الكتابة المسرحية تتحدى السائد وتخلخل الحقائق المطلقة

الكتابة المسرحية تتحدى السائد وتخلخل الحقائق المطلقة

  • يعتبر المسرح في الحضارة الغربيّة أحد أهم المحركات التي تعكس تطورها وطبيعة الصراعات السياسية والاجتماعيّة التي شهدتها، كما أن له دورا في إعادة تعريف العلاقة بين الآلهة والإنسان، فمنذ اليونان حتى الآن ما زال حاضرا لا فقط كشكل فنيّ، بل كأداة نقدية وسياسية، كما أن شخوصه لا تمتلك فقط قيمة أدبيّة، بل هي تعبير عن طبيعة علاقات القوة وآليات التغيير، إذ يحضر في النصوص الفلسفيّة المختلفة منذ اليونان حتى الآن، كما يحضر في التحليل النفسي والدراسات الأدبيّة وغيرها من المجالات المعرفيّة.

باريس – عمد الفرنسي ميشيل فوكو في مؤلفاته إلى إعادة النظر في تاريخ المعرفة وتكوين الحقيقة لتشمل أبحاثه وكتبه طيفا واسعا من الاختصاصات بهدف مساءلة الحضارة الغربيّة وآليات تكون الأفكار فيها، ومؤخراً صدر للباحثة الفرنسيّة أريانا سفورزيني المختصة في أرشيف فوكو كتاب “خشبات الحقيقة – ميشيل فوكو والمسرح” و فيه تقوم سفورزيني بتحليل نصوص فوكو بأكملها ورصد استخدامه للمسرح بوصفه أداة نقديّة وفلسفيّة، لا مجرد شكل فنيّ، إلى جانب عرضها للعناصر والأدوات المسرحية التي يوظفها فوكو في أسلوبه الفلسفي بوصف المسرح شكلا من أشكال تمثيل الحقيقة وإعادة تشكيلها.

المسرح والجنون

يبدأ الكتاب بتحليل العلاقة التي قدمها فوكو بين الاحتفال والمسرح، لكون الأول يحتفي بالجنون أما الثاني فسياسي وعقلاني، إذ يرى أن الابتعاد عن الكرنفال وإهمال الجنون والحقيقة التي يقدمها على حساب المسرح يعود إلى نشأة العقلانية اليونانية، وكيف هيمن الفكر الأرسطي والفضيلة التي يعكسها المسرح على الانفلات الساتيري وطقوس الجنون، وهنا يستعير فوكو مفاهيم نيتشة عن الأبولوني والدينوسي، ويرى أن الأخير تم إهماله لكونه ضد العقل وضد المفهوم الديالكتيكي الذي يميز الفلسفة.

المسرح يجب ألا يكون في شكل تمثيل للحقيقة بل وسيلة لتدمير أشكال الحقيقة أمامنا، أي تهديم أشكال الفلسفة المنطقية

ينتقل بعدها فوكو إلى إبراز التناقض بين التراجيديا والديالكتيك، فالتراجيديا قادرة على انتقاد الفكر المنطقي كونها تفككا للحقيقة التي يقدمها، وتنتقد مركزيته التي تمتد هيمنتها حتى ديكارت، ويرى فوكو في شخصية بروميثيوس تمثُلاً لكيفيّة انتقاد الأنا العقلانيّة، فبروميثيوس جالب النار يحمل في جسده كلّا من التراجيدي والديالكتيكي، فهو أنار البشرية مع ذلك كان مصيره العقاب، وهنا يستند فوكو إلى نصوص أسخيلوس، بروميثيوس مقيداً، إلى جانب المسرحية الثانية الضائعة بروميثيوس محرراً، والتي يفشي فيها بروميثيوس السر الذي يؤدي إلى دمار زيوس وتفكيك هيكل القوى الميثيولوجية، فهو يرى أن الحقيقة المسرحيّة التي يقدمها بروميثيوس ليست ديالكتيكية لا تهدف إلى البناء بل تراجيدية غرضها التدمير، وهذا الاتحاد بين الدينوسي والأبولوني الذي يمثله بروميثيوس ليس إلا انتقادا للحقيقة العقلانيّة المتمثلة بالنور ونتائجها المأساويّة التي تؤدي لاحقا إلى إعتاق بروميثيوس إثر فضحه لزيف الحقيقة الإلهيّة.

يعتمد فوكو على ثلاث من الشخصيات المفصليّة لبناء مفهومه عن المسرح الفلسفي وهي فريدريك نيتشة وأرتونان أرتو وجيل دولوز، إذ يستند إلى نصوصهم والمفاهيم التي قدموها، ويستعين بأرتو وأفكاره عن مسرح بديل يحرر المسرح التقليدي من دوره في تمثيل الحقيقة ويسعى لجعله يسائل نفسه والحقائق التي يقدمها، وهذا ما يراه أيضاً فوكو في المسرح المعاصر وقدرته على النقد ودفع حدود التفكير الفلسفي، فالمسرح يجب ألا يكون في شكل تمثيل للحقيقة بل وسيلة لتدمير أشكال الحقيقة أمامنا بالتالي تهديم أشكال الفلسفة المنطقية المهيمنة عليه، فالمسرح دعوة إلى الموت ومساحة لموت الآلهة لا لبعثها أو إثبات قوتها، ويؤكد على أهميّة التراجيديا بوصفها تفصل بين ما هو منطقي وغير منطقي هي لحظة الصراع بوصفها “طيّة” أو شرخا في العالم حسب مصطلح دولوز.

المسرح وسيلة لتدمير أشكال الحقيقة

مسرحة الغياب

تخبرنا الباحثة في الكتاب كيف يوظف فوكو الجنون بوصفه خطابا ضد المسرح العقلانيّ ووسيلة لنفيه، إذ يرى فوكو أنه لا يجود جنون صرف، بريّ، متوحش هو دوما حاضرٌ ضمن أشكال العزل والرقابة التي يمارسها المجتمع ومؤسساته ضد أولئك المجانين، ومحاولة دراسته أو توظيفه تعني البحث في الصمت واللاخطاب، فالجنون هو “غياب الأثر”، لكون الجنون مُحاربا من قبل القوى المنطقيّة، وهنا تتضح رؤية فوكو للمسرح كمساحة للجنون/ الانعتاق، إذ يُهمل القيمة الأدبية والفنيّة ويرى في الخشبة وسيلة تعكس التمثيلات التي تتبناها السلطة للحقيقة أما الكتابة المسرحية والأدبيّة فهي تحدّ لموضوعة الأنا الواعية والعقلانية التي تتبناها الفلسفة، فالموضوعات التراجيدية تعمل ضد الكوجيتو الديكارتي تسعى لإعادة تعريف الذات، فالموضوعات المسرحيّة لا تكتفي بمساءلة العالم كما هو قائم بل تسائل نفسها، وتستفيد من اللغة ذاتها بوصفها طاقة إبداعيّة ومتخيّلة قادرة على تفكيك الخطاب العقلاني الذي ينصاع لأشكال السلطة ويشرعن حضورها.

المسرح لدى فوكو هو انعكاس للصراع الفلسفيّ، وترى الباحثة أن أسلوبه في الكتابة هو مسرحة للفلسفة وكشفٌ لشخصياتها وحقائقها، فالخشبة وسيلة لاستحضار الهوامش وفضح لعلاقات القوة وإعادة تكوينها، إنها مساحة لتوظيف المتخيل وإحداث القطيعة مع “الحقيقة”، كذلك الأمر حين يستخدم نصوص سوفوكليس وصموئيل بيكيت، فهي بالنسبة إليه انعكاس للأفكار الفلسفية وحقائق العصر وأنظمة الهيمنة التي تتحكم في الوجود البشري، إذ يرى “في انتظار غودو” انتقادا للغة نفسها وآليات تكوينها للحقيقة، هي سخرية من الماضي العقلاني وفشله، واحتفاء بطاقة اللغة وقدرتها على التخييل، هي محاكمة للمسرح ذاته عبر المسرح، وتهديم للأنا الواعية بما يحصل من حولها في العالم.

 

عمار المأمون

http://www.alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *