العنف الرمزي ما بين بلاد المعتقَلين مسرحية خريف انموذجا/د.جبار صبري

في ظل بلاد ما بين المعتقلين : معتقل العنف الرمزي ومعتقل العنف الايديولوجي أضحى الانسان حين يعاين نفسه في مرآة وطنه لا تنعكس عليه الا صورته الواحدة في الوجهين المتناوبين : وجه الجلاد الذي يعقبه من نفسه وجه الضحية او العكس . وان هذين الرمزين / الوجهين / النهرين / المعتقلين اصبحا جزء من سيرورة تأريخه او نفسه او امله في حركة الحياة التي يسعى جاهدا تكرارها وجعل نموذجها : ذلك النموذج المحمول على قداسة التكرار وقداسة ايديو – نفسه باستمرار لحظة تواجده في الوطن او تواجده داخل هوياته ومرجعياته .
هكذا يطالعنا الجو المشحون بـ :
1 – ان بيئة العرض / الفكرة / الوطن انما هي بيئة المعتقل الذي يحتوي افراده في الصورتين : الجلاد والضحية
2 – ان عالمنا ليس الا تلك الثنائية التي يراهن عليها وجودنا : الضحية والجلاد في واقع ايديولوجي مترتب فيه الثاني على الاول مع توافر قابلية تغيير الادوار عبر تغيير الصور والاطوار .
3 – على الرغم من معمارية المكان / منتدى المسرح بوصفه بيتا بغداديا قديما الا ان واقع الموضوع برمته هو الذي يفترض معمارية العرض اكثر من افتراضات ذلك البيت البغدادي العتيق .
4 – ليس أمامنا اكثر من أقبية وغرف مظلمة وحمراء واصوات التعذيب وشدة القسوة وافراطها في انزال العقوبة والتلذذ بالعنف سبيلا لمعرفة الجو الدرامي في المرتبط موضوعيا وبيئيا بالجو الهوياتي للعرض .
5 – توازي الصراع في تقابلية الطرفين بعدد اثنين من الجلادين واثنين من الضحايا وكأنه يريد القسمة اجتماعيا ، ايديولوجيا ، وطنيا ، عقائديا ، متوافقة على شق البيئة عبر تلك الثنائية التي توفر لرضية ذلك التوازي في الصراع القائم على عدد من الجلادين يتساوق مع عدد من الضحايا .
هكذا اذن راهن العرض على القسوة في التعبير وهي اسلوبية تتوافق مع قسوة الفكرة المراد تصويرها وهي ايضا نزعة تريد ان تصدم المتلقي لتحرك افق تفكيره من افق تاريخه الممتلئ بالعنف والدم والممتلئ بلعبة مغلقة على نفسها مفادها : اننا في الواقع كما في الفكرة عبارة عبارة عن وطن بين معتقلين : الجلاد والضحية . ويدل هذا ان المخرج صميم حسب الله توافق بين فكرته واسلوبه ذلك من اجل وضع الرؤية في معادلها المتلازم مع طبيعة خطاب العرض المسرحي : خريف .
نتبين من هنا :
1 – ان الموضوع في محمولات العنف / المعتقل / القتل متلازم مع مرموزية المكان / التأريخ المحلي / – ومع احالة بيئة العرض كمعمار او سينوغراف .
2 – جاء الاداء بتضاعيف انفعالات الممثلين مؤكدا لتوظيف الفكرة من جهة واندماجا مع الاسلوب التعبيري للعرض المسرحي من جهة ثانية .
3 – انكشاف سر القسوة من خلال انكشاف سر الرمزية التي تسعى لبلوغ الرسالة من حيث بلوغ شدة العنف عموما في بلاد ما بين المعتقلين حسب الضرب المرجعياتي للعرض وخصوصا في مستوى افراد المجتمع الذين افترضهم العرض محورا له .
4 – الكشف المبكر عن رؤية العرض لاتضاح الفكرة والاسلوب والاداء كما بينا اعلاه والتي تهدف الى فضح العنف في بلاد ما بين المعتقلين : الخاص على مستوى الافراد والعام على مستوى الدولة وتأريخها . وكلاهما الخاص والعام توافرا في حالة مرمزة من الخطاب المتوارث كهوية للدولة او الافراد كمرجع اصيل يدفع او يحرض الى العنف سلوكا وفكرة .
ولأن طبيعة الخطاب قد كشفت عن نفسها في بدء العرض بوصفها طبيعة العنف صار الاكتفاء من تشييد بيئة العرض معمارا لارتباط ذلك المعمار في ذهنية المتلقي وهذا ما دفع المخرج والسينوغراف الى تجريد المكان والاعتماد على تأثيثه عبر مخيال التلقي اكثر من تأثيثه عبر ديكورية يفترضها العرض المسرحي .
وان القول بتضاعيف قسوة الموضوع ، الاسلوب ، الاداء ، الرمز بوصف ان ذلك القول يشكل لاحقا رسالة العرض صار تكرار الالم . تكرار القتل . تكرار سفك الدم . تكرار التعذيب عذوبة فنية وان كانت تلك العذوبة قاسية ، مرة ، شديدة الاثر على المتلقي لكنها تحمل في طياتها ضرورة كمعادل موضوعي لما يطرحه العرض وصار الايقاع نافرا من شدة قسوة الاداء وتكراره وهذا جعل ما هو ايقاعي على الرغم من وطأته القاسية لكنه جاء متواطئا مع انساق العرض بالعنف والرمز .
ولأن العرض تطارح بين معتقلين : معتقل الذات ومعتقل الهوية انقسم زمانيا الى مرحلتين تؤرخان للواقع المعيش على نحو :
اولا : مرحلة ان تكون الايديولوجيا في ذروتها بوصف ان القتل مشروعها الاول والاخير في قيادة المعتقل / الافراد / الوطن / الفكرة . وقد تجسدت من خلال شبابية الجلادين وشبقية التلذذ بالعنف . وبلغ الرمز فيها مراده حين صارت مزاريب المعتقل / اسقاط علوي – سماوي تمطر دما يتطهر به الجلاد اذا بلغ التعذيب مرامه الاقصى وهو بذلك يؤكد ان هناك تعاضدا سماويا لأجل :
1 – ان المعتقل سلسلة من الطوابق المعمارية التي تفضي الى مراتب للتعذيب وسفك الدم .
2 – التواطؤ الرمزي للسماء على حساب الارض
3 – الاستعاضة بالدم بدلا عن الماء بالتطهير وفي هذا محمول رمزي ان زيادة منسوب القتل افضل طريق لبلوغ نظافة الايديولوجيا وديمومتها .
4 – الواقع المعيش هو صورة التعذيب وتكرارها . وهذا يدفعنا نحو ان فعل الايديو- دم في ذروته لا يحتاج الى التعبير عن نفسه . الامر الذي تغيب فيه الملفوظ عن الممثلين كوسيلة تعبير ..
ثانيا : مرحلة ان تشيخ الايديولوجيا المرموزة بشراهة القتل . آنذاك تتوقف السماء عن منحها شرعنة خطابها ولا يتبقى لها الا نزيف الارض الذي يؤكد تواصل الوطن بوصفه معتقلا للقتل والتعذيب فقط وان نافورة الدم الخارجة من مجرى المعتقل هي مرموز لتواصل فكرة واداء العنف اساسا لبقاء تلك الايديولوجيا .
ولقد بدى ذلك الضعف واضحا لايديولوجيا الجلادين حين صار السرد عبر ملفوظات الحوار اصلا بالتعبير عنها بدلا من ذلك الفعل الخالي منه في ظل المرحلة الاولى منها . وهذا عكس مدى الظرفية بين المرحلتين : ظرفية فعل الجلد الذي يعبر عن نفسه بنفسه وظرفية سرد الجلد الذي يعبر عن نفسه بوسيط لسانه لا يده .
كذلك اعانة التأثيث بالكرسي هي اعادة لإفضاء الشرعية المفتوحة للجلادين وهي محاولة للتمويه بقوة الايديولوجيا على الرغم من مرورها بطور الشيخوخة . وهذه المحاولة جاءت لتأكيد ان جموع الكراسي المتناسبة مع جموع الجلادين والضحايا لحظة الاداء هي ان الايديولوجيا اليوم كمشروع بلغ شيخوخته بمقدوره ان يجعل اللعبة بأدوار واطوار مختلفة فيكون آنذاك ضحيتها جلادها وجلادها ضحيتها وبدلا من ان تكون مرموزية العنف والقتل واحدة متراتبة في جهة ايديولوجية اصبحت متوزعة في جميع الجهات واصبح المجتمع برمته سلطة وعنف ومعتقل . الامر الذي دفع المخرج الى تقديم بيانه الختامي تقريرا لا اداء وحسب وعلى لسان الممثل يحيى ابراهيم بما قوله : رضاكم كمجتمع بالقتل جعلني والدولة مجرد قتلة

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *