العرض المسرحي “حكايات وأساطير”: بناء الذات في عالم مستقبلي

عشر حكايات قصيرة مُمسرحة يستعرض فيها المخرج الفرنسي جويل بومرا مختلف التفاعلات بين الكهول والمراهقين والروبوتات.و”حكايات وأساطير” للمخرج الفرنسي جويل بومرا هي عمل تخييلي استباقي عن بناء الذات في سن المراهقة، وأسطورة المخلوق الاصطناعي، يصوّر فيه عالما مستقبليّا يتعايش فيه البشر والروبوتات، ولاسيما شباب الغد في ظل الثورة الرقمية.

بعد “سوف تتحسن الأمور، نهاية لويس” التي استوحاها من أهزوجة شعبية راجت عند اندلاع الثورة الفرنسية، عاد المخرج الفرنسي جويل بومرا إلى الأشياء الحميمة، كالأسرة وما تواجهه من صعوبات لتربية أطفالها، وخاصة في المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمثلها المراهقة، في عصر غير عصرنا هذا، لأن الروبوتات هنا متطوّرة بشكل لم يبلغه التطوّر العلمي بعد.

لم تكن غاية بومبرا الاشتغال على انحرافات الذكاء الاصطناعي أو تصوير ثورة الآلات كما تداولتها مرارا روايات الخيال العلمي الاستباقي، بل بحث عن مدخل جديد ينظر إلى إمكانية وجود الإنسانية “الطبيعية” وإنسانية أخرى “مبنية أو اصطناعية”، فاختار شكلا متشظيا عبر حكايات صغيرة يتقاطع فيها الأطفال والروبوتات، لأن الروبوت في اعتقاده ليس له من دلالة إلّا تلك التي يمنحه البشر إياها، وفي غيابها يظل مجرّد كدس من المكونات الإلكترونية والميكانيكية، وكان لا بدّ من تصوّره في علاقته بالنظام الاجتماعي الذي يحيط به، لأنه هو وحده من يمنحه وجودا ملموسا.

يندرج العرض في زمن مستقبلي، يحتاج فيه الأولياء إلى الاستعانة بروبوت ينوب عنهم في السهر على راحة أطفالهم، والأخذ بأيديهم، ومساعدتهم حتى في أداء فروضهم المدرسية وتناول وجباتهم اليومية. هذه الثيمة سبق أن تداولها كتاب الخيال العلمي، ولكن بومرا يعالجها من زاوية مغايرة، ليضع هوية الإنسان الآلي موضع مساءلة.هل هو روبوت أم شخص اصطناعي، لشدة شبهه هنا بالذات الإنسانية حتى في بعده الوجداني؟ وما هي التغييرات التي يُحدثها هؤلاء الرفاق بشريّو الهيئة على سلوك البشر؟ وهل يقترب الإنسان أحيانا من الآلة؟ وما هي الحدود بين العلاقات الصادقة والعلاقات الكاذبة، بين الحقيقي والمزيف، بين الطبيعي والمكتسب؟ وكيف تُبنى هويّاتنا ونظرتنا للآخر؟

المخرج الفرنسي جويل بومرا يضع في عرضه المسرحي التخييلي الاستباقي هوية الإنسان الآلي موضع مساءلة

عشر حكايات قصيرة مُمسرحة تستعرض مختلف التفاعلات بين الكهول والمراهقين والروبوتات، ويعمل الشكل واللغة والأداء داخلها على احتضان تلك الجدليات الميتافيزيقية بأسلوب مُمتع، ومعالجتها من شتى أوجهها. حكايات أبطالها روبوتات من آخر دفعة، تتخذ لها مكانا في صالون عائلي. أحدها، واسمه ستيفن، وسيم أشقر شقرة تقارب البلاتين، باسم الثغر لطيف، استأنس به ربّ الدار وزوجته فعهدا له بالسهر على راحة أبنائهما، خصوصا أنهما غالبا ما يغيبان عن البيت.

وسرعان ما نكتشف أن الروبوتات التي تتنقل على الخشبة تختلف عن الوحوش التي تزخر بها أفلام الخيال العلمي، فهي شبيهة بالإنسان في ملامحها وحركاتها حدّ التماثل، لولا أنها صنعت وبرمجت لتكون في خدمة أطفال يعانون الوحدة، فبدت مهذبة مطيعة، تأتمر بأوامرهم، حتى وإن كانت تلك الأوامر مشوبة أحيانا بالسخرية والكلام البذيء.

وفي ذلك إدانة من بومرا، كاتب النص ومخرجه، لما تشهده الأوضاع الاجتماعية اليوم، ليس في فرنسا وحدها، بل في سائر البلدان الغربية، من انحراف شبابي، في غياب الأهل أو تفَصّيهم من المسؤولية لسبب أو لآخر.

ولئن بدا الشبه كبيرا بين البشر والآلات هنا، فإن ما يفصل بين الطرفين السلوك والكلام، فالانفعال والفظاظة والسماجة تتبدى في سلوك المراهقين، فيما تتّسم الروبوتات بالرصانة واحترام القواعد وتجنب النزاع. ومن خلال تلك الفوارق والعلاقات الأسرية المتوترة، تعالج المسرحية معنى الكلام، كأداة امتثالية، ورجع صدى لضيق الإنسان المعاصر، وتعبير عن سورة غضب، وتُقدّم صورة عن عيوب الإنسان، الموزّع بين رغبة بلوغ الكمال والنجاعة وبين النقائص التي تسم سلوكه وخطابه، والتي قد يحتاج لتقويمها إلى روبوت يصنعه ويبرمجه بنفسه، وذلك منتهى المفارقة.

ولكن ذلك لا يمنع من نشوء علاقات بين تلك الروبوتات المهذبة والمراهقين المتنطعين، فالروبوت يقوم مقام الولي في مرافقة الأطفال إلى المدرسة، ويساعدهم على أداء واجباتهم أداء لا يشوبه خطأ، لأنه مبرمج، وذاكرته قوية لا تعرف الأخطاء. وهو مبرمج أيضا كي يكون ذكرا أو أنثى، فالجسد في نظر بومرا هو وسيلة تعبير له ما للكلمات من قدرة ونجاعة.

ومن ثَمّ اختار أن يقدّم روبوتاته ككائنات قريبة جدا من البشر من جهة الوجه والجسد والتخاطب لكي يجعل التواصل عفويا شأن مختلف الكائنات الاجتماعية، واستعاض عن أجساد الروبوتات كما روّجتها الأشرطة المصوّرة بأجساد واقعية إنسانيا. مثلما اختار لتقمّص أدوار مسرحيته ذات اللوحات المتعدّدة أطفالا، من ذكور وإناث، درّبهم طيلة ستة أشهر، لكي يضمن أداء يلبّي ما يروم تحقيقه. واكتفى من الديكور بأضواء بيضاء وسوداء تتمازج وتتوارى عند المرور من حكاية إلى أخرى، ما أضفى نوعا من السكون يهيّئ الجمهور لحلقة لاحقة، وإن غاب عن الحلقات كلها خيط رابط ينمّي أحداثها.

ولئن كان المنطلق حسب بومرا هو الطفولة ومستقبلها في الأعوام القادمة، فإن عمله يصوّر أيضا التباس أنماط الحياة والحقيقة بين كائن طبيعي وكائن اصطناعي، ولو أن الإنسان هو الذي أوجده وصنعه على هذه الصيغة 

أبو بكر العيادي

(العرب – مجلة الفنون المسرحية)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش