“العنف” صرخة مدوّية خرقت الصمت وانفجرت في “مسرح المدينة”

هل باستطاعة الانسان المنفي في عزلة جنونه، وتيهه عمّن كان، أن يشتاق إلى الحب ويتذكّر أنه إنسان؟ ألا تكون الصحراء الجافة المتقوقعة فيه، تفسيراً للتخلي الذي أصيب به أو أصاب نفسه به؟ أسئلة لا بد ان تجتاح الخارج من المسرحية التونسية، “العنف”، لكاتبتها جليلة بكّار ومخرجها الفاضل الجعايبي، وكنت مع كل خطوة على رصيف المدينة تتوسّع آفاق تفكيري، لتشمل مآسي البشرية كلّها، إلى أية بقعة من العالم انتمت.

“ثورة الياسمين” التي ظن العالم فيها، السلام الموعود والنموذج لسعادة الانسان التائق إلى الحرية والاستقرار، حوّلت الزهرة الفواحة، إلى غرائز جماعية، تفوح برائحة الدم والموت والقتل والتعذيب. خرجت من “مسرح المدينة” مكفهرة الروح، محبوسة في جسد بدأ يضيق على ذاكرتي وفكري وكينونتي منذ اللحظات الطويلة الأولى التي دخل فيها الصمت أرجاء هذا المكان المحاط بجدران عالية، العاري سوى من مقاعد خشبية على أرض مسطّرة بالكلس الأبيض. إمرأة تسدّ تنفّسها بمحرمة، تدخل متردّدة، تسير بتؤدة، تجلس، تقف، تنتظر، في حنجرتها صراخ مسجون سوف يعلو بعد حين، ويعم فضاء المسرح.

“العنف”، كيف كان باستطاعة نزلاء هذا السجن، أو هم بحسب مخيّلتنا، نزلاء مختبر للتعذيب، لمن فقدوا الذاكرة وأصبح الهذيان لغة وبوحاً يشي بجنون ما صنعته الثورة بهم، وحوشاً كاسرة في بشرة إنسان هزيل، أن يتخاووا في أجساد ثمانية ممثلين وممثّلات، فاطمة بن سعيدان، نعمان بن حمدة، لبنى مليكة، أيمن الماجري، نسرين المولهي، أحمد طه حمروني، معين مومني، وجليلة بكّار التي إن كتبت، حرّكت المشهد التونسي في كتاباتها، وبأدائها في مسرحية “العنف” تماهت في المرأة الكاتبة، ممثلة في دور امرأة مسرح، سجنت في هذه الثورة لأسباب غامضة، وقد تكون هي تلك الكاتبة الكبيرة التي رفضت أن تأتيها براءتها من باب الرئاسة التونسية العالي.

المسرح لغة حياة، وخير ما فيه في هذه الليلة، أنه نقلنا عن مقاعدنا لا بالخيال بل بالمعنى الفج، الدعر، إلى أحشاء الحقيقة المبقورة، فأبدع الممثلون في إحيائها. شبّان وشابّات، حقنهم مسرح جليلة بكّار بدمها الثائر، بفكرها الحرّ، بإيمانها بالمسرح، فنّاً مرادفاً للغة الحياة، فتعمّدوا في طقوسه. رأيناهم يدخلون إلى الساحة من هذا المعبر الضيّق بين الجدران العالية، بملابسهم العادية، أو بعريهم الراسم حدود أجسامهم خطاً لا مرئياً، يرشح برائحة العدم والزوال.

مسرحية “العنف”، هكذا شاءها المخرج الفاضل الجعايبي، خشبة عبور إلى جسر يتواصل مع وقائع ما حدث، ولا يزال يحدث كالورم الخبيث الذي لا يبقى خفياً. من بين الممثلين جليلة بكّار، هي الأقل كلاماً، عبارة ألبر كامو “الانسان… للامتناع” اختارتها ضوءاً على قائمة النص. الامتناع الذي يحمي الانسان من الانزلاق في البربرية فيغدو وحشاً كريهاً.

التيه في الذاكرة، الجرائم التي اقترفت، البشاعات التي ذكرت كوثائق سوف لا تمحى من سجل الانسان التونسي، كشفت عن غريزة الانسان الحيوانية حين يتعرّى من وجدانه ويطلق لحرّيته التي ما عاد عليها رقيب، مخزون آفاته وأحقاده الدفينة.

سجناء هم في هذه الساحة المغلقة بجدران عالية؟ مجانين في هذه العزلة المحكوم عليها بالموت؟ أمامنا مجرمون يتبادلون سلسلة من الأهوال والجرائم اقترفوها من دون أن يعاد النظر فيها. في وجوههم الشاحبة نقرأ علامات الموت الجماعي، الذي تبرع البلدان الديكتاتورية في التفنن به. اللوحات المتحرّكة ببطء أمامنا على إيقاع صوت خفيض مدوزن بأصابع قيس رستم على ملامسه الألكترونية، أعادت إلى ذاكرتي لوحة المساجين لفان غوغ المعروضة في متحف بوشكين في موسكو. مطأطئي الرؤوس يدورون في حلقة حياتهم الفارغة، مزنّرين بجدران رمادية عالية. المسجون يغدو بفعل انحباسه مجنوناً عنيفاً.

الثنائي جليلة بكّار والفاضل الجعايبي أدخلا فن المسرح منذ بدايات عملهما معاً في زمن المأساة البشرية وكوابيسها الديكتاتورية. فبعد ثورة 14 كانون الثاني من العام 2011، شرّعا دراستهما على وضع تونس ما بعد الثورة والنضال ضد تأثير الإسلاميين المتشددين على حرية الانسان التونسي. عبارة ألبر كامو “الانسان للامتناع” جعلا منها المقصلة لتطهير الفكر التونسي. دفاعهما عن الحرية هي رسالتهما التي لا يساومان عليها.

————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – مي منسي  – النهار

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *