العُقبة” ومخاطر الخلل في النظام الاجتماعي الغربي : د. صبري حافظ

المصدر : العربي الجديد : نشر محمد سامي موقع الخشبة

شاهدت مؤخرًا مسرحية جميلة ومثيرة للتفكير في أحد المسارح الصغيرة في لندن، وهو “مسرح سازاك Southwark Playhouse”. وأنا أحرص على اختيار المسرحيات التي أشاهدها وفق معايير فنية محددة تعتمد على النص والإخراج، خاصة إذا ما كان المرء يعيش في لندن التي تعرض فيها أكثر من مئة مسرحية كل ليلة. بمعنى إما أن يكون النص مثيرًا للاهتمام ومعاصرًا، أو لأحد أبرز كتاب المسرح الموهوبين في بريطانيا أو أميركا، أو أن يكون العمل لمخرج مرموق أثبت أن له لغته الإخراجية المتميزة، وفهمه المتفرد لما ينطوي عليه المسرح من عناصر للفرجة والإمتاع، سواء أكان ما يقدمه إخراجًا لنص قديم، يبث فيه حياة جديدة من خلال لغة الإخراج وتأويلاتها الشيقة، أو تقديما لعمل جديد.

والواقع أن ما دفعني لمشاهدة هذه المسرحية الجديدة هو أن مخرجها، وهو تريفور نان Trevor Nunn، أحد أعلام الإخراج المسرحي المعاصر في لندن، مع أنني لم أكن قد شاهدت من قبل شيئًا لمؤلفها، أوليفر كوتن Oliver Cotton، ولم يكن قد وضع اسمه ككاتب على خريطة اهتماماتي المسرحية، فكانت هذه المسرحية بداية اهتمامي به. لكنني كما قلت حجزت فورًا لمشاهدة هذه المسرحية حينما علمت أن مخرجها هو تريفر نان، مع أنني لم أسمع من قبل عن مؤلفها. لأن تاريخ نان المسرحي يمتد منذ ستينيات القرن الماضي، عقب تخرجه من جامعة كامبريدج ودراسته للأدب والدراما فيها على يدي أحد أبرز نقاد الأدب الإنكليزي في القرن الماضي وهو ف. ر. ليفيز F. R. Leavis (1895-1978)، وحتى الآن، وأنه حصل على كل جوائز الإخراج المسرحي المختلفة في إنكلترا وأميركا. وقد سبق له أن أدار فرقة شكسبير الملكية Royal Shakespeare Company الشهيرة 1968-1986، ثم أدار المسرح القومي الإنكليزي National Theatre 1997 – 2003، ثم تفرغ بعدها لإخراج المسرحيات التجارية الكبيرة والناجحة؛ ويدير الآن أحد أكبر المسارح التجارية (Theatre Royal – Haymarket) في “الويست إند”، حي المسارح التجارية في لندن. لكن الأهم من هذا كله، أنه اشتهر بإخراج بعض أنجح الأعمال المسرحية الموسيقية الاستعراضية التي استمر عرضها لسنوات في لندن ونيويورك، مثل (البؤساء Les Misérable)، المأخوذة عن رواية فيكتور هوجو الشهيرة، و(القطط Cats) المأخوذة عن ديوان ت. س. إليوت، وغيرها كثير من المسرحيات التجارية الناجحة التي تدر دخلا كبيرا على مخرجيها. ناهيك عن حصوله بسببها، وبسبب غيرها من أعماله الإخراجية الأخرى على الكثير من أشهر جوائز المسرح الإنكليزية والأميركية، وصولا إلى تتويجه قبل عدة سنوات بلقب فارس “سير”، مع أنه طالع من أفقر طبقات المجتمع الإنكليزي العمالية، فقد كان أبوه نجارًا بسيطًا. ولولا تبني مدرس اللغة الإنكليزية في المدرسة الثانوية له، وإيمانه بقدراته وحثه على التقدم لاختبار كامبريدج، بل وفر له ثمن دخوله حيث لم يكن ذلك في طاقة أسرته الفقيرة، لما وصل إلى ما وصل إليه اليوم.

فما الذي يدفع مخرجًا ناجحًا، تدر عليه المسرحيات التي يخرجها للمسرح التجاري أموالا طائلة، (فقد سبق أن قال سومرست موم: حينما تكون لك مسرحية ناجحة في الويست إند، فإنها مثل حنفية مفتوحة على حسابك في البنك لا تستطيع إغلاقها)، إلى إخراج مسرحية لمسرح تجريبي صغير لا يتجاوز عدد مقاعده مئتي مقعد؟ الإجابة عن هذا السؤال وتأكيد ما ينطوي عليه موقف تريفور نان ذاك من قيم مسرحية وفينة، دفعاني إلى مشاهدة هذه المسرحية، وإلى الكتابة عنها للقارئ العربي كي أقدم له ما ينطوي عليه هذا الموقف من قيم ودروس. وإذا أردت الجواب عن هذا السؤال بكلمة واحدة لقلت “الدراما”، وإذا أردت المزيد من الإجابة لقلت أيضًا الالتزام بالقيم التي يدين لها نان بشهرته ومكانته وثروته معًا.

فعلى العكس من كثيرين من المثقفين الطالعين عندنا من الحضيض الاجتماعي، والذين ما أن يحققوا شيئًا من النجاح والشهرة حتى يتنكروا لتاريخهم ولكل ما قامت عليه مكانتهم من قيم، ويتخلوا عن مبادئهم كي يحصلوا على المزيد من النفوذ والثراء، فإن تريفور نان الذي يدين لقيم اشتراكية حزب العمال الإصلاحية عقب الحرب العالمية الثانية، التي أتاحت للنابهين من أبناء الفقراء التعلم في الجامعة على نفقة الدولة، بما حققه من نجاح، فإنه لا زال وفيًا لتلك القيم ولدين المجتمع عليه. ومن هنا كان اهتمامه بتقديم هذه المسرحية لمسرح تجريبي صغير.

إذن فتريفور نان يحرص على أن يرد دينه لمجتمعه، بأن يقدم أفضل ما عنده لمختلف شرائحه، سواء تلك التي تستطيع دفع ثمن تذاكر المسارح الكبيرة والأعمال الاستعراضية الضخمة، وهي بعشرات الجنيهات، أو الذين يعشقون جوهر المسرح ويترددون على مسارحه الصغيرة بتذاكرها الرخيصة نسبيًا. كما أنه يحب، كما يقول لنا في برنامج المسرحية، العمل بين الحين والآخر على نطاق صغير، يوفر نوعًا من الحميمية المسرحية، ويختبر مدى قدرة المخرج على بلورة الدراما بأقل الإمكانيات المادية. وبالإضافة إلى غواية المكان وحميميته التجريبية، فإن المسرحية نفسها شديدة الآنية، من نوع ما يمكن دعوته بمسرح “القضية”. بمعنى أنها تتعامل مع ما يدور في واقعنا الراهن من آليات الثروة والقيم، ومدى أخلاقية الرأسمالية المالية وقد أحكمت قبضتها على عالمنا بصورة مكّنتها من تأميم خسائرها وخصخصة أرباحها التي تصب ملايينها في أيدي حفنة من اللاعبين.

بعد هذه المقدمة التي طالت قليلاً، علينا التعرف الآن إلى المسرحية نفسها. وهي مسرحية ذات عنوان بسيط ولكن له مفارقاته الدالة، وهو “الحلوى”، أو هي بالفصحى “العُقبة”. والعُقبة هي حلوى يُختم بها الطعام/ قد تكون كعكة أو فاكهة أو أي شيء حلو. وقد اختار ملصق المسرحية وغلاف نصها المطبوع أن يصورها في صورة كعكة.

وهي صورة آثر أن يلخص بها المعنيين: الحرفي للحلوى التي يُختم بها الطعام، والتي تقسم فيها الكعكة إلى شرائح لكل آكل حول المائدة قطعة، والمعنى الاستعاري الذي تشي به الأرقام المدونة عليها. فهي هنا الكعكة الوطنية التي تمثل الناتج القومي الإجمالي البريطاني الذي يحصل 5% من المجتمع على القسم الأعظم منه، بينما لا تتبقى للأغلبية الكبيرة، 95% من سكانه، غير هذه القطعة الصغيرة من الكعكة، أو بالأحرى ما لا يزيد عن ثُمنها بأي حال من الأحوال في المجتمع الإنكليزي، وأقل من ذلك كثيرًا في مجتمعاتنا العربية المنكوبة.

وحينما تبدأ المسرحية نجد أنفسنا في غرفة المائدة في قصر/ قلعة أحد رجال المال الإنكليز يدعى “هيو فانيل” في الريف الإنكليزي، على عشاء باذخ يستضيف فيه مع زوجته “جيل” صديق عمل من رجال المال الأميركيين “ويزلي بارنز” وزوجته “ميرديث”. ويدور الحديث على المائدة بصورة نتعرف بها على طبيعة هذه الشريحة العليا وطريقة تفكيرها ومشاغلها، وعلاقات رجالها بنسائهم، وعن البيت الصيفي الذي اشتراه كل منهما لتمضية عطلات الصيف به، وكيف يفكر “هيو” في شراء بيت آخر لتمضية عطلات الشتاء فيه؛ وعن آخر الصفقات التي ينشغل بها كل منهما، وعما سيحققه فيها. وهو حديث لا ترد الأرقام فيه إلا بمئات الآلاف أو الملايين. ويستمر النقاش على المائدة بصورة نتعرف بها على هذه الشخصيات الأربع وعلى طبيعة العلاقات بينها، وعلى طبيعة الأعشاب التي استخدمها طبّاخ “هيو” في إعداد الطبق الرئيسي. وما أن يجيب الطبّاخ “روجر”، على أسئلة الضيف، وينصرف بالأطباق الفارغة كي يعود بـ”العُقبة” أو الطبق الأخير: الحلوى، حتى يحدث أمران: أولهما أن يلاحظ “ويزلي” أحدث مقتنيات “هيو” الذي يعرب عن سعادته لملاحظة زميله هذه اللوحة التي اقتناها مؤخرًا ودفع فيها 240 ألف جنيه إسترليني، لأنه يعتقد أنها لرسام البندقية الشهير جيورجيوني (1477-1510)، الذي مات مبكرًا، لذلك لم يخلّف إلا عددًا محدودًا من اللوحات. وأنه لو أمكن التأكد من أصالتها ونسبتها حقًا للرسام الشهير، فإن قيمتها ستقفز إلى ثمانية ملايين. هذه القفزة المحتملة في قيمة اللوحة، هي مجرد نموذج، يسهّل على مشاهد المسرح العادي فهم طبيعة الصفقات المالية التي يحققها كل منهما في مجاله، وتقفز عبرها ثروته من الآلاف إلى الملايين، من دون مجهود كبير.

أما الثاني فهو أن ينطفئ الضوء فجأة، وتظلم الغرفة لوهلة. وما أن يعود لها الضوء حتى يختل التوازن في المشهد كله، بدخول “إيدي” يحمل مسدسًا، والذي لم يقطع النور فقط عن القصر، بل قطع سبل اتصاله بالعالم الخارجي من تليفونات وإنترنت. فقد استخدم الخبرات التي أتقنها حينما كان جنديًا بالجيش الإنكليزي في أفغانستان، في التغلب على الدائرة الأمنية المحكمة من أجراس إنذار يدق بعضها فورًا في مركز الشرطة، والتي يحيط بها “هيو” قلعته. ونعرف أنه فقد إحدى ساقيه أثناء خدمته في أفغانستان، كما فقد أبوه الذي عمل طوال حياته في دكان بيع الصحف كل المدخرات التي وفرها لتقاعده، في إحدى شركات محافظ الاستثمار، التي أدارها “هيو” واستقطب فيها مدخرات البسطاء، ثم قام بتصفية الشركة وأعلن إفلاسها، فضاعت على صغار المستثمرين كل ثرواتهم.

لكن “هيو” الذي أدت أخطاؤه لتصفية الشركة خرج من الموضوع بمكافأة ضخمة من عدة ملايين. هنا يبلور “إيدي” الموقف في سؤال بسيط: أبي ارتكب خطأ بسيطًا فضاعت كل ثروته ودُمرت حياته، وأصابته صدمة ضياع كل مدخراته بجلطة دماغية ما زال يعاني منها حتى اليوم؛ وأنت ارتكبت أخطاء في إدارة الشركة أدت إلى إفلاسها، فحصلت على مكافأة بالملايين، هل هذا مقبول؟ إن هدف “إيدي” الرئيسي في ما يبدو هو أن يفهم “هيو”، ونظيره الأميركي بالتالي، الأثر الرهيب لما يقوم به من مضاربات في حق مئات المستثمرين الصغار، ومدى تدميره البشع لحياتهم، من خلال عرض ما جرى لوالده عليهم. حيث يرقد الآن شبه مشلول نتيجة ما اقترفه “هيو” في حقه. لكن “هيو” لا يريد الاعتراف بما اقترفت يداه. ويتحجج بأن هذه قواعد السوق الواضحة للجميع، حيث يتذبذب صعودًا وهبوطًا وفق تقلبات الاقتصاد، وأنه حذر المستثمرين بداءة من أن احتمالات الربح ترافقها احتمالات الخسارة.

لكن الأمر الغريب، وهو من خصائص الواقع الاقتصادي في كل من إنكلترا وأميركا، وحدهما عكس بقية الدول الأوروبية مثلاً، هو أن مكافآت مديري وأصحاب الشركات المالية وأرباحها لا تخضع ككثير من الشركات لمدى نجاحها في تحقيق الأرباح أو خسارتها، وإنما تستمر في التنامي بشكل استفزازي، حتى حينما تفلس تلك الشركات. وبين استمرار هذا الجدل الذي تتكشف عبره بالتدريج قضايا المسرحية والحرص على الكشف عن طبيعة شخصياتها الست ومواقفها، تمضي الأحداث. فيسعى “روجر” لتخليص الموقف من “إيدي” بالتذرع بأنه يحتاج للذهاب للحمام، لكنه يجلب بندقية، وما أن يطلق النار عليه حتى نكتشف أنه يخطئ الهدف ويصيب اللوحة الغالية بدلاً منه. وحينما يبدو للحظة أنه أردى “إيدي” قتيلاً، يتخلى “هيو” فورًا عنه، ويتملص من أي مسؤولية عما اقترفه، بصورة تكشف عن مدى أنانيته وتخليه عمن حاول إنقاذه، بل ولومه إياه لأنه أصاب اللوحة الغالية.

يستعيد “إيدي” السيطرة على الموقف، فقد أعد خطته جيدًا، بأن استقطب اهتمام “روجر” في بار القرية حتى رشحه للعمل في دهان إحدى غرف القصر/ القلعة كي يعرف مداخل القصر ومخارجه. وكيف أنه وقد جاء يعرض على “هيو” مطالبه قد احتجز ابنه الوحيد في مكان أمين، ولن يطلق سراحه إلا إذا ما رد “هيو” لوالده ما خسره دون زيادة أو نقصان، والتبرع بمكافأة العام الماضي، وهي تسعة ملايين جنيه، لجمعية خيرية بعينها. وهو أمر كان باستطاعته تلبية شقه الأول، لأن ما خسره أبوه مبلغ تافه بالنسبة لـ”هيو”، لكن مكافأة العام الماضي أمر آخر، يجعله يصرّ على رفض مطلبه، برغم إلحاح زوجته عليه لخوفها على ابنها الذي أسمعهما صوته وقد طلبه “إيدي” على تليفونه.

ويدور جدل طويل حول عدالة وأخلاقية ما قام به “هيو”، وبالتالي صديقه ونظيره الأميركي، تبرر فيه الرأسمالية المالية تصرفها بمنطق لا يقنع المشاهد، ونعرف عبره آليات عمل تلك الرأسمالية وكيف تغري بداءة صغار المستثمرين بتحقيق ربح كبير، حتى يضعوا كل مدخراتهم فيها، كما حدث مع أبيه الذي استثمر أولا بضعة آلاف، فلما تحقق له عائد ضعف ذلك الذي يقدمه له البنك، وضع كل ما ادخره لتقاعده، وقيمته أكثر من مئة ألف جنيه، في شركة “هيو” تلك، ثم صفّى “هيو” الشركة بشكل قانوني، لأن القانون يحمي الرأسمالية ويسهر على خدمتها، وحصل على الملايين، بينما فقد صغار المستثمرين كل مدخراتهم. فكيف يبرر “هيو” فعلته؟ وحصوله على مكافآت بالملايين حتى حينما تخسر الشركة التي يديرها، وتبدد أموال المستثمرين فيها؟

إنه يتحدث عن صعوبة إدارة الشركات الكبرى، وما تستأديه من جهد كبير وثمن باهظ من أعصابه ومهاراته المكتسبة في السوق المالية. أمام هذا التبرير الطويل يطرح “إيدي” سؤاله التالي: هل يستحق أحد تسعة ملايين جنيه في السنة؟ وكم يحتاج المرء من المال؟ هل ثمة عمل يبرر هذا المبلغ الضخم؟ إذا ما كان الجندي أو الطبيب أو المهندس أو المعلم يحصل فقط على عدة آلاف في السنة من عمل شاق، ربما أكثر مشقة على الجسد والأعصاب مما يقوم به “هيو”؟ ولا يفلح رد “هيو” عن طبيعة العولمة، وسيولة رأس المال، وما يوفره من فرص للعمل والإنتاج وتحقيق الأرباح في إقناع “إيدي” أو أي من المشاهدين! وهو الأمر الذي يكسب هذه المسرحية آنيتها. لأنه من المفيد أن تطرح مثل تلك القضايا على خشبة المسرح، حينما يحصل كبار المديرين في إنكلترا على دخل يعادل 129 ضعف متوسط ما يحصل عليه العاملون في شركاتهم. وحينما تكشف الإحصاءات عن أن مديري الشركات الكبرى يحصلون كل يومين على ما يعادل متوسط دخل الموظف العادي في السنة، وحينما يحصل مديرو الشركات المالية في نهاية كل عام على منحة إضافية بالملايين، حتى حينما تخسر شركاتهم.

ولأن هذا الوضع يتسم بقدر من الفجاجة المستفزة، فإن المسرحية استخدمت المواجهة الصادمة والمستفزة أيضًا، والتي يقلب فيها إيدي “بمسدسه” وسكينه، وقطعه خطوط الاتصال والإنترنت عن القصر، وذكائه وثقافته التي تتبدى من خلال الحدث الدرامي، موازين القوى الجائرة التي شاهدنا في البداية كم يستمتع الأثرياء بتحكمهم فيها، لأنهم يحصلون على مكافآت ضخمة، بصرف النظر عن أي إنجاز حتى لو جلبت إدارتهم الكوارث على الجميع.

إننا هنا بإزاء مسرحية تعكس الواقع الإنكليزي الراهن وما يمور فيه من غضب كظيم ناجم عن تنامي الفجوة بين الأغنياء وأغلبية الشرائح الأخرى من المجتمع، بل انسداد الأفق أمام قطاع كبير منهم. مسرحية تناقش قضايا الثروة والكفاءة والأخلاق. وتطرح معها قضية العدل الاجتماعي، وما هي الحصة التي يستحقها كل منا من الكعكة؟ هذا هو السؤال المحوري الذي تطرحه المسرحية بكعكتها الفعلية والاستعارية معًا. وهي تفعل ذلك بشكل مباشر وصادم، يتجاوز عن ضرورة أن تطرح المسرحيات الجيدة قضاياها الإشكالية بمواربة وحصافة. لأنها عمدت إلى بنية سجالية توشك أن تجعلها واحدة من مسرحيات التحريض والإثارة Agit-Prop التي تندلع عادة بعد الثورات والحركات الاحتجاجية. لكنها برغم صداميتها، لم تتخل عن أهمية البنية الدرامية ونسج الحبكة المسرحية بمهارة، والاهتمام بالشخصيات وبلورة دوافعها، بصورة تجعلها مزيجًا من مسرح تعرية النفس البشرية، ودراما العلاقات بين الشخصيات، ومسرح القضية الفكرية أو السجال السياسي.

فهي مسرحية تعي أهمية بناء الشخصيات من خلال ما تقدمه من معلومات عنها أثناء الحوار وتفتح الحدث التدريجي، وما تتكشف عنه مواقفها من تكوينات عميقة لها. ويستخدم حالة الأزمة التي يضع ظهور “إيدي” بقية الشخصيات فيها للتعرف على ما تنطوي عليه العلاقة الزوجية لكل من الشخصيات الأربع الرئيسية من تواريخ وتوترات تكشف في الوقت نفسه عن مدى حميميتها وإشكاليتها معًا. حيث يتحول تهديد “إيدي” إلى العامل المساعد الذي يتيح للنص تعرية الشخصيات بيسر ودون أي مباشرة في الوقت نفسه. حيث تتكشف بين كل زوج من الزوجين استهجانات لا تخلو من المودة، وزهق محبب لا تجده إلا بين الأزواج ذوي العلاقات المتينة القديمة والراسخة. وهي بسبب حميميتها وقدرتها على سبر أغوار الشخصيات، مسرحية قضية مهمة وملحة؛ حول تلك الهوة الضخمة بين الأثرياء الذين يزدادون غنى، والفقراء الذين يزدادون إملاقًا ومسغبة في العالم كله. تطرح سؤالها: هل يمكن لهذا الوضع أن يستمر في المستقبل؟ وتريد أن يخرج المشاهدون ليواصلوا الجدل حوله!

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *