الفضاء المسرحى للعرض المسرحى “فاوست”للمخرج البولندي شاينـا

 

 

لقد تميزت إبداعات “شاينـا” تميزا واضحا فى عروضه المسرحية فى السـبعينات من القرن العشرين، بداية من “فاوست”  لـ”جوته”. لقد قدم “شاينـا” هذا العرض المسرحى المهم فى مسرح “المسرح البولندى” فى عام (1971). استخدم “شايـنا” فى هذا العرض المسرحى سـيـنوجرافيا فنية مركبة، داخل فضاء مسرحى يجمع الدمى، واللوحات، والألوان، والأنابيب، والضوء، ومواد الاشتعال، والانفجار، والمعادن، والسحب، وتلك الروائح التى تثـير حاسة الشم عند المتـفرجين عن قصد. كما أنه يدخل كل ذلك من خلال خلفية موسيقية حادة كتبـت خصيصا لهذا العرض، تـتخذ طابعا كونيا.

الممثـلون يوضعون فى فضاء مسرحى يقع فى المستوى الثانى من خشبة المسرح، باعتبارهم ممثـلين مرئيـين هنا وهناك، وفى فضاء مسرحى آخر على المستوى الأول من مقدمة المسرح؛ وفى نسق مركب داخل نسيج العرض المسرحى: حيث قصاصات نص “جوته” الذى تـتـناثر أوراقه هنا وهناك، ويعاد توزيع الشخوص المسرحية توزيعا آخر للدرجة التى تسـثـير فى وعى المتـفرجين رؤية بصرية ديناميكية للمسرح، يعامل فيها مضمون العرض المسرحى “فاوست” عبر منظور “شاينا” السـينوجراف/ المخرج. إنها رؤية تكون روية مناقضة لرؤية المؤلف. إن “فاوست” لـ”جوته”، ما هو سوى توافـق للحياة؛ وتصديق عليها.أما “رؤية “شاينـا” فهى إثبات لوجود الإنسان، وتأكيد لفعل التمرد على الثوابت. 

وهذا المنهج الذى يتبعه “شاينـا”؛ والذى يحاول فيه أن يتحاور مع مؤلف النص الأصلى للجدال المختـلف تارة، وللاتـفاق تارة أخرى، وللوصول إلى رؤيا جديدة تـنبع من الواقع اليومى مرة ثالثة، ومن مخلفات ما تبقى للانسان المعاصر من قيم أخلاقية قد تغيرت وتبدلـت مرة رابعة. وفى نهاية الأمر يفضى هذا الجدال المستمر مع النص المسرحى إلىخلق حالة مسرحية إبداعية لا تتوقف عند الممكن، وتتـجاوز حدود المسكوت عنه، وبالتبعية تخالف  المؤلف المسرحى لإحالة مسرحه إلى مركز للاختلاف والتمرد. 

إن “فاوست”/ “شاينــا” هو رمز لفـشل الإنسان فى مواجهة عالمه الذى تـّرفع عنه، وفـشل الحياة التى تصبح للبطل “فاوسـت” مجرد موت دائم لا ينقطع. فمن يحيا من البشر فهو ضائع، ومعـّرض للمعاناة الإنسانية. يظهر “شاينـا” شخصية “فاوست” كإنسان رمادى اللون، عادى، صغير، متـقطع الأنفاس، يتحرك فوق الأحذية الخشبـية داخل سجنه الذى اختاره بنفسه، وبرأس يتألم، ومضمد بالأربطة. 

أما معمله “فاوست” المسرحى فيمثـل فضاء سينوجرافيا جديدا، حيث يمارس داخله تجاربه المعملية. إننا نشعر كمتـفرجين عند رؤيته – وهو على هذه الحال – كما لو أنه فى خندق مغلق ضخم فى فضاء مسرحى يغطى خشبة المسرح بأكملها. وهنا تـتغير وظيفة الفضاء المسرحى المحايد، ويستحيل فضاء منحازا معبرا عن “دراماتورجية” العرض المسرحى، لتخـتفى من ورائه الكلمات، أو على أقـل تـقدير تصبح هذه “الكلمات” فى المرتبة التالية لسينوجرافية المكان وفضاءاته المتـباينة. حيث تستغرق المعمل ذبذبات الضوء، بمعونة أجهزة الضوء الإلكترونية، وأدوات المشرحة التى تعمل داخل أجساد ميتة، شاحبة بيضاء، موضوعة فوق موائد التـشريح، تبدو وكأنها مسيرة كواكب سيارة، تجعل من “فاوسـت” ومعه “مافيسـتوفليس” يتجهان معا نحو فضاء جديد مغاير عبر فى الزمن والمكان من خلال رحلة حول العالم، رحلة هى أشـبه بالحلم!!.

أما الأرواح التى تزور “فاوست” فما هى إلا جثـث تنهض من موائد التـشريح، مثخنة بجراح الحروب ودمائها، كما لو كانت جثـثـا تنهض من موائد تطل علينا من جروحها الغائرة كضحايا معسكرات الموت داخل معسكرات الأفران البشرية الرهيبة.

هذه هى “فضاءات شاينـا” التى حاول بها أن يصوغ ويشكل خشبة مسرحه عندما قدم “فاوسـت”، لقد حاول أن يخلق عالما أبدعه الإنسان فوق الأرض، حيث نشاهد روح هذا العالم المثخنة بالجراح، إنها مملكة يتوجها التاج الذهبى، وتجلس هذه الروح فوق العرش داخل عربة يقودها رجل ذو عاهة، ومصاب بالشلل، تلتف حول جسده الضمادات وقـطع “الشـاش” التى تجعله أقرب ما يكون إلى “المومياء”.

فى هذا العرض المسرحى يستـثير تتابع اللوحات المسرحية عددا من المعانى المتبـاينة، تصدم خيال المتفرج من جانب، وتستثـيره من الجانب الآخر، وتدعوه للتأمل والتـفكير. إن كل شئ فوق الخشبة فى حركة دائمة لا تـنقطع، حيث نشاهد الممثـلين معلقين بالحبال، إنهم يتأرجحون فى الهواء، وهم مشدودون بها. يقول “شاينـا” عن ما يراه فى هذا العرض المسرحى “فاوســت”:

“(…) إن عالم “فاوست” عالم محاط بتـيارات متبايــنة، يمكن الكشف من خلالها عن العالم النازى القديم، وعن العالم النازى الجديد الذى ينـتـظرنا!! إن “فاوست” وسيط لى، يعبر عن رأيى فى النازية فى كل عصر، تلك النازية التى تـقف بالمرصاد ضد المتعلمين والمثـقـفين بداية، وضد الإنسان أيا ما كان تصنيفـه، وصولا إليه فى أية بقعة من بقاع العالم”.

أما قصة الحب التى تحيا ما بين “فاوست” و”ماوجوجاتا” فقد عبـّر عنها “شاينـا” من خلال معزوفة موسيقية هارمونية متميزة، يسعى إلى تحقيقها عبر خلاصة الاستعارات الـفنية داخل لغة التـشكيل. ويعود “شايـنا” إلى نظرته إلى الموت التى تحيل “ماوجوجاتا” عشيقة “فاوست” إلى قناع وجسد.

——————————————————————————————————

المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  فضاءات شاينــا المسرحية تأليف: زبيجنييــف تارانــيـيـنـكو تقديم وترجمة: د. محمد هناء عبد الفتاح متولى مراجعة: دوروتا متولى

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *