمضاني:” وبعد استقرائنا لنصوص عز الدين المدني المسرحية، وجدنا أنه يطبق بذكاء دعوته إلى مسرح عربي احتفالي. فقد جمع إلى جانب تلك الخصائص الفنية التراثية، خصائص من المسرح الغربي الشعبي نحو التغريب وشعبية الفرجة المسرحية، والتباعد، والمسرح داخل المسرح، تقنيات شعبية أخرى من المسرح الشرقي.” 81

ويعني هذا أن الاحتفالية عند عز الدين المدني تعتمد على مجموعة من الخاصيات المشتركة مع الاحتفاليين العرب، ومنها الخاصيات التالية: الاحتفال، والمشاركة الجماعية، والشعبية، والواقعية، وتوظيف التراث، وتكسير الجدار الرابع، والاستطراد، والاستخراج، وخاصية التقعير والتمسرح…

المبحث الثاني: المرجعيــات النظريــة

ينبني تصور عز الدين المدني، في بناء نظريته المسرحية الجديدة القائمة على مسرحة التراث، على مجموعة من الخلفيات المعرفية والفكرية والإيديولوجية، ويمكن حصرها في المرجعيات التالية:

* الاعتماد على الاحتفالية العربية والمغربية على حد سواء؛

* تمثل التجربة الإخراجية عند الطيب الصديقي في تعامله مع التراث؛

* الاستفادة من التراث العربي الإسلامي؛

* الانفتاح على المسرح الغربي القديم والحديث والمعاصر؛

* استدعاء النظرية البريخيتية من خلال توظيف خاصية التغريب والتباعد؛

* استلهام النظرية الميتامسرحية القائمة على التقعير والارتجال والتمسرح وفضح اللعبة المسرحية؛

*التأثر بالمسرح الشرقي؛

* الانطلاق من تصورات الإخراج المعاصر كدعوات بيتر بروك، وكوردون كريك، وأنطونان أرطو، وغيرهم…

هذه هي باختصار أهم الخلفيات النظرية والمرجعية التي اعتمد عليها عز الدين المدني في كتابة مؤلفاته المسرحية ، وإخراج نصوصه الإبداعية.

المبحث الثالث: موقــف عزالدين المــدني من التــراث

نشر الكاتب المسرحي التونسي عز الدين المدني، في (مجلة الحياة الثقافية) بتونس سنة 1978م، مقالا نظريا بعنوان( نحو كتابة مسرحية عربية حديثة)82، يدافع فيه عن نظرية مسرحية عربية جديدة، تقوم على تشغيل التراث بطريقة إبداعية هادفة، قوامها التجديد والانزياح والتثوير، وتحقيق الحداثة الحقيقية. ولا يقتصر هذا التراث على ماهو عربي فقط، بل كان المدني يعود إلى التراث اليوناني لإعادة كتابته من جديد ، بالتحوير الدراماتورجي والتفاعل الحواري. ومن ثم، يتنوع عنده المقتبس التراثي من تراث أسطوري( مسرحية الفرس) لأسخيلوس، وتراث عربي تاريخي وأدبي ، وتراث عالمي إنساني. وذلك كله من أجل تأسيس مسرحي عربي وتأصيله، كما  يصرح بذلك في كثيرا من كتاباته وحواراته وعروضه المسرحية:” لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ألا يتبنوا من الفن المسرحي إلا النوع وحسب، لأنهم بتقليدهم التقنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثلا، قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الأوربية، في حين أن الشرق القديم قد عرف حق المعرفة بتقنيات وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح العربي المعاصر…”83

ويعني هذا أن عز المدني قد تنبه إلى ظاهرة لافتة للانتباه ، وهي أن كثيرا من الدراميين العرب الذين يدعون إلى تأسيس المسرح العربي وتأصيله، مازالوا متشبثين بالقالب الأرسطي بناء وتحبيكا وتفضية، مرتبطين أيما ارتباط بالتقنيات المسرحية والإخراجية الغربية في أثناء التوظيف الدرامي والاشتغال الميزانسيني. ومن هنا، يدعو عز الدين المدني إلى مسرح عربي أصيل مضمونا وقالبا وتقنية، بالاستفادة من الكتابات العربية التراثية، سواء أكانت تاريخية أم أدبية أم صوفية. وهذا ما يثبته الطيب الصديقي أيضا حينما يصرح أن العرب قد عرفوا المسرح، والدليل على ذلك المقامات التي تحمل في طياتها عناصر درامية هامة:” وبما أن هنالك في الشرق والغرب من يقول ليس لدى العرب مسرح في حين أنه كان لدى العرب مسرح دائما، وإن لم يكن لديهم رجالات مسرحيون. والمقامات بالنسبة إلي سواء للهمذاني أو للحريري كلها مسرحيات، أشكال مسرحية مضبوطة مائة بالمائة، وأنا أحاول ما أمكنني داخل هذه الأعمال أن أجد مرة ثانية أشكالا جديدة للمسرح العربي لا ارتباط لها بالأشكال المعروفة في الغرب. أنا مقتنع من حيث الأشكال أن عندنا مسرحا عربيا أصيلا لا يمت بصلة إلى المسارح الأخرى”84.

وإضافة إلى ذلك، لا يدعو المدني إلى تقديس التراث وتمجيده، بل يحث على التعامل مع التراث باعتباره قيما، ومواقف، وأفكارا، وأشكالا . ثم، يدعو إلى نقدها وغربلتها وتبيان زيفها وهرائها، وتمييز الغث من السمين، كما فعل في مسرحية( ديوان الزنج) التي استخدم فيها آلية التحوير والمعاصرة والتثوير والتغيير.وفي هذا، يقول:” ونحن حينما نعود إلى التراث العربي الإسلامي، وخصوصا إلى فنياته الجمالية، لا نريد بذلك أن نستدل على صحة مفهوم الأصالة المزعوم، وأن نقدس هذا التراث أكثر مما يطيق من التقديس، وأن نجعله بالتالي صالحا لكل زمان ومكان، وإنما نعتبره مجموعة من القيم، والأفكار، والأشكال مازالت في حاجة أكيدة إلى التقصي، لاسيما أنها لم تحظ بالدرس في معظمها، وإنها قد أصيبت بداء التأويل الزائغ، وإنها دفنت بنظرة الإعجاب، والقداسة والتقليد…كما نعد هذه المجموعة من الأشياء جدلية مع حاضرنا ومستقبلنا رغم أن خيط الزمان قد انقطع لأسباب يعرفها العام والخاص مدة قرون طويلة.

ومتى أدركنا هذا الكلام حق الإدراك، فإننا سنمسك حتما عن تقليد ما نجم مكتملا من التراث- سواء كان عروضا شعريا أو صيغا صرفية أو أجهزة فلسفية أو أشكالا معمارية- وسنعمل حتما على تطويرها ، وتعصيرها، وتثويرها حتى يربط من جديد خيط التاريخية بينها وبيننا بصفة حركية متفاعلة دائما.”85

وهكذا، لايعتمد عز الدين المدني على آلية المعاصرة من أجل خلق التراث، واستدعائه من جديد، بل يستحضر التراث بتقنياته السردية من أجل تأصيل المسرح العربي وتأسيسه. ويعني هذا أنه يجرب التقنيات والوسائل الموظفة في الكتابة التراثية من أجل استعمالها وتشغيلها في نصوصه وعروضه المسرحية. بل يطالب عز الدين المدني الدراميين العرب أن تكون لديهم نصوصهم المسرحية التي تميزهم. كما ينبغي أن تكون لديهم تقنياتهم المسرحية الخاصة بهم .وفي هذا الصدد، يقول: ” اهتم عز الدين المدني، وهو يبحث عن كتابة مسرحية حديثة، بالتراث العربي، ليس باعتباره نصوصا قديمة يمكن إحياؤها بتقنيات معاصرة، ولكن باعتبارها نصوصا تحمل معها تقنياتها الخاصة بها. وهذه التقنيات تصبح بدورها مجال بحث وتطوير، ومن خلال هذه العملية يمكن الوصول إلى النص المسرحي العربي دون أن نعتمد اعتمادا كليا على ما نسميه بالتقنية الغربية.وإذا كان للعرب نصوصهم، وتقنيتهم في كتابتها، فماذا يمنع من أن يكون لهم نصهم المسرحي المتميز؟”86

وفي الأخير، يرى عز الدين المدني أنه من الضروري التعامل مع التراث المسرحي في ضوء الرؤية الواقعية الجدلية الشعبية، وأن يكون هناك تواصل حميم بين التراث المسرحي والجمهور شكلا ومضمونا ولغة وتعبيرا وحوارا. وفي هذا، يقول المدني:” ورب مسرحية تونسية عربية تتحدث عن بلادنا، وعن شعبنا وعن قضايانا، وعن مطامحنا، لا تقاسمنا خبزنا ولا ملحنا، ولا تراوح أنفاسنا، ولا تتسلل إلى كنه سلوكنا،، ولا تستجيب لرغائبنا، ولا ترقباتنا- البادية منها والملتبسة- لأن المؤلف أو المخرج لم يستطع تطويع الأداة التي بين يديه، ولم يقدر بالتالي على ربط ذلك الخيط الخفي السري الشفاف بين تعبيره الفني والجمهور الذي يتحمل ذلك التراث في صدره، ويصونه في حافظته، ويضطلع بشواغل اليوم المرهقة، ويحلم بالآمال العريضة، ولم يكن في وسعه أن يلائم عمله الفني مع تلك النظرة الشاملة إلى الكون التي اكتسبها الإنسان العربي. فيظل عمله هذا معوجا بين يديه، وكأنه من إنتاج مؤلف أجنبي يكتب باللغة العربية رغم أن حوارها عربي كما قلت آنفا، وديكورها ” باب سويقة ” ,أشخاصها عرب أسماؤهم: محمد وأحمد وصالح…

فلهذا كله، يتجاوز الفن المسرحي في كثير من الأحيان اللغة، والمضمون…”87

وهكذا، نستشف أن رؤية عز الدين المدني المسرحية رؤية تراثية احتفالية بامتياز، تجمع بين التنظير والتأليف والإخراج، وتنطلق من خاصية التأسيس والتأصيل اعتمادا على توظيف تقنيات الكتابة التراثية بشكل متعدد ومتنوع.

المبحث الرابع: أنواع التراث في مسرح عز الدين المدني

يتكئ عز الدين المدني على عدة مصادر متنوعة وثرية في كتابة مسرحياته، وتقديم عروضه الميزانسينية. فهو ينفتح على التراث الإنساني والعالمي. كما ينفتح على التراث اليوناني والغربي . كما يقترن مسرحه، بالخصوص، بالتراث العربي الإسلامي توظيفا ، وتشغيلا، ومعالجة، وحوارا،  ومناصا، وإعادة كتابة . وهكذا، لم  ” تقتصر تجربة المدني على التراث العربي، إذ رأيناه يعود إلى التراث اليوناني، وإلى مسرحية ” الفرس” لأسخيلوس، هذه المسرحية التي مهدت السبيل أمام من جاء بعد مؤلفها ليخرج عن قاعدة الكتابة انطلاقا من الأسطورة، ذلك أن” الفرس” تقوم على حدث عاصره المؤلف اليوناني، وشارك في أهم أطواره، غير أن المدني لا يعتبر عمله اقتباسا، مهما كان نوع هذا الاقتباس، وإنما يعده بمثابة إعادة للكتابة، هدفها تقريب هذه المسرحية من حساسية جمهور اليوم وأذواقه وأفهامه، كما أنها وسيلة لإنقاذ الآثار الأدبية والفنية، وإسعافها بالحداثة، وهي فوق كل ذلك منافسة يدخلها المدني ولو كانت مع أول كاتب درامي عرفه تاريخ المسرح”88.

ومن هنا، فاطلاع المدني على التراث المسرحي الكوني والإنساني والعربي الإسلامي كان من أجل التجريب والتحديث بغية الوصول إلى محطة التأصيل والتأسيس.” وهكذا،تعامل المدني، وهو يقوم بتحديث الكتابة المسرحية، مع نصوص من التراث التاريخي والأدبي والشعبي دون أي إحساس بمركب النقص تجاه النص أو القالب الغربي، ودون أن يضع مخططا أو تصورا لقالب يريد أن يحققه، فكما كان العرب القدماء يكتبون النص المسرحي القديم، فإنه بدوره يكتب النص المسرحي الحديث، ذلك أن النص المسرحي، وكل نص هو شبكات، هو أجهزة، هو أنظمة، هو هياكل، هو قنوات، أو هو كل ما تريد من هذه المعاني، لكن مادته من ذاته، وعليه أن يكون ملائما لعصره”89.

ويعني هذا أن المدني استفاد الكثير من المسرح الغربي، واستوعبه جيدا دون السقوط في دوامة الانبهار والتقليد والاجترار.” ويمكن القول أيضا :  إن عز الدين المدني وسعد الله ونوس وروجي عساف ” تأثروا بمنجزات الآخر لكنهم رفضوا الاستلاب”.90

وعلى مستوى التعامل مع التراث العربي ، فقد وظف المدني مجموعة من المصادر السردية والأدبية والمعرفية والفنية، كالحلقة ، والمداح، والحكي، والسرد، والتاريخ، والشعر، وألف ليلة وليلة، وأدب المقامات، والراوي، والسامر. وقد تعامل كذلك مع مجموعة من النصوص الشعرية والنثرية: النص الصوفي، والنص التاريخي، والنص الرحلي، والميتامسرح، والنص الأدبي، وأدب الرسائل، والتراث العروضي…وفي هذا الصدد، يرى عبد الكريم برشيد أن عز الدين المدني من أكثر الكتاب التونسيين تعاملا مع التراث بمفهومه الإيجابي التأسيسي والتأصيلي:” وفي المسرح التونسي لم يكتف عز الدين المدني بعملية الـتأليف المشترك بين المؤلف والمخرج، أو باستخدام المداح، أو مسرح الحلقة، أو التركيب الدرامي على نمط المقامات بحيث يصبح العرض مزيجا من فن التمثيل وفن الرواية، بل استغل تقاليد المسرح الأخرى من فنون الأراجوز والمقلد والبهلوان والمهرج والفواصل التمثيلية الشعبية.

في كل هذه المحاولات نجد العودة إلى الشخصيات والمواقف التي تميز الفنون الشعبية في عروض البهلوانات والأراجوزات والمقلدين والحكواتية، كما نجد العودة إلى منابع التراث في  القصص الشعبي والمقامات وألف ليلة وليلة، وإلى شكل السامر الشعبي الذي يتحقق إما في مسرح حلقة مفتوح أو حتى داخل المسرح التقليدي.”91

وقد تعامل عز الدين المدني مع مجموعة من الكتابات التاريخية التراثية من خلال رؤية تاريخية نقدية معاصرة، مع الحفاظ على تقنياتها الفنية والجمالية.” وإذا كانت هذه الأعمال تستلهم التاريخ القديم، فإنها تضع المتفرج في مواجهة مع هذا التاريخ الذي تأخذ معالجته طابعا علميا يرمي إلى ربط الماضي بالحاضر من أجل تأسيس رؤية مستقبلية.لذلك، نرى المدني قد عبر من قبل عن هذا الاتجاه الحداثي في كتابه” الأدب التجريبي” الذي ينطوي على آراء ومفاهيم بناءة ترمي في معظمها إلى تطوير عملية الكتابة الأدبية والفنية عن طريق الاستفادة لا من الأجانب فحسب، بل ومن الخصائص الجمالية الكامنة في كتب العرب القدامى، وكذا عن طريق إحياء تقنيات السرد والحوار العربيين، وإنقاذ ماهو صالح في التراث، والتسلح بوعي تاريخي يراعي أسس العصرنة والتطور الحضاري”92

وهذه الرؤية المعاصرة في التعامل مع التراث، وربط الماضي بالحاضر، بقراءة الموروث قراءة متأنية عميقة، يركز عليها الناقد المصري علي الراعي كثيرا في قولته التالية:” إن ما يفعله المدني في مسرحياته:” ثورة صاحب الحمار”(1971)، و” رحلة الحلاج”(1973)، و” ديوان الزنج” (1974)، و” الغفران”(1976)، و” مولاي السلطان الحسن الحفضي”(1977) هو في أساسه ما يفعله كل كاتب مسرحي ذكي الفؤاد، صافي البصيرة حين ينظر إلى التاريخ نظرة عميقة، فينفي منه الأجزاء الميتة، ويستبقي الأجزاء الحية، وينظر إلى هذه نظرة عصية، يربط الماضي بمعاناة الحاضر عن طريق تأكيد نقاط الالتقاء المشتركة”.93

ويعني هذا كله أن عزالدين المدني طوع التراث الإنساني لخدمة المسرح التونسي بصفة خاصة، وخدمة المسرح العربي بصفة عامة. والهدف من ذلك كله هو تأسيس  مسرح عربي جديد، بقالب درامي جديد، وبروح وأنفاس جديدة.

المبحث الخامس: آليــات التعامــل مع التــراث

وظف عز الدين المدني مجموعة من الآليات المسرحية في تعامله مع التراث، كآلية المفارقة التي تكمن في استخدام عناوين غريبة ومتناقضة في مجال المسرح، كالجمع بين الشعر والتاريخ في مسرحية( ديوان الزنج)، والجمع بين الرحلة والمسرح كما في مسرحية ( رحلة مسرحية)، والجمع بين الرسالة والمسرحية في نصه الدرامي ( رسالة مسرحية)، والجمع بين المسرح والعروض كما في مسرحية( على البحر الوافر). وهذه الطريقة معروفة في كتب التراث التي كانت تتعدد فيها الموضوعات، وتتنوع فيها الرسائل والفصول والأبواب. ومن هنا، فالمدني يشغل عناوين تراثية مفارقة ومثيرة ومحيرة تربك أفق انتظار القارئ.

هذا، ويوظف المدني آلية الاستطراد. وتقوم على تناول مجموعة من المواضيع داخل مسرحية واحدة؛ حيث ينتقل الكاتب من موضوع محوري بارز ، لينتقل – بعد ذلك- إلى محاور أخرى مكملة ومعضدة دراميا. كما كان يفعل الجاحظ في كتاباته كالحيوان والبيان والتبيين مثلا، حيث كان ينتقل من الشعر إلى النثر، ومن الجد إلى الهزل، ضاربا الأمثال، ذاكرا العبر، جامعا بين الكلام والأغراض والملح والطرائف… والمقصود من الاستطراد عند المدني هو استخدام أركاح متعددة لإخراج المسرحية، مع الحفاظ على الاندماج الموجود بين المتكلم والمتلقي قدر الإمكان.

ومن المعلوم أن المدني قد سبق أن وظف هذه التقنية السردية التراثية في مسرحية( الحمال والبنات). بيد أن تقنية الاستطراد تعد عيبا فاحشا في النثر العربي القديم وبلاغته بسبب التداخل في الأغراض، والتراكب في الأحاديث ، وإلقاء الكلام على عواهنه، وتكديسه على بعضه البعض94.

لكن المدني حول الاستطراد إلى آلية درامية إيجابية لجذب المتفرج فنيا وجماليا، وإثارته ذهنيا ووجدانيا وحركيا. وفي هذا الصدد، يقول عز الدين المدني:” لقد سبق للمؤلف أن استعمل في أثر أدبي عنوانه: ” الجمال والبنات” بعض الخصائص الجمالية التي وردت في الكتب الأدبية العربية القديمة، كـ” الأغاني ” لأبي الفرج الأصفهاني، و” الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، و”كليلة ودمنة” لابن المقفع، و” التوابع والزوابع ” لابن شهيد الأندلسي… وهو يعيد استعمال هذه الخصائص بأكثر دقة في هذا الديوان المسرحي.95″

و كان المدني يحب كثيرا خاصية الاستطراد كما في كتاب ( العقد الفريد) لابن عبد ربه؛ لأن صاحبه” استطاع أن ينتقل بكل يسر من الأدب إلى السياسة، ومن السياسة إلى الفقه، ومن الفقه إلى الطعام، ومن الطعام إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى النوادر، ومن النوادر إلى أجناس البشر، ومن أجناس البشر إلى المصوغ، ومن المصوغ إلى النبات، ومن النبات إلى المعمار، ومن المعمار إلى الكلام، ومن الكلام إلى التاريخ، ومن التاريخ إلى الرحلات…ثم يقال تشويش، ثم يقال فوضى، ثم يقال خلط!!!”

هذا، وإن تقنية الاستطراد آلية مسرحية جديدة ومبتكرة من قبل عز الدين المدني من أجل تأصيل المسرح العربي شكلا ودلالة ووظيفة، ويعرفها بقوله: ” والاستطراد عندي هو ذاك في خطوطه العريضة ، وفي مستوياته التي ذكرتها والتي لم أذكرها، حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له، وتتفاعل معها، بلا اعتباط، ولا عفو، ولا خلط، وإنما عمدا وقصدا، من أجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم أوجهه.

لذلك اقترحت في بداية هذا البيان أن تكون أركاح هذا الديوان المسرحي متعددة، ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامي.”96

وقد مكنه الاستطراد من” تركيب العمل الدرامي تركيبا مرنا، حركيا، متفاعلا جدا، بل جدليا، وأعانه في الانصراف أو يكاد عن فنيات المسرح الغربي- الكلاسيكي منه والحديث الطلائعي- ودفعه بفضل ذلك كله إلى الاقتراب أكثر فأكثر من الأرضية الذهنية، إن لم يقم عليها عمدا، لاسيما في الماضي الحضاري، وبالتالي، في الواقع الشعبي الحالي، ليكون في نهاية المطاف الضمير النابض للمستقبل، كما ينصهر فيها جميعا، ويتزوج منها، وينطق بأسمائها.”97

وقد استخدم المدني آلية أخرى في التعامل مع التراث، وهي آلية الاستخراج. وهذه الآلية بمثابة نوع من الاستطراد، كانت موجودة بكثرة في كتب التراث العربي. والمقصود منها أن الراوي يقص الحادثة في خطوطها العامة، ثم يعود ليتحدث عن نقطة جاءت غامضة بغية توضيحها، أوتفسيرها، أوإضاءتها، أو التعليق عليها. ومن الأمثلة على ذلك من (مسرحية الزنج):

” المؤلف: صالح بن وصيف!…

صالح بن وصيف: من؟ من يدعوني باسمي ولا يكنيني؟

المؤلف: أنا مؤلف الديوان؟…كم تملك من الضيعات؟

صالح بن وصيف: ألف ضيعة! …أقطعنيها مولاي الخليفة!!!

المؤلف: وأنت ياجعفر؟…هل فكرت يوما أن للحقيقة وجوها متعددة! وربما متناقضة؟!

أبو جعفر بن جرير الطبري: الحقيقة واحدة: إسلامية، سنية، عباسية. رسمية!

المؤلف: أبا المحامد وأنت؟

يعقوب الصيمري: إن لي مصالح في البصرة قد هدرت بددا. وإن لي ألف قنطار من الحنطة، وألف قنطار من القطن، وألف قنطار من الأثاث والرياش. قد احترقت كلها في حريق البصرة.إني فقير!…

المؤلف: يحيى بن خالد!

يحيى بن خالد: لا تفضحني!

المؤلف: ياشعرور البلاط! ويا ضارب الطبل والزكرة! أنت القائل:

لله درك من سليل خلائف     ماضي العزيمة طاهـــر السربال

أفنيت جميـــع المارقين     فأصبحوا متلددين قد أيقنوا بـزوال

لقد عرفكم الجمهور على حقيقتكم، فكسروا طبولكم وزكرتكم!

يحيى بن خالد: أبا جعفر العسقلاني القاضي بديوان المظالم، تقضي ولا تحكم ، وتنظر ولا تحسم!

العسقلاني: أتولى الإفتاء والإشارة على مولانا الخليفة المعتمد على الله…

المؤلف: عملك في الظاهر بريء، وفي الباطن مغشوش!”98

وهكذا، يتدخل المؤلف أو الراوي باستعراض الشخصيات التاريخية، ومحاكمتها على مواقفها وأفكارها وقيمها، بنقدها، وتسفيه تصرفاتها، وفضح ممتلكاتها، والتنديد بمهادنتها للسلطان.

ومن الآليات الأخرى التي شغلها المدني في تعامله مع التراث ، والتنظير له ، وتعريف النص المسرحي ، نذكر آلية التشذير. والمقصود بها  توظيف الكتابة الشذرية في شكل فقرات قصيرة جدا تتسم بالتقطيع والتنصيص كما في مقاله المعنون بـ( نحو كتابة مسرحية عربية حديثة)99. كما استعان المدني بآليات أخرى في التعامل مع التراث  كآلية المعارضة والتشطير والتخميس قصد إغناء المسرح العربي تأسيسا وتأصيلا. لذا، فقد وظفها المدني في مسرحيته( التربيع والتدوير) لمعارضة رسالة الجاحظ المسماة بالعنوان نفسه( التربيع والتدوير ).

ووظف كذلك تقنية التزامن في أثناء تعامله مع التراث لخلق تماثل متعادل بين الأزمنة تداخلا وتقاطعا وتناوبا. كما نجد ذلك عند الكاتب التونسي عزالدين المدني في جل مسرحياته ، ولاسيما مسرحيته التراثية( ثورة الزنج)، حيث يقيم الكاتب حوارا بين ثورة الزنج وثورة بابك، وثورة القرامطة عن طريق حلاج الحرية للدفاع عن الإنسان وكرامته، منتقدا العسف والإحباط والتمايز داخل المجتمع الإنساني، معتمدا في ذلك على تقنية فنية أخرى، تضفي على بناء النص جماليته وخصوصيته، وتسمى  فنية التزامن: حاضر- ماض100. وبالمناسبة، يقول محمد المديوني:” تتمثل هذه الفنية في وضع الكاتب لمنطقة يجمع فيه بين الحاضر والماضي بشكل يبدوان فيه مندمجين اندماجا: إذ إنه يلح من ناحية على الإطار الزمني فلا نكاد نجد أثرا من آثاره لم يضبط فيه بكل دقة تاريخ وقوع الأحداث ولم يلح فيه على تتابع الأزمان فيه، ولقد استعمل لذلك الغرض طرقا متنوعة تتراوح بين اقتراح اللافتة في بداية كل لوحة يكتب عليها التاريخ والمكان مثلما كان الأمر بالنسبة لمسرحية” ثورة صاحب الحمار”101.

وهكذا، يتبين لنا أن عزالدين المدني قد وظف مجموعة من التقنيات البلاغية والسينوغرافية من أجل تقديم مسرح تراثي عربي متميز، يستوعب جميع التجارب الإنسانية إن مضمونا، وإن شكلا، وإن رؤية.

المبحث السادس: الإنتــاج المســرحي

من المعروف أن عز الدين المدني له مجموعة من الأعمال والعروض المسرحية التي تعبر عن توجهه النظري الذي يتمثل في المسرح التراثي. ولقد بدأ المدني في كتابة نصوصه المسرحية منذ السبعينيات من القرن الماضي. وقد ألف سبع مسرحيات، نشر منها ستا، وعرض ست مسرحيات من 1970إلى 1978م.

ومن أهم أعماله المسرحية الدالة على المنحى التراثي (ثورة صاحب الحمار) ، و( ديوان الزنج)، و( الحلاج)، و( رحلة مسرحية)، و( مولاي السلطان الحفصي)، و( الغفران)، و(رسالة مسرحية)، و( تعازي الفواظم أو تعازي فاطمية)  و( رسالة التربيع والتدوير)، و( على البحر الوافر)102…

وخلاصة القول: يعد عز الدين المدني كاتبا جريئا في تصوراته النظرية، وباحثا مبدعا يبحث عن الجديد الجيد والمستحدث الخارق. ويعتبر كذلك مؤسسا فعليا  للحداثة الدرامية العربية المعاصرة ، بإعادة قراءة التراث من خلال منظور جديد، وتكوين ورشة مسرحية قوامها المغايرة، والتجديد، والانزياح، والتثوير. ومن ثم، ” يقوم مسرح عز الدين المدني على البحث والتجريب والإبداع والابتكار والبحث عن قالب مسرحي جديد وكتابة مغايرة قائمة على المعاصرة والتأصيل. بيد أن هناك من ذهب إلى ما حققه المدني لم يتجاوز مستوى التطلعات”.103

ويكفي عز الدين المدني فخرا أنه فكر في تأصيل المسرح العربي وتأسيسه ، بتشغيل الفنيات والطرائق البلاغية والسردية والحكائية والأدبية والتاريخية الموجودة في التراث العربي القديم. ويعني هذا أنه حاول أن يؤسس مسرحا عربيا روحا وهوية وقالبا، و يخلقه إبداعا وشكلا ومضمونا ووظيفة ورؤية.

الخاتمـــة

وخلاصة القول، يتبين لنا أن المسرح التونسي عرف مجموعة من المراحل التاريخية البارزة، كمرحلة المسرح الأمازيغي إبان التواجد القرطاجني والروماني، ومرحلة الركود المسرحي مع الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا، ومرحلة الأشكال الفطرية والتراثية، ومرحلة تغريب المسرح التونسي مع التواجد الاستعماري، ومرحلة التأسيس والتثبيت في بداية الستينيات من القرن الماضي، ومرحلة التجريب والتأصيل.

ومن هنا، فقد قد انتعش المسرح التونسي إثر الزيارات المتكررة للفرق المسرحية والغنائية المصرية للمدن التونسية، ولاسيما فرقة سليمان القرداحي، وفرقة أبي خليل القباني، وفرقة سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض. كما ازدهر بفضل زيارة الفرق الإيطالية والفرنسية والعالمية لتونس منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا.

ومن جهة أخرى، فقد اهتمت تونس بالمسرح استنباتا وتجريبا وتأصيلا وتأسيسا، بفعل انفتاحها على التجارب المسرحية العالمية، ولاسيما الغربية منها من جهة. والانفتاح على التجارب المسرحية العربية من جهة أخرى. لذا، تعد تونس من الدول المغاربية البارزة في مجال المسرح كتابة، وتأليفا، وتأثيثا، وتمثيلا، وإخراجا، ونقدا، وتنظيرا.

ويعتبر المسرح التونسي من أهم المسارح المغاربية تحديثا وتجريبا وطليعية، على الرغم من كونه ظل رهين العلبة الإيطالية لمدة طويلة، وبقي أيضا أسير الجدران الأربعة، وحبيس الكواليس الخلفية والديكورات الواقعية والطبيعية والتاريخية والعبثية، يعيد مسرحة الريبرتوار الغربي اقتباسا، وترجمة، واستنباتا، وإعدادا، وتونسة.

 بيد أنه في العقود الأخيرة، بدأت تظهر مجموعة من التجارب المسرحية تحمل مشعل التغيير والتثوير داعية إلى مسرح بديل يعوض المسرح الغربي، باستثمار فضاءات ركحية وسينوغرافية عربية حقيقية، تتسم بالانفتاح، والتنوع، والأصالة، والاحتفالية، والشعبية، والمشاركة التواصلية الحميمة بين الممثل والجمهور، وتشغيل التراث بصيغ فنية وطرائق جمالية مختلفة.

ومن أهم المسرحيين الذين نجحوا في عملية التجريب والتأصيل عز الدين المدني، والمنصف السويسي، والفاضل الجعايبي، و الحبيب شبيل، والفاضل الجزيري، وجليلة بكار، ومحمد إدريس، والحبيب المسروقي، وتوفيق الجبالي…

ونستنتج ، مما سبق ذكره، أن المسرح التونسي، بعد أن كان حبيس الجدران الأربعة، استطاع أن يثور على العلبة الإيطالية ، بتقديم نماذج مسرحية تجريبية جديدة، مع تجربة بيان الأحد عشر، وتجربة المنصف السويسي مع فرقة الكاف، وتجربة عزالدين المدني التراثية، وتجربة المسرح الجديد، وتجربة جمعية المثلث مع الحبيب شبيل، وتجربة الفرجة الإثنوسينولوجية مع الفاضل الجزيري، وتجربة المسرح الفقير مع الفاضل الجعايبي، وتجربة المسرح الكوريغرافي مع توفيق الجبالي.

وفي الأخير، يرى محمد عبازه”  أن المسرح التونسي ثري بتوجهاته ومدارسه والفاعلين فيه، ولكنه يعيش مشاكل عديدة ومتعددة، منها أنه لم يتجذر بعد في الثقافة والعقليات باعتبار أن الدولة هي التي تنتجه وتستهلكه، ثم إنه لم يستطع أن يخلق العادة المسرحية في الثقافة والمجتمع، وبالتالي هو مازال يبحث عن جمهوره.وهو بعد مرور قرن من الزمن لم يستطع أن يوجد كتابا كبارا ولاسينوغراف متميزون ولامهندسو ديكور مبدعون، ولا مصممو أزياء مختصون.إجمالا لم يوجد الاختصاص في المسرح التونسي.ويبدو لنا أن ذلك ناتج عن الدعم السخي الذي تقدمه الدولة ويرغب المشتغلون بالمسرح والمسؤولون عن الشركات المنتجة في إبقاء أكبر قدر ممكن من أموال هذا الدعم في حوزة مدير الشركة أو الفرقة. فلايشجع على وجود مختصين معه لأنهم يطلبون مقابلا ماديا.كما أن صاحب الفرقة يرفض التنازل عن أي قدر من تلك الأموال.وكانت النتيجة اختفاء الاختصاص وطغيان ظاهرة فرق العائلات (أو المسرح المطبخي) على الساحة المسرحية.فرق تعددت حتى أصبحت ظاهرة لافتة للانتباه، ونتمنى ألا تتواصل في الانتشار.

كما أننا خلال هذا القرن من الزمن لم نستطع أن نكون بنك نصوص مسرحية أو ريبرتوار مثل بقية المسارح في العالم، وهذا ما يحز في النفس لأن هناك العديد من الأفكار التي تقدمنا بها لهذا الغرض، ولكن لاحياة لمن تنادي.

وخلاصة القول: إنه ينبغي ألا نقنع أنفسنا بأن مسرحنا بخير وأنه في مقدمة المسارح العربية، ومقياسنا الوحيد هو الجوائز التي يحصل عليها أو الدول الأجنبية التي يزورها.

مسرحنا مازال يبحث عن جمهوره الذي يضمن له الحياة والاستمرارية والاستقلالية، مسرحنا مازال يبحث عن شرعيته في الثقافة التونسية ومازال لم يخترق بعد العقليات الفقهية في هذا المجتمع.مسرحنا مازال لم يؤسس بعد العادة المسرحية في مجتمعنا وتقاليدنا، مازالت مسارحنا رغم قلتها مغلقة معظم أشهر السنة. وبعد هذا، هل يمكن أن نقول: إن مسرحنا بخير؟104″

وعلى الرغم من هذه النظرة المتشائمة للناقد التونسي محمد عبازه، أرى، بكل صراحة، أن المسرح التونسي قد قفز قفزات كبرى ملحوظة في الساحة الفنية المسرحية العالمية والعربية على حد سواء. وقد حقق طفرات واضحة وبارزة في تطوير المسرح العربي بصفة عامة، وتطوير المسرح التونسي بصفة خاصة، إذا قارناه- فعلا- بالمسارح العربية الأخرى التي ظلت حبيسة التقليد والاجترار والبناء، باستثناء المسرحين المغربي والمصري. وأما أهم سمة يمتاز بها المسرح التونسي، فهي سمة التجريب والـتأصيل من جهة، والدعوة إلى تأسيس مسرح عربي جديد من جهة أخرى.

ثبت المصادر والمراجع

المصادر الإبداعية:

1- عز الدين المدني: ( على البحر الوافر)، مجلة فضاءات مسرحية، تونس، العدد:3-4، السنة الأولى (د.ت).

2- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، الطبعة الرابعة، 1987م.

المصادر العـــامــة:

3- أحمد الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، القاهرة، الطبعة الثانية سنة 1953م، الجزء الثاني.

4- البكري: المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب( جزء من المسالك والممالك)، نشر دسلان، الجزائر، 1857م.

المراجـــع باللغة العربية:

5- إبراهيم حمادة: خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال، مطبعة مصر، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1963م.

6- أحمد تيمور: خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب، دار الكتاب العربي، مصر، الطبعة الأولى سنة 1957م.

7- إدريس محمد مسعود: دراسات في تاريخ  المسرح التونسي، دار سحر للنشر، المعهد العالي للفن المسرحي، تونس، الطبعة الأولى سنة 1993م.

8- تمارا ألكسندروفنا بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة: توفيق المؤذن، مطبعة دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1990م.

9- جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي، منشورات  الزمن، العدد 25 ، سلسلة شرفات، الطبعة الأولى سنة 2009م.

10- جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي المغربي بين النشأة والتطور، منشورات المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة2014م.

11- حافظ الجديدي: في الفنون المشهدية، تبر الزمان، تونس، الطبعة الأولى سنة 2007م.

12- حسن المنيعي: هنا المسرح العربي ، هنا تجلياته، منشورات السفير، مكناس، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1990م.

13- شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، تعريب: محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى سنة 1969م.

14- عادل أبو شنب: مسرح عربي قديم، مطبعة الفن الحديث العالمي، دمشق بدون تاريخ للطبعة.

15- عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف الرباط، طبعة ثانية، الرباط، المغرب.

16- عبد الرحمن بنزيدان:أسئلة المسرح العربي، دار الثقافة ، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1987م.

17- عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م.

18- عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 2003م.

19- علي الراعي: الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري، الطبعة الأولى سنة 1968م.

20- علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد:248،  الطبعة الثانية، 1999م.

21- عمر محمد الطالب: ملامح المسرحية العربية الإسلامية، منشورات دار الآفاق الجديدة بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة1987م.

22- محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر، وتونس، الطبعة الأولى سنة 2009م.

23- محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر تونس، الطبعة الأولى سنة 2009م.

24- محمد كمال الدين: العرب والمسرح، دار الهلال، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1975م.

25- محمد المديوني : مسرح عز الدين المدني والتراث، رسم للنشر تونس، الطبعة الأولى سنة 1983م .

26- محمد المديوني: المسرح في تونس، منشورات الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى سنة 2009م.

27- محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، البوكلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1996م.

28- محمود الماجري: الخطاب المسرحي وهياكل الإنتاج بتونس، دراسات في المسرح التونسي، الطبعة الأولى سنة 1989م.

29- محمود الماجري: مسرح العرائس في تونس، دار سحر للنشر، تونس، الطبعة الأولى سنة 2008م.

المقـــالات:

30- أبو المعالي: ( قراءة في كتاب مسرح عزالدين المدني والتراث)، فضاءات مسرحية، تونس، العدد الأول، السنة الأولى، 1985م.

31- أحمد محمد عطية: (نحو تأصيل المسرح العربي)، مجلة قضايا عربية، لبنان، العدد:12، السنة 7، 1980م.

32- عز الدين المدني:( نحو كتابة مسرحية عربية حديثة)، الحياة الثقافية، تونس، فيفري 1978م، عدد:4.

33- عادل قرشولي: ( الأطروحات العصية في المشاريع المسرحية): ملاحظات على المنطلقات)، مجلة فضاءات مسرحية،تونس، العدد5-6، السنة الثانية، 1986م.

رسائــل جامعيــة:

34- مصطفى رمضاني:  الاحتفالية والتراث في المسرح المغربي، السفر الأول، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، رسالة مرقونة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، الموسم الجامعي:1985-1986م.

35- مصطفى رمضاني:  الاحتفالية والتراث في المسرح المغربي، السفر الثاني، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا مرقونة، الموسم الدراسي الجامعي:1985-1986م.

الحـــوارات:

36- حافظ الجديدي: (حوار أجرته ليلى مريم مع الباحث المسرحي التونسي: حافظ الجديدي)،مجلة المهرجان، الجزائر، الثلاثاء 01 جوان 2010م، نشرة رقم 60.

السيـــرة العلـــمية:

– جميل حمداوي من مواليد مدينة الناظور (المغرب).

– حاصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1996م.

– حاصل على دكتوراه الدولة سنة 2001م.

– حاصل على إجازتين:الأولى في الأدب العربي، والثانية في الشريعة والقانون. ويعد إجازتين في الفلسفة وعلم الاجتماع.

– أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالناظور.

– أستاذ الأدب العربي، ومناهج البحث التربوي، والإحصاء التربوي، وعلوم التربية، والتربية الفنية، والحضارة الأمازيغية، وديدكتيك التعليم الأولي، والحياة المدرسية والتشريع التربوي…

-أديب ومبدع وناقد وباحث، يشتغل ضمن رؤية أكاديمية موسوعية.

– حصل على جائزة مؤسسة المثقف العربي (سيدني/أستراليا) لعام 2011م في النقد والدراسات الأدبية.

– حصل على جائزة ناجي النعمان الأدبية سنة2014م.

– عضو الاتحاد العالمي للجامعات والكليات بهولندا.

– رئيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا.

– رئيس المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا.

– رئيس الهيئة العربية لنقاد القصة القصيرة جدا.

– رئيس الهيئة العربية لنقاد الكتابة الشذرية ومبدعيها.

– رئيس جمعية الجسور للبحث في الثقافة والفنون.

– رئيس مختبر المسرح الأمازيغي.

– عضو الجمعية العربية  لنقاد المسرح.

-عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

– عضو اتحاد كتاب العرب.

-عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

-عضو اتحاد كتاب المغرب.

– من منظري فن القصة القصيرة جدا وفن الكتابة الشذرية.

– مهتم بالبيداغوجيا والثقافة الأمازيغية.

– ترجمت مقالاته إلى اللغة الفرنسية و اللغة الكردية.

– شارك في مهرجانات عربية عدة في كل من: الجزائر، وتونس، وليبيا، ومصر، والأردن، والسعودية، والبحرين، والعراق،  والإمارات العربية المتحدة،وسلطنة عمان…

– مستشار في مجموعة من الصحف والمجلات والجرائد والدوريات الوطنية والعربية.

– نشر أكثر من ألف وثلاثين مقال علمي محكم وغير محكم، وعددا كثيرا  من المقالات الإلكترونية. وله أكثر من (124) كتاب ورقي، وأكثر من مائة وعشرين كتاب إلكتروني منشور في موقعي (المثقف) وموقع (الألوكة)، وموقع (أدب فن).

– ومن أهم كتبه: فقه النوازل، ومفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي، ومحطات العمل الديدكتيكي، وتدبير الحياة المدرسية، وبيداغوجيا الأخطاء، ونحو تقويم تربوي جديد، والشذرات بين النظرية والتطبيق، والقصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، والرواية التاريخية، تصورات تربوية جديدة، والإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ومجزءات التكوين، ومن سيميوطيقا الذات إلى سيميوطيقا التوتر، والتربية الفنية، ومدخل إلى الأدب السعودي، والإحصاء التربوي، ونظريات النقد الأدبي في مرحلة مابعد الحداثة، ومقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري، وأنواع الممثل في التيارات المسرحية الغربية والعربية، وفي نظرية الرواية: مقاربات جديدة، وأنطولوجيا القصة القصيرة جدا بالمغرب، والقصيدة الكونكريتية، ومن أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ، والسيميولوجيا بين النظرية والتطبيق، والإخراج المسرحي، ومدخل إلى السينوغرافيا المسرحية، والمسرح الأمازيغي، ومسرح الشباب بالمغرب، والمدخل إلى الإخراج المسرحي، ومسرح الطفل بين التأليف والإخراج، ومسرح الأطفال بالمغرب، ونصوص مسرحية، ومدخل إلى السينما المغربية، ومناهج النقد العربي، والجديد في التربية والتعليم، وببليوغرافيا أدب الأطفال بالمغرب، ومدخل إلى الشعر الإسلامي، والمدارس العتيقة بالمغرب، وأدب الأطفال بالمغرب، والقصة القصيرة جدا بالمغرب،والقصة القصيرة جدا عند السعودي علي حسن البطران، وأعلام الثقافة الأمازيغية…

– عنوان الباحث: جميل حمداوي، صندوق البريد1799، الناظور62000، المغرب.

– جميل حمداوي، صندوق البريد10372، البريد المركزي تطوان 93000، المغرب.

– الهاتف النقال:0672354338

– الهاتف المنزلي:0536333488

– الإيميل:Hamdaouidocteur@gmail.com

Jamilhamdaoui@yahoo.

كلمـــات الغلاف الخارجي:

وعلى الرغم من هذه النظرة المتشائمة للناقد التونسي محمد عبازه، أرى، بكل صراحة، أن المسرح التونسي قد قفز قفزات كبرى ملحوظة في الساحة الفنية المسرحية العالمية والعربية على حد سواء. وقد حقق طفرات واضحة وبارزة  في تطوير المسرح العربي بصفة عامة، وتطوير المسرح التونسي بصفة خاصة، إذا قارناه- فعلا- بالمسارح العربية الأخرى التي ظلت حبيسة التقليد والاجترار والبناء، باستثناء المسرحين المغربي والمصري. وأما أهم سمة يمتاز بها المسرح التونسي، فهي سمة التجريب والـتأصيل من جهة، والدعوة إلى تأسيس مسرح عربي جديد من جهة أخرى.

1 – علي الراعي: الكوميديا المرتجلة، دار الهلال، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1968م، ص:7.

2 – انظر: عثمان الكعاك: مجلة المباحث، عدد15، يونيو 1945م.

3-  انظر: عثمان الكعاك: مجلة المباحث، المرجع نفسه.

4 – عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 2003م،ص:117.

5 – انظر: عثمان الكعاك: مجلة المباحث، المرجع نفسه.

6 –  انظر: عثمان الكعاك: المرجع نفسه.

7 – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، تعريب: محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى سنة 1969م، ص: 234-236.

8 –  شارل أندري جوليان: نفسه، ص: 242.

9 – شارل أندري جوليان: نفسه،ص:249.

10-  شارل أندري جوليان: نفسه، ص: 252.

11- شارل أندري جوليان: نفسه،ص: 549-250.

12 – محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر، وتونس، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:17، الهامش.

13 – انظر: جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي المغربي بين النشأة والتطور، منشورات المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة2014م.

14 – محمد عبازه: نفسه، ص:16-17.

15 –  انظر : جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي، المرجع السابق.

16 محمد عبازه: نفسه، ص:17-18.

17 – البكري: المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب( جزء من المسالك والممالك)، نشر دسلان، الجزائر، 1857، ص:43-44.

18 – عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف الرباط، طبعة ثانية، الرباط، المغرب، ص:264-265.

19 – علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد248، أغسطس 1991م، ص:421.

20 – إبراهيم حمادة: خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال، مطبعة مصر، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1963م، ص:8-9.

21 – أحمد تيمور: خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب، دار الكتاب العربي، مصر، الطبعة الأولى سنة 1957م، ص:19-20.

22 – محمد كمال الدين: العرب والمسرح، دار الهلال، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1975م، ص:167-168.

23 – عادل أبو شنب: مسرح عربي قديم، مطبعة الفن الحديث العالمي، دمشق بدون تاريخ للطبعة، ص:37-38 .

24 –   عمر محمد الطالب: ملامح المسرحية العربية الإسلامية، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1987م، صص :117 – 118.

25 – عباس الجراري: نفسه، ص:258.

26 –  عمر محمد الطالب: نفسه، ص:117.

27 –  عمر محمد الطالب: نفسه، ص:118.

28 –  عباس الجراري: نفسه، ص:258- 259.

29 – عباس الجراري: نفسه، ص:259.

30 – أحمد الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، القاهرة، الطبعة الثانية سنة 1953م، الجزء الثاني، ص:307.

31 – أحمد الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، ص:307.

32 – عباس الجراري: نفسه، ص: 261.

33 – عباس الجراري: نفسه، ص:264-265.

34 – محمود الماجري: مسرح العرائس في تونس، دار سحر للنشر، تونس، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:28.

35 – محمود الماجري: مسرح العرائس في تونس، ص:30-31.

36 – علي الراعي: نفسه، ص:421.

37 – انظر: تمارا ألكسندروفنا بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة: توفيق المؤذن، مطبعة دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1990م.

38 – محمد المديوني: المسرح في تونس، منشورات الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:8-9.

39 – علي الراعي: نفسه،ص:433.

40 – محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر تونس، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:7.

41 – محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس، ص:364.

42 – محمد مديوني: نفسه، ص:65-66.

43 – محمد مديوني: نفسه، ص:106-107.

44 – انظر: إدريس محمد مسعود: دراسات في تاريخ  المسرح التونسي، دار سحر للنشر، المعهد العالي للفن المسرحي، تونس، الطبعة الأولى سنة 1993م.

45 –  محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:19.

46 – انظر: محمد عبازه: نفسه، ص:24-25.

47 – محمد عبازه: نفسه، ص:123-124.

48 – محمد عبازه: نفسه، ص:124.

49 – محمد عبازه: نفسه، ص:127.

50 – عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، الطبعة الرابعة، 1987م، ص:24-25.

51 – محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، البوكلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1996م، ص:145.

52 – نقلا عن عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1983، ص:21.

53- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:21.

54 – مصطفى رمضاني: الاحتفالية والتراث في المسرح المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، السنة الجامعية:1985-1986، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ص:324.

55 – عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:25-26.

56 – عز الدين المدني: نفسه، ص:25-23.

57 – عبد الكريم برشيد: نفسه، ص:29-30.

58 – عز الدين المدني: نفسه، ص:28.

59 – عز الدين المدني: نفسه، ص:24.

60 – محمد عبازه: نفسه، ص:151.

61 – محمود الماجري: الخطاب المسرحي وهياكل الإنتاج بتونس، دراسات في المسرح التونسي، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:14.

62 – محمد عبازه: نفسه،ص:229-230.

63 – انظر: مجلة الحياة المسرحية، تونس، العدد:13، السنة 80، ص:102.

64- انظر: المرجع نفسه، والصفحة نفسها. 80.

65 –  محمد عبازه: نفسه، ص: 230.

66 – محمد عبازه: نفسه، ص:231.

67 –  علي الراعي: نفسه ، ص:469.

68 – نقلا عن عبد الكريم برشيد:نفسه،ص:92.

69 – محمد عبازه: نفسه، ص:243.

70-   محمد عبازه: نفسه، ص:399.

71 – انظر: حافظ الجديدي: في الفنون المشهدية، تبر الزمان، تونس، الطبعة الأولى سنة 2007م.

72 – حافظ الجديدي: (حوار أجرته ليلى مريم مع الباحث المسرحي التونسي: حافظ الجديدي)،مجلة المهرجان، الجزائر، الثلاثاء 01 جوان 2010م، نشرة رقم 60، ص:06.

73 – محمد عبازه: نفسه، ص:400-401.

74-  محمد عبازه: نفسه، ص:401.

75-  محمد عبازه: نفسه، ص:402.

76 – عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:24-25.

77 – عز الدين المدني: نفسه، ص:26.

78 – عز الدين المدني: نفسه، ص:26-27.

79 – محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، ص:145.

80- عز الدين المدني: نفسه، ص:21.

81 – مصطفى رمضاني: الاحتفالية والتراث في المسرح المغربي، ص:324.

82 – عز الدين المدني: (نحو كتابة مسرحية عربية حديثة)، مجلة الحياة الثقافية، تونس، عدد خاص بالمسرح، العدد:4، سنة 1978م،صص:4-5.

83 – نقلا عن عبد الكريم برشيد: نفسه، ص:21.

84 – أحمد محمد عطية: (نحو تأصيل المسرح العربي)، مجلة قضايا عربية، لبنان، العدد:12، السنة 7، 1980م، ص:13.

85 – عز الدين المدني: نفسه، ص:25-26.

86 – محمد الكغاط: نفسه، ص:141-142.

87 – عز الدين المدني: نفسه، ص:27.

88 – محمد الكغاط: نفسه، ص:142.

89 – محمد الكغاط: نفسه، ص:140.

90 – عادل قرشولي: ( الأطروحات العصية في المشاريع المسرحية): ملاحظات على المنطلقات)، مجلة فضاءات مسرحية،تونس، العدد5-6، السنة الثانية، 1986م، ص:15.

91 – عبد الكريم برشيد:نفسه ، ص:29-30.

92 – حسن المنيعي: هنا المسرح العربي ، هنا تجلياته، منشورات السفير، مكناس، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1990م، ص:23.

93 – علي الراعي:نفسه، ص:450.

94 – عز الدين المدني: نفسه، ص:28.

95 – عز الدين المدني:نفسه، ص:23.

96 – عز الدين المدني: نفسه، ص:24.

97 – عز الدين المدني: نفسه، ص:24.

98 – عز الدين المدني: نفسه، ص:60-61.

99 – عز الدين المدني: (نحو كتابة مسرحية عربية حديثة)، صص:5-15.

100 – عبد الرحمن بن زيدان: أسئلة المسرح العربي، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1987م، ص:313.

101 – محمد المديوني : مسرح عز الدين المدني والتراث، رسم للنشر تونس، الطبعة الأولى سنة 1983م ،ص: 62.

102 – عز الدين المدني: ( على البحر الوافر)، مجلة فضاءات مسرحية، تونس، العدد:3-4، السنة الأولى (د.ت).

103 – أبو المعالي: ( قراءة في كتاب مسرح عزالدين المدني والتراث)، فضاءات مسرحية، تونس، العدد الأول، السنة الأولى، 1985م، ص:129.

104 – محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:434.

————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *