الفن وآصرة التلازم التكنولوجي/د.جبار جودي العُبُودي

لقد تأسست ثقافة جديدة في العالم بعنوان ثقافة العلم والتي إرتبطت بها كل التكنولوجيات التي حققت سبل التقدم لتصنع للبشرية جمالية المستقبل الأمثل وتذليل كافة صعوبات المعيشة وإيجاد الحلول للمستعصي من أسرار الطبيعة والكون ، وكل ذلك جرى بصورة واسعة وغير مسبوقة في التاريخ عن طريق تبادل المراكز والأدوار بين العلم كماً وكيفاً وثورة متجددة وبين فكرة التقدم التكنولوجي ، هذا التقدم ” يتجسد بعمق في ثقافة العلم ، وتكون المعرفة تفكيراً تقدمياً تراكمياً وكيفياً في مسار ثوري ، وبما ان التكنولوجيات ترتبط اليوم بالعلم وثقافته ، فالإعتقاد نفسه في التقدم هو التمسك بالعلم وثقافته ، فالوضع المعاصر الذي وُجِدَتْ فيه التكنولوجيات غير مسبوق من حيث النوع والتعـــــــقيـــــد والإتساع ، وغــــير مسبــــوق بأي شكـــــــل معادل في درجــــــات وأنــــــواع من التحولات الثقافية والإجتماعية والإنسانية ، إذ تغيّرت البُنى الكلية للعالم وزاد هوس الإنتقال من حال الى حال ، ممسكون بناصية التقدم في كل شيء بتأثير العلوم المتدفقة في حقائقها المتسارعة ، حيث شهد العالم إكتشافات واختراعات لاحصر لها وبشكلٍ متلاحق خلال المائة وخمسون سنة الأخيرة . وكان لهذا التقدم الحضاري ضريبته التي يدفعها من خلال عدم حيادية الإنسان في الإستخدام الإيجابي لهذه التطورات بل ذهبت به غريزته واندفاعاته بإتجاه التسلّط على الآخر والهيمنة على مجريات الكون وفرض منطق القوة والتدمير ، لذلك انبرى العديد من الفلاسفة والمفكرين للتصدي لإندفاعات العقل السلبية التي شيّأت الإنسانية وجعلتها تضج بالتعقيد الذي أدّى الى افتقاد اليوتيوبيات المنشودة لزمن التنوير والإحساس بالإغتراب والإستلاب في فوضى الإستخدامات التكنولوجية الغير منضبطة . الفنون لم تكن بمعزل عن هذا التقدم بل أسهمت بصورة أو بأخرى في إظهار الجوانب الإيجابية والسلبية أيضاً عن طريق الطروحات الفكرية والفلسفية والفنية في سبيل تحقيق وعود السعادة والنجاح مما حدا بأدورنو الى أن يطرح تساؤلاته الفلسفية : هل أضحت الحداثة في الفن هي التلازم مع التكنولوجيا أم نقف ضدها لإبراز صورة أخرى مغايرة للحياة تفارق تلك التي تبثها تكنولوجيات الإتصال والإعلام ، وذلك حينما سيطر مبدأ المردود الإقتصادي على مجمل العملية الإنتاجية الثقافية والفنية حتى سادت شكوك كثيرة حول جدوى الفن الذي دمّر الأشكال التقليـــــــدية لإنتاج العمل الفني ، نتيجة الحـــرية المتدفــــقة للتعبـــــير الواسع في أفــق الحداثة . لكن استخــــدام الشركات الإستهلاكية للفن كأداة للدعاية لمنتجاتها ولّد الريبة ، وتم وضع الفنون موضع الإتهام لأنها أضحت ملازمة لأعمال الإعلان والإستهلاك اليومي ، حيث تراجعت المساحة الخاصة بالفن الحقيقي والفنون عموماً لصالح التقدم التكنولوجي الذي اعتمدته المجتمعات الإنسانية . ان المشروع الفلسفي الذي قامت عليه طروحات يورغن هابرماس في نظرية المعرفة تأسس على العقلانية التواصلية والمعرفة والمصلحة وان مشروع الحداثة يكمن في توافر الشروط الإجتماعية والفكرية التي بُنيت على العلوم الطبيعية والإنسانية التي تتطور في سبيل الوصول الى تحرر الإنسان وتكوين حياة بشرية منصفة وأن تكون المصالح التقنية والعلمية لهذه العلوم تمتلك الشروط اللازمة التي تتوافق مع الإنسانية ، لقد أعاد هابرماس للفلسفة اعتبارها ونفخ فيها الروح بعد أن أوشكت على الموت في ظل ارهاصات القرن العشرين اللاعقلانية عن طريق النظرية الفلسفية في المعرفة التي تجاوز بها من سبقه من الفلاسفة ومستثمراّ ، بنفس الوقت ، لطروحاتهم الفلسفية التي احتفظ بها في مشروعه الأبستمولوجي ، إذْ طــــوّر النظرة الى الحداثة عن طريق توجيه النــــــقد لمتناقضاتها ، وأَكسَبَ الفلسفة أهميتها عن طريق إعلاء علاقتها بالثقافة وحاول تغيير اتجاهات العقل من التعالي في الطروحات النقدية والفلسفية الى التواصل والتفاعل مع العلوم الأخرى ومـد جسور جديدة من البناء المعرفي التواصلي ، لقد حاول هابرماس التأكيد على العقلانية الإجتماعية والتي أسماها لاحقاً العقلانية التواصلية بالضد من العقلانية الأداتية التي قال بها من سبقه كأدورنو وهوركهايمر . هابرماس اكّـــــــد على التواصل والفعــــــل بين الأفراد والحوار وفهم العالم عــــن طريق التأمل والفلسفة لا عن طريق العلم والتقنية فحسب ، حيث ان تجديد الصلة بالكلية التي تقود اليها الفلسفة تشارك في تأجيج التفاعل والممارسة الإنسانية التي تتصف بالأخلاق وبالتعبير الجمالي حيث تقوم الفلسفة بدور الوسيط المفسر بل انها تصبح حارساً أميناً للعقل واستقلاليته عند هابرماس وتخلق التواصل مع العلوم المختلفة في ميادين الحياة وتسهم في انشاء أشكال جديدة للحياة العقلانية . لقد قامت الحداثة على فكرة التقدم من خلال قوة العلم والمعرفة التي تُعَد الركيزة الأساسية لها وأيضاً إعمال الفكر النقدي وهو القوة الأخرى المضافة للحداثة في سبيل بناء عالم عقلاني متحرر من الغموض ومن الأوهام وتسهم في ذلك عدة عوامل منها قابلية الحداثة على التطور والتغيّر والإنفتاح على جميع الأفق وتوحيدها للعقل والإرادة والمضي قُدُماً لإزالة هيمنة الميتافيزيقيا والمطلق وتأسيس النسبي الفاعل نحو مديات الأحدث والأفضل في المعرفة والعلوم ، فالحداثة لها القابلية على التمدد وتجاوز حدود الثقافات وحدود الجغرافيا ، انها قوة شمولية عالمية تتسم بالعديد من القيم والمباديء والملامح الكونية لأن أسسها وثوابتها إنسانية تشمل الجميع ، وبحسب هابرماس الذي يؤكد دائماً على عدم اكتمال مشروع الحداثة وبالتالي عدم التسرع في إطلاق الأحكام السلبية ضدها والنظر اليها نظرة شك وريبة واتهامها بالنكوص عن تحقيق ماوعدت به من آفاق حرية الإنسان ، فهابرماس يقف مدافعاً عن الحداثة وعن منجزاتها التي لم تتوافر شروط اكتمالها بعد ويقف بالضد من الهجمات اللاعقلانية على العقل والتنوير وداعياً الى ترك النظرة السلبية وعدم التحجج بها والنظر الى الجوانب الإيجابية المهمة ، وبأية حال من الأحوال لايمكن وضع شيء بديلاً للعقل الاّ هو ذاته ، ولايمكن استبدال مفاهيم وطروحات التنوير الاّ بالتنوير نفسه ، ولا بديل للحداثـــــــة الاّ حداثة ممتـــــــلئة بالإنسانية وبالإبداع وبالفكر المتقد لصنع عالم انساني مكلل بالأمل والثقة بالمستقبل ، فمن يريد الوقوف بوجه الحداثة ويستبدلها فإنه يحبذ العودة الى الماضي والى عقلية الإقطاع والأيديولوجيا الدينية والهيمنة السياسية ، وذلك مايرفضه العقل الإنساني لأنه وداع له بنفس الوقت لو قبل به ، لذلك اقترح هابرماس حداثة تقوم على الحــــوار والتواصل والتــــفاعــل عن طريق إعمال الفكـــر في عقلانية تواصلية من الممكن أن تُــكــــــمل مشروع الحداثة الغير ناجز لحد الآن ، وبنفس الوقت فأن دفاع هابرماس عن الحداثة يجد لنفسه المبرر المقبول لأن أغلب النقود الموجهة الى الحداثة تأخذ طابع الهجوم على العقل ونقضه لا نقــــــده كما دعى هابرماس ، فمابعد الحداثة نقضت العقل واعتمدت اللاعقلانية وهي بذلك تكون قد شيّعت العقلانية الى مثواها الأخير ، وان العالم سائر نحو المجهول والجنون ، ذلك ان مفهوم الحداثة لايزال ملتبساً غامضاً بل ان البعض يعتبر مابعد الحداثة هي الحداثة في حلة جديدة كما يقول ليوتار من ان الحداثة لم تنتهي وانما هي ماضية نحو مابعد الحداثة وكما يذكر تيري ايجلتون من ان مابعد الحداثة هي الحداثة ذاتها في أحد أوجهها المختلفة ، ان اندفاعات مابعد الحداثة ليست مُفارقة للحداثة وانما تجديدها وتدعيمها الى حدود جديدة قصوى ، وبإختصار فإن العقلانية الجديدة التي دعا اليها هابرماس تهتم بالعلاقات الإجتماعية والتعلم من الثقافات الأخرى وتنفتح على الآخر عن طريق الحوار والتفاهم والتواصل كي تحقق ماعجز عصر التنوير عن تحقيقه في الوقت الذي بدأت فيه نظرات الريبة والشك تتوجه نحو الحداثة ، فإمكانية قيام العقلانية التواصلية ستسهم ببناء التعايش السلمي واحترام الرأي والرأي الآخر والتفاهم والحوار بين ذوات المجتمع الفاعلة والإنسانية ، إذ يضع هابرماس وفي تحدٍ للواقع المعاش نظريته المعتمدة على العقل التواصلي مفنداً العديد من الآراء ووجهات النظر التي انزلقت الى الجوانب السلبية للعصر الحديث ونتيجة لما مرّ بها من أهوال خلال القرن العشرين سار بهم نحو عتبات اليأس وعدم الرغبة في الإستمرار والإنطواء على الذات وعدم فهم العالم من وجهة نظر أخرى مغايرة إذ يضع هابرماس تعريفه للحداثة منطلقاً من قوة القناعات الإنسانية ومقدرتها على البناء أكثر من الهدم والتدمير ، فالحداثة محاولة لإنشاء العلم الموضوعي ، وتأسيس الأخلاقيات العامة وقواعد القانون والفن المستقل كل وفق منطقه الداخلي الخاص . في نفس الوقت أرادت الحداثة أن تُطلق الإمكانات المعرفية لكل هذه الميادين من أشكالها الخفية . تنتقل وجهة نظر أخرى مقاربة لما تقدم عن التعايش في المجتمع الحديث وتساوق وجهات النظر تجاه الحياة في المدينة ومايمر بها من ظروف متنوعة في الطريقة والإلتــزام بقضايا الواقع الراهن ضمن البيئات المختلفة للحياة الإجتماعية ، وعلى حد تعبير مارشال بيرمان فأن الحداثة هي التجــــــربة الإنسانية المشتـــــــركة التي يمارسها الجميع من الرجال والنساء ، التجــــربة الحية للتعايش والمخاطرة داخل الزمان والمكان والأنا والآخر ، فالحياة الحديثة تتطلب أن نجد أنفسنا في بيئة واعدة بصنوف شتى من القوة والمتعة والثروة وتحولات الذات والعالم ، والمخاطر التي تتهددنا ومن الممكن أن تسعى لنسف كل مانعرفه ، فالبيئات الحديثة وممارساتها وفعالياتها عابرة للحدود والإثنيات حتى تتلاشى فيها أُطُر الثقافات والهويات والطبقات والأيديولوجيات والدين ، بمعنى ان الحداثة تحقق وحدة كونية لكنها وحدة متناقضات لأنها تضعنا في تيارات متلاحقة من الكفاح والقلق المتزايد الذي يخلخل جميع الثوابت ويبددها في رحلة مخاض وولادة مستمرة على الدوام . فالموقف المتجدد للحداثة يخلق ديمومة مستمرة استمرار الزمن نفسه لأنها ديناميكية بطبيعتها ترفض أن تتحول الى بنية ثابتة ، انها ثورة جذرية ضد الماضي بهدف التحول عنه الى مساحات واسعة متنوعة جديدة ، كونها ليست ظاهرة تاريخية أو مرحلية مؤقتة بقدر ماهي قيمة جوهرية ، انها ثورة متجددة شاملة في جميع أشكال المعرفة والإجتهاد والإبتكارات وهي تمس العقل البشري في الصميم فكرياً وعقيدياً ، وتماهي المنظور الفكري الكلي للحياة والعصر والمستقبل . ان الحداثة في الفن تمازج غـــــريب من المتضادات بين المستقبلي والعدمي في وقت واحــــــد ، وبين الطليعي والمتحفــــــــظ ، وبين الـــــــرمزي والطبيعي ، والكلاسيكي والرومانسي في آن معاً ، انها احتفـــال بعصر التكنولوجيا ، وشجبٌ له في نفس الوقت وقبـولاً تاماً بأن المسارات الثقافية القديمة قد تلاشت وانتهى أمرها وعلامة فارقة من علامات اليأس المبثوثة بوجه المخاوف المتعــددة المنبثــقة من تطور الحيــــاة الجديدة ، انها خليط من التاريخـانية وتوتـرات العصر، وهي بذلك تكون التعبيــر الحرفي والدقيـق لروح العصر ونبضـه بكل هـــذا القلـق الذي يعتريها . ان المدن الكبيرة في العالم كانت مصدراً مهماً لجذب الناس والفنانين اليها عن طريق الهجرة من الريف الى المدينة ، هذه المدينة الضاجة بالحياة وبالإختلاط من مختلف الأجناس واللغات ، لقد مثّلت هذه المدن قيم التحضّر والحداثة بإلغائها الفوارق العرقية والطبقية في المجتمع ، لقد كانت تمثّل روحية المجتمع التكنولوجي الحديث ، ومن خلال هذا النمو المتزايد لهذه المدن تزايدت الرغبة في التجـــــــــديد الحضاري ، ونتيجة لهذا التجديد ساد شعور قوي بتأزّم القيَـــــــم والتعبير الفني حيث انعكست فوضى هذه المدن ، التي ازدحمت بقاطنيها من ذوي اللغات المختلفة ، على الأعمال الفنية في مختلف التخصصات بل أضحت المدينة وحياتها والعيش فيها تنزع نحو المادية الصرفة .

المصدر/ محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *