العقل النقدي ونظرية التعبير / د. جبار صبري

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

ارتمى العقل النقدي وامكانات تفعيل مشرط الناقد وارتسام موضعه في احضان نظرية المحاكاة قرونا عدة ، وكان ذلك العقل منكمشا الى حد ما في اظهار او اعلان مجساته وتشكيل مبضعه ومعرفة وجوده وتقهقره امام مهيمنات النظرية وسلطتها وصولا الى اواسط القرن الثامن عشر حيث توافرت النقلة النوعية التي عرفتها المجتمعات الاوربية في مجالات شتى على متغيرات كبيرة ومفصلية وجذرية من حيث الانقلاب الذي احدثته البرجوازية على الاقطاع ، وتلمس ذلك الانقلاب باشكال مختلفة من التاثير على الادب والفن والنقد ، يمكن تتبع اثارها على نحو : 1 – سياسي – اقتصادي .
2 – معرفي – فلسفي .
3 – ادبي – فني .
4 – صناعي – اجتماعي .
بدءا أدت عملية استئصال الاقطاعية وفرض وجود البرجوازية اسهاما في تحقيق طفرة وانتاج متغير آخر من شأنه ان يصنع تفاصيله التي تؤرخ الى تحديد انماطه وشكله الذي تقولب به. ولقد تجلّى هذا المتغير من خلال استنهاض قطاع الصناعة وانتعاش لأشكال صناعية ترادفت بانتعاش متغيرات فكرية ومتغيرات ذات نوع جديد من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ، وهذا الترادف الجديد بين المتغير الصناعي وبين المتغير الفكري بلور نتاجات فلسفية ، تأطر بها فنا وادبا متمايزا ، متغايرا عن قبله ، وبدلا من الروح الجماعية ، ظهرت متمركزة في لعبة الانتاج ، الروح الفردية ، ومن ثم وجدت ديموقراطية وان كانت محدودة ، وظهور للصحف والطباعة وانتشار مبضع القلم ، بأنتشار الكتب والمجلات وانتشار القراءة.
هذا كلّه كان مدعاة للثورة على الكلاسيكية بكل سلطاتها ومرتكزاتها ، وهو مناهضة ايضا للأدب والفن الكلاسيكي القديم ، مناهضة او ردّة فعل ، او انتاج دور وخطاب آخر . كل ذلك ادى الى ظهور او انبثاق نظرية مغايرة وشرط نقدي آخر ، اطلق عليهما بالنظرية التعبيرية.
واذا كان الاقطاع قد رفع شعارا : في البدء كانت الجماعة فأن البرجوازية رفعت شعارا بالضد منه : في البدء كانت الذات ، ومفاد ذلك الخروج من دائرة المجموع الى دائرة الفرد ، خروجا يؤشر جوهر المناقلة والنقلة ، في خطوات رصد النتاج الأدبي – الفني / المعرفي – السياسي وغيرها ، مما سيعطي وجها جديدا لتشكيل الخطاب على اساس فردنة ذلك الخطاب من حيث فردنة الذات نفسها في هذا العالم.
لم يعد الفرد منسوبا الى جماعته انما النسب الفاعل والخاص به يحدد بنفسه ولنفسه لأجل ان تتفردن ذاته وجميع الاشياء المحيطة به وجميع مريداته التي تصب مباشرة في عمله او تتجاور لديه في تحصيلات فلسفية تساعده على توفير مناخات الذات بخصوصياتها وابعاد مناخات المجموع بعموميتها .
وحاصل شعار البرجوازية (دعه يمر ، دعه يفعل ) يتأتى من حاصل مركب المسار والغاية ، فيبدو المسار فيه اقتصاديا ، وتبدو الغاية منه المزيد من الحرية . وبالتالي انعكس هذا الشعار بأطروحته المركبة : الاقتصاد/ الحرية على الثقافة في مركبها الفن / الادب ، وقدّمت شعارا يعادله او يوازيه تحت عنونة (دعه يعبّر عن ذاته) .
وهذا ما يجعل الفرد ، كل فرد ، مكتفيا بذاته ، وقائما بها . انه حجر المعرفة ، وحجر انفتاحها وهو سحر وسرّ القابلية التي بمستطاعها ان تعبر عن الذات ومشاعر تلك الذات وافكارها ، وكذلك تحقيق فرادة وجوده من غير الاتكاء او غير الانتماء الى فئة اجتماعية تؤطر وجوده الخاص وتحكمه بطوق نظامها الخارجي الذي لا يتصل به ، منه . بل يتصل به من غيره .
يعظم الفارق بين الاثنين كثيرا لأن التقابل يحضر بكل قوته ، تقابل الداخل في صناعة المشهد الفكري ، او المشهد النقدي على الخارج ، وفي هذا المنحى تتوالد مركبات كثيرة تتأصل في صناعة المشهد وفرض معطياته ، وهذا التوالد من صفاته ان يرسم خرائط اخرى غير ما اعتادت عليه الصورة الكلاسيكية السابقة . ومن مثل هذه المركبات المتوالدة . الداخل/ الخارج او الذات / الموضوع او المثال/ المادة او الكل /الجزء ، مما يثير مواجهة ثانية في تحديد نوع العقل الذي ستنتجه الفرضية القادمة من التعبير .
ولأن الميتافيريقا لم تخرج عن النسق المحمول العام في المجتمعات الا ان نافذة ثانية من مدخل قراءة اخرى اناطت بتجربة لم تماثل بشيء لا من قريب او بعيد التجربة الماضية ، وهذا في مكمنه اندفاع لظهور (الفلسفة المثالية الذاتية) التي سعت الى فضّ مشكل الآلية وانحسارها مقابل المناداة بمبدأ الديناميكية وانتشارها ، وهذا ما بدوره سيدعو الانسان لأن يكون سيّد نفسه .
الامر الذي سيعزز قدرات الفرد لإمكان تصوير الذات للعالمين : الخاص والعام ، تصويرا نابعا من الداخل بقوانين الداخل نفسه . بالبنية المتنامية والحيوية الكامنة في ذات الانسان وما تملكه من خصائص فريدة على مستوى تفكيك العوالم ، جوانيا ، واعادة تركيب ذلك العالم ظاهريا . بعبارة ثانية سحب مفردات الكون بتشريح تلك المفردات وتحليلها ، ومن ثم ، وبعد فضّ قابليات التجريد فيها وتحويلها الى كينونات مجسدة طافية على اسطح الحواس ، ولن يكون الفن آنذاك او التعبير الذي يكشف عن الصورة ، ايما صورة كانت ، قد انتجتها الذات .
للفيلسوفين ، كانت و هيغل ، بشارتهما في اطلاق ودعم نظرية التعبير ، هما شكّلا لبنات او اسس النظرية ، فقد قسّم كانت المعرفة الى قسمين:
1ـ معرفة حسية .
2ـ معرفة عقلية .
وهذا التقسيم تلازم بعملية فصل بين المعرفتين ، لكن ثمّة تفاضل في تقديم معرفة عن غيرها حيث ممكنات اداءها الوظيفي للوصول الى حقيقة الفهم ، اذ يجد ( كانت ) الطريق المؤدي الى المعرفة الحقيقية يتأتى من الشعور. هنا ينوجد الناقد بمقدار ما يتموضع في الشعور ، لكن هذا المقدار سيتفاوت طالما اختلفت نسبة شحنات المشاعر من فرد الى فرد ومن زاوية قراءة او عصر الى اخرى ، وبعد آخر.
لكن هيغل يقدّم مدخله من جهة ثانية ، وان كانت الذات او ما يطلق عليه ( الخبرة الخاصة ) هي حاصل شغل وابداع وتلقي النموذج الفني من حيث تتبع مصدر الفن بتلك الخبرة ، ومن حيث ان جدوى او ماهية الفن تقع في المظهر الحسي في تعيين وكشف الحقيقة بوصف ان الفن يتجلى فيه الرقي والصور المتعالية التي ستوظف امكانات التعبير عن تلك الحقيقة بما يؤكد ايجاد لعبة ترسم للذات حلقة تتصل فيها الذات بالفكرة اتصالا من صفاته التطابق والاتحاد بينهما وبما يدفع اللعبة بكليتها لإنتاج تتبلور قدراته من خلال تبلور خبرتنا الخاصة ازاء المنتج الفني .
اذن ، هناك منطقة مكمنها خفي تعمل على تحقيق تجريدات ذهنية منزوعة من قبل الخبرة الخاصة عند كل فنان ، وهذه المنطقة اللامرئية غايتها الاتحاد ، التطابق ، بغية اظهار منطقة مرئية ثانية . تعدّ هذه الاخيرة استتبابا للعبة وتماهيا لها لأجل الوقوف على منصة الحقيقة ، تلك الحقيقة التي ترى في الحس مظهرها ، وترى ان هدفها الاعلى مكمنه اقتراب الذات من الفكرة اقترابا تلاحميا ، مصيريا ، تكامليا ، لإنتاج الحقيقة وايداعها في سرّ الكشف والحضور .
ينحشر الناقد بمفصل الذات وبمفصل الخبرة المحفوظة والمحفوفة بمخاطر رؤيته ، ولن يكون الخارج عنده بمستوى الداخل فيه على الرغم من ان ( هيغل ) اشار الى ادراكنا للفن من حيث ادراكنا للفنان ، وهذه الزاوية هي القفص الذي سيؤرخ لاهمية الخارج عند الناقد لا بدعوى الموضوع ، ولكن بدعوى الذات . انه لا يقدر ان يمنح نفسه او مشرطه حرية تتبع المنجز وابداء تقيمه له او تقويمه تبعا لذاته او خبرته ، انما ما سيفعله هو الكشف عن ذلك المنجز بقراءة ذات الفنان وخبرته ، وفي هذا مفارقة لنظرية التعبير ذاتها اذ منحت حرية الابداع وشحن فعل المشاعر في انتاجه ولم تمنح حرية الرصد والكشف لذلك الابداع وشحن فعل العقل النقدي في التصدي له والقراءة .
انها بشكل اخر مساومة انفتحت ابوابها امام الفنان وانغلقت ابوابها امام الناقد ، وظلت نظرية التعبير عوراء في نظرها طالما وسعت من دائرة عين المبدع ولم تسع لاية توسعة من شانها ان تمدّ يد التوازي والمواجهة مع دافع العقل . ذلك المشرط الابداعي الذي لم تقصده النظرية ابدا وكانت دائرة عين الناقد مغلقة اشبه بمنطقة محرمة ، خالية من اية سلطة او قرار وجود .
لا يرى الناقد نفسه في هذه العملية الا بمقدار رؤية المبدع لفنه . انه منظور ادرك بخطوطه التواصلية في انفتاح الذات ما استطاع ان يدركه العقل الباطن ، توجهات اللاوعي عند الفنان . انه ، اي الفنان ، في هذه المحصلة اقرب الى ظل مسكين يحاكي سيدا له لا عن طريق التجسيد المرئي . بل عن طريق التجريد اللامرئي .
يجد هيغل ان الخيال اسّ الادراك واداته الفاعلة في لعبة الحضور – اي حضور المنجز لاحقا – عن طريق لعبة التصوّر ، وان تفعيل مخيلة الفنان يعدّ تفعيلا من شانه ان يصلنا بالحقيقة ، لان طبيعة الصور المحسوسة ستحرك طاقة الخيال لدى الفنان ، وهذا الحراك سنلتمس منه المحايثة الفاعلة التي تصل الادراك بالحس لاجل استنهاض وكشف الحقيقة .
ترتكز اهداف نظرية التعبير على مرتكزات هي : 1 – ما الادب الا تعبير عن الذات .
2 – ما الادب الا علم المشاعر والاحاسيس .
3 – يعدّ القلب ضوء الحقيقة لا العقل .
يتعادل هنا اثر الادب باثر الابداع . التعادل الذي سيحقق مهمات التمثّل الذي يلعبه من خلال :
1 – تثوير العواطف واثارتها .
2 -تبني سلطة او مرجعية المبدع . بعبارة ثانية تقديم الشخصية على الحبكة . وهذا التقديم فيه مناهضة صريحة لتراتبية ارسطو في المحاكاة .
3 – الاهتمام بالطبيعة .
4 – ان الانسان مجبول بطبعه على الخير .
كان الناقد غائبا عن الوجود سواء تمثّل هذا الوجود بعنوان المحاكاة او تمثّل بعنوان التعبير ، لانه في العنوانين السابقين وان اختلفت مداخلهما ذاتا وموضوعا التزم الناقد اعلاء سلطة المبدع ، سلطة العاطفة ، في لعبة الانتاج على حساب اية سلطة اخرى ، وخاصة سلطة العقل ولكونه آية من آيات العقل ، التزم الصمت ازاء ذكورية مفضوحة تمارسها العاطفة بتحديد متعالياتها واشتراطاتها الكبرى على من سواها .
ما زال العقل النظري يرى محاضن الابداع في العقل العاطفي . وبغض النظر عن اختلاف مدخلات العقل العاطفي ، ذاتا او موضوعا ، جزء او كلّا ، ظاهرا او باطنا ، فان النتيجة مؤداها انكماش دور العقل النقدي بوصفه المنطقة العقلية غير المرحب بها في هذه اللعبة او التي اهملها بقصد او غير قصد رجالات العقل النظري . بيد ان احالة التصورات من حيث البنية الى مركبات عليا تساهم في انتاجها وجمع جزئياتها . احالة من حسن ارادتها ان للعقل فيها ثلثا . ومثلما ارّخ ، تنظيرا الى الخيال ، الناقد ( كولدرج) بانه حاصل تركيب ثلاثي مصدره الحواس والمشاعر والعقل . وانها معا ، باجتماعها وانصهارها تستدعي الصور وتستنطق وتنوجد . وسيبدو الافضاء الى اللامالوف في هذا الاستدعاء مالوفا او العكس بالعكس . افضاءا خارقا لكل معتاد .
الا ان الفوضى الخلاقة انفرطت من حاصل اشتغال الحواس او اشتغال المشاعر ، وبدت صناعتهما ذات مصدر تجيش بها الرغبات والانفعالات غير المتزنة ويحضر ( الهو ) مستخدما كل قدراته في تفعيل المناطق الرخوة من اللاوعي وجعلها معامل لانتاج طاقة الابداع ، وهي بالتالي المختبر الذي سيمايز المبدعين ، وبينما تنفلت حبال الفوضى تتراتب حبال اخريات مصدرها العقل ، لان في الاخير ملكة ثانية تستدعى لتنظيم الحقائق او تنظيم الصور استدعاء يؤشر الى عدم امكان الغاء العقل ، ومنه عدم امكان الغاء العقل النقدي .

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *