العلامات فـي المسرح الإغريقي..النص بوصفه علامات عرفية.. والصوتُ والقناعُ دالٌ ومدلولٌ /أحمد شرجي

على الرغم من هذا التحول والتطور الكبير على مستوى التمثيل (تعدد الشخصيات داخل العرض)، ظل القناع/ الشخصية ملازماً لوجه الممثل، فهو العلامة الأكثر حضوراً داخل المسرحية من جهة تميّز شخصية من أخرى، ولم يذكر لنا تاريخ المسرح الإغريقي، عن ممثل قام بتجسيد شخصية واحدة طوال العرض المسرحي، بل أنه عادة ما كان يجسِّد من ثلاث الى أربع شخصيات في العرض المسرحي الواحد، عن طريق تعدد الأقنعة/ الشخصيات.

ولاستكمال القدرات التعبيرية، تشير قوة صوت الممثل إلى مقدار مهارته بتجسيد الشخصية، وتعطى جوائز المسابقات التراجيدية في ضوء جودة الإلقاء. لقد كان للمسافة بين مكان لعب الممثلين ومكان جلوس الجمهور دور مهم في عملية الإلقاء. ولهذا، كانت المهارة “بطريقة استخدام الصوت: العالية أو المنخفضة أو المتوسطة، وبالإيقاعات التي تستخدم مع كل طبقة. وفي الواقع أن كل ما ذكر يشكل النقاط الثلاث التي تجذب الانتباه: حجم الصوت، والتغيّر في طبقته، والإيقاع، والمتنافسون الذين يسعون وراء هذه النقاط هم في الغالب الذين يفوزون بالجائزة…”( ديور، إدوين، فن التمثيل من الآفاق والأعماق، مصدر سابق، ص 57).
وإذا كانت المهارة الصوتية تحدد الجائزة بوصفها سمة بعيدة عن المبالغة، فإن المبالغة هي السمة التي تتميز بها الأقنعة، حيث ترسم تعابير الوجه على الأقنعة بشكل بارز وواضح لتسهل عملية المشاهدة، “فالتعبيرات الوجهية المضخمة في القناع، مثل وجه أوديب الدامي ومنفقئ العينين، كان يوحي، بخطوط عريضة إيجازيه، بالمواصفات الأكثر بروزاً للشخصية بالنسبة للجمهور المتجمّع في الحلبة الدائرية الواسعة في المسرح اليوناني”( كول توبي، شينوي، هيلين كريش، الممثلون والتمثيل تاريخ التمثيل ص 17)، وبهذا تكتمل وسائل الإيصال، من خلال النص، القناع/ الشخصية، مهارة الصوت، المبالغة…
بذلك تشكل العلامات الصوتية، إحدى المرتكزات المهمة في عملية اشتغال الممثل/ الحامل للعلامة، ويكون الصوت والأقنعة جوهر العملية التمثيلية في المسرح اليوناني القديم (الإغريقي). ولم يعرف المسرح اليوناني الشخصيات النسائية، وكان الرجال يقومون بأدوار النساء، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أدّت إلى ارتداء الممثلين الأزياء الطويلة، على عكس الزي اليوناني المعتاد، لإخفاء تقاسيم الجسد الذكوري، ما يسجل تعطيلا للجسد بوصفه علامة، في المسرح اليوناني، من خلال تحوير آني (لحظة العرض) للجسد الذكوري، نحو جسد أنثوي من خلال القناع/ الشخصية، لأن هدف التراجيديا الفعل/ الأفعال، وهذا ما يوجد بقوة في النص.
إذن، لم تحضر العلامات الجسدية في المسرح اليوناني، إلا من خلال الرقص، لكننا نتحدث عن جسد الممثل والعلامات التي يصدرها للمتلقي، بوصفه علامة، اكتفى هنا بوظيفة الحامل للعلامة، سواء كان حمله الأقنعة، بوصفها علامات إحالة أو إشارة إلى الشخصيات أم تحوله إلى جسد أنثوي، حسب الشخصية التي يؤديها كما ذكرنا سابقاً. وفي ضوء ذلك شكّل الصوت أولى الضرورات التي ميّزت المسرح اليوناني، فلقد “كان الصوت هو الشاغل الأول لأي ممثل تراجيدي يوناني، لأن الحركات والإيماءات كانت مقيّدة وبسيطة، ولأن تعبيرات الوجه كانت مستترة وراء قناع، ولأن مسرحه الضخم لم يكن مكان الرؤية بقدر كبير”( ديور، إدوين ، ص 78-79).
ومن ثمة فإن العلامات الصوتية تعبّر عن كل التقلبات النفسية للشخصية، فالنغمة الصوتية تلعب دوراً مهماً بإيصال روحية الفعل والحدث، وتؤثر في الجمهور: علامات الغضب، القوة، الضعف، العنف، البكاء. تصل إلى الجمهور علامات لفظية تمتلك قوتها من خلال إلقاء الحامل/ الممثل، وتحكمه بالطبقة الصوتية، هارمونية الإلقاء كما هو الحال في الموسيقا، مهمتها إيصال الإحساس والمشاعر، حتى لو كانت متخفية خلف القناع.
لكن المسرح اليوناني انفتح على آفاق أخرى مع يوربيديس Euripie، بإضافة الممثل الثالث وتقليص الجوقة، ما شكّل تغيراً جذرياً في شكل الصراع، من صراع عمودي، إلى صراع أفقي، اهتم بالجوانب الإنسانية داخل المجتمع، فلقد حملت مسرحياته عواطف جيّاشة، وأعمالاً ميلودرامية، صوّرت الإنسان كما هو في الحياة، وأصبحت الشخوص تحاكي نظراءها من الجالسين بين الجمهور، تشبه كثيرا منهم، وساهم هذا التحول كثيرا بتعدد حضور الممثلين على المسرح (كأشخاص)، وكذلك بدأ يأخذ كثيرا من شخصيته الحياتية ويركبها على الشخصية المسرحية، مضيفاً بعضا من خبراته الحياتية بشأن الشخصية التي يمثلها. .
يذكر أن الممثل اليوناني (بولوس)، الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة تفوّق فيها عن أقرانه من حيث قوته الصوتية وأدائه المتقن، كان يُستعان به في تمثيل التراجيديات المهمة، كان قد استخدم في تمثيله لشخصية الكترا، الجرّة التي تحتوي على رماد ابنه، الذي لقي حتفه قبل فترة، وكان يحبه حباً شديداً، وبسبب حزنه اعتكف عن ممارسة التمثيل. وعندما مثّل شخصية الكترا، وكان يتحتم عليها أن تحمل جرّة يفترض أنها تحتوي على رماد أخيها أوريست، وتنثر رماده وهي تبكي، استثمر بولوس، حادثة ابنه، واستعان بالجرّة التي تحتوي رماد ابنه، وأخذ ينثر رماده وكأنه رماد أوريست، وبدلا من التظاهر بالحزن، أصبح حزناً حقيقياً يملأ المكان. إنَّ توظيف المخزون الحياتي للشخصية، ولّد أفعالا حقيقية تفجر فيها إحساس الممثل براكين من المشاعر المتدفقة على الخشبة ( كول، توني، وشينوي، هيلين كريش، الممثلون والتمثيل ، ص 41)، لأن مسرحيات يروبيديس طرحت قضايا إنسانية، حيث أصبحت عنده ألكترا، شخصية حياتية ملابسها رثة وتقوم بتنظيف البيت كزوجة، وتنتظر زوجها الفلاح، وهذه العلامة/ الشخصية حتما لها نظيرها داخل المجتمع. وبهذا يسجل أول حضور للعلامات النفسية في المسرح اليوناني، من خلال الاستفادة من تراكم المخزون الحياتي للممثل وتوظيفه لصالح الشخصية، ويكون يوربيدس “قد فاق أسلافه في تشجيع ممثليه بطريق غير مباشر، وخاصة في الأدوار الرئيسة غير التراجيدية لكنها مثيرة للشفقة، على أن يكونوا أكثر إنسانية وذلك ببناء تفسيراتهم للأدوار، في نطاق الحدود الشكلية، على أساس من خبرتهم الشخصية”( ديور، إدوين، فن التمثيل من الآفاق والأعماق ، ص63).
نستخلص من هذا بأن الممثل بدأ يهتم بالجانب النفسي للشخصية، وأن يكون أكثر إنسانية في أثناء تعاطيه مع الشخصية التي يمثلها انطلاقاً من الموضوعات التي طرحها يوربيديس، لأنها أكثر التصاقاً بالواقع، هدفها أيضا إثارة الشفقة والرحمة، لكن من جانب آخر، ليس من خلال وقوفه ضد الإرادة الإلهية، بل من وضعية الشخصية في الحياة.
وبذلك يكون الهدف الرئيس للمأساة قد وصل إلى المتفرج، عن طريق إثارة الرحمة والخوف، فهو يمثل سميولوجيا الصورة الذهنية عند المتفرج، بمثابة المدلول، وأن الدال هو النص، الذي يضم الفعل/ الأفعال التي ينتجها الخطأ التراجيدي. يشكل الفعل جزءاً من العلامة، التي لا تكتمل إلا من خلال جزئية مشاعر الخوف والرأفة عند المتلقي، ويحصل التطهير بوصفه نتيجة للتخلّص من تلك الأخطاء.
وبهذا تتشكل علامة جزؤها الأول الأفعال التي يبثها السيمانطيقي، التي يحملها النص، لكن هذه العلامة لا تنمو وتتطور من دون استثارة الحس العاطفي، على وفق ذلك يشتغل النص بوصفه علامات نوعية، ومشاعر الرحمة والخوف علامات عرفية، والتطهير علامات تصديقية، لأنها تشتغل علامات وجود بالنسبة لمؤولها، وتشكل مجتمعة تركيبا تراتبيا لأضلاع العلامة، بمعنى آخر المثلث العلامي ، ويكون هرمه النص ، وقاعدته الرحمة والخوف والتطهير…
ولكنها تشتغل داخل العرض أفقيا وليس هرميا، فهرميتها تكمن داخل النص، لأن كل جزء منها يكمل الآخر، ولا يمكن أن يشتغل جزء بمعزل عن الآخر، هذا معناه إذا لم يوجد الفعل، لا يمكن أن يكون هناك خطأ، ومن دونهما لا يمكن أن يحصل التطهير، وفي العرض تكون كالآتي:
وكما نلاحظ بوضوح هنا، يكون النص المسرحي مصدر العلامات، وهو بحد ذاته علامة واحدة تقرأ بطريقة واحدة، ولا تعمل وفق المنهج السيميولوجي بتشظيها داخل العرض، لأن هذا يتقاطع مع جوهر الدراما في المسرح اليوناني، كونها حددت مسبقا القنوات التي تسير بها، حتى تصل لفعل التطهر. فهي تحمل خطابا لغويا بالدرجة الأولى. . لهذا العلامة تسير بقناة واحدة، السيمانطيقي، أداة توصيلها الكبرى، والممثل ليس سوى حاملا له، لأن المسرح اليوناني، مسرح لفظي، وفق ما تفرضه الإرادة الإلهية( القضاء والقدر)، والممثل فيه وسيلة لحمل ذلك الخطاب، تشكل الأقنعة/ الشخصيات والنص الأهمية الكبرى داخل العرض، والممثل علامة محنطة جسدياً، وعاطلة إيمائيا.
وأخيراً……
لم يلغِ طغيان الخطاب اللغوي في المسرح الإغريقي، أهمية الممثل، بل ظل مهيمنا بحمله المنظومة اللغوية لخطابه. ولا يمكن لذلك الخطاب أن يشتغل بفعالية من دون الممثل، الممثل العلامة على الرغم من أنه كان يتخفى وراء الشخصيات/ الأقنعة، التي يحملها في العرض. اختزلت وظيفته حاملا للعلامات، وهذا ما تفرضه العملية المسرحية آنذاك؛ منها عدم تعدد الممثلين (كشخوص)، وكذلك المسافة التي تفصل مكان اللعب عن مكان المتفرجين. تمثل وجود الممثل بوصفه علامة، من خلال قدرته الصوتية، وعبر ذلك المشاعر والأحاسيس. وهذه المهارات لا يمكن أن تكتسب بسهولة ويُسر للممثل في المسرح الحديث، بحيث يوظف كل قدراته الداخلية ويوصلها للمتفرج عن طريق وسيلة واحدة وهي الصوت، وهذه تحسب للممثل العلامة وحامل للعلامة.

المصدر/المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *