الدكتاتور في المسرح

_382

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، تحضر شخصية الدكتاتور في المسرح، كما في الرواية والسينما، بمقاربات مختلفة (تهكمية، عبثية، كاريكاتورية، فانتازية، فولكلورية، وجادة). وغالبا ما يُشار إلى أن الكاتب والمخرج الفرنسي ألفريد جاري هو أول من تناول هذه الشخصية في مسرحيته “أوبو ملكا”، التي عرضها على مسرح “التياتر دو لوفر” بباريس عام 1896.

في هذه المسرحية، التي هي امتصاص ومحاكاة عبثية ساخرة ومجنونة لمسرحية شكسبير الشهيرة “ماكبث”، تدفع زوجة “أوبو” زوجها إلى الاستيلاء على العرش وقتل الملك “ونسلاس″ الذي عيّنه قائدا للجيش. ينفّذ “أوبو” خطة الزوجة ويقتل الأسرة المالكة، باستثناء الوريث الشرعي “بوجرلاس″ ووالدته اللذين ينجوان من المذبحة، ويحاول هذا الوريث الانتقام من “أوبو” الذي يستولي على العرش. وقد صارت شخصية “أوبو” رمزاً للطغاة، الجشعين الجبناء، من الذين ستملأ مجازرهم قرننا العشرين بعد ذلك.

تلت تلك المسرحية الرائدة مسرحية “الدكتاتور” للكاتب الفرنسي جول رومان، التي كتبها ونشرها ومُثّلت في العام 1926. تقوم هذه المسرحية على موضوع انقلاب ينفّذه أحد الأحزاب، في ظلّ نظام ملكي دستوري، ويستولي على الحكم دون المساس بالملك، فيضطرّ الملك إلى تعيين زعيم الانقلاب “دينيس″ رئيسا لحكومة جديدة، وسرعان ما يمنح “دينيس″ نفسه صلاحيات واسعة، ويغدو من خلالها دكتاتوراً يضرب المبادئ والمثل العليا، التي كان يحملها، عرض الحائط، ويبطش بكلّ من يعارضه أو يدعو إلى تطبيق العدالة الاجتماعية والدستور.

وقد جرى تمصير هذه المسرحية، وقدمتها فرقة المسرح الحديث بنفس العنوان في العام 2012، لتدور أحداثها حول كيفية صناعة الدكتاتور من خلال صديقين يناضلان في الثورة المصرية من ميدان التحرير، ويقوم الرئيس باستدعاء أحدهما لإقناعه برئاسة الوزارة، فيقبل ويتحوّل إلى دكتاتور، ويقتل صديقه المناضل الذي يظل ثابتا على موقفه.

يبدو أن الثورات التي شهدها العالم العربي خلال ما يسمى بـ”الربيع العربي” قد فتحت شهية العديد من المسرحيين العرب على تناول هذا الموضوع، فعاد بعضهم إلى مسرحية “الدكتاتور” للكاتب اللبناني عصام محفوظ، التي كتبها في العام 1968، وتدور أحداثها حول زعيم مريض ومضطرب يتوهّم نفسه المنقذ الذي تنتظره البشرية، وأن ثورته هي التي ستغيّر العالم. ويظهر، في صراعه مع خادمه، بهيئته المعتادة طاغية، ممتلئا بالعبارات السلطوية، متضخم الذات، متجاوزا الحدود البشرية، يعيش حالة انفصام عجيبة، فعندما يسقط قناع الدكتاتور عنه يكتشف أنه لم يكن سوى خادم، أما الخادم فسرعان ما يوقظ الدكتاتور الراقد في نفسه ليصبح دكتاتورا آخر ولو لوقت قصير.

وكانت أبرز تجربة إخراجية لهذه المسرحية هي تجربة المخرجة اللبنانية لينا أبيض، التي قدمتها في العام 2012، ومثلتها ممثلتان (جوليا قصار وعايدة صبرا)، وفازت بجائزة أفضل عرض مسرحي في مهرجان المسرح العربي الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح. ثم أخرج المسرحية أيضا المخرج الأردني محمد خير الرفاعي وعرضها في مهرجان المسرح الأردني التاسع في العام 2012.

في هذا السياق كانت مسرحية “ما لم يقله الدكتاتور” التونسية عام 2015 من أحدث المسرحيات، وهي مونودراما، من تأليف وإخراج مريم بوسالمي، وأداء الأسعد الجموسي، يبوح فيها دكتاتور سابق، يعيش في المنفى، ما لم يبح به من قبل وهو ممسك بالسلطة، فحين يسقط يصبح موضوعا للأحاديث بين العامة، ويتخلّص هو بدوره من صورته التي أراد أن يرسّخها سابقا لدى شعبه، ويتحوّل إلى كائن “عادي”.

هذه المسرحية لن تكون، بالطبع، آخر المسرحيات التي تقدم مقاربة درامية لشخصية الدكتاتور في العالم العربي، بل ستظهر عشرات غيرها في العقود القادمة، ذلك لأن مثل هذه الشخصية لا يمثلها، بالتأكيد، الطغاة المتربعون على كراسي الحكم فقط، والذين يمكن أن تزيحهم الثورات والانقلابات والأحداث الطارئة، بل نماذج سرطانية كثيرة تتوالد في ظروف غير طبيعية، وتهيمن على حياة المجتمعات العربية العامة (السياسية والحزبية والاجتماعية والدينية)، وتجعلها جحيما لا يُطاق.

كاتب من العراق

عواد علي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *