التناضح التشكيلي بين اللوحة والكوريغرافيا

 

 

ضحى عبد الرؤوف المل  – المدى 

 

تنوعت المفاهيم الكوريغرافية وتقاربت الرؤى الفنية مع بعضها البعض، فاختلفت التوظيفات التشكيلية في هذا المجال. إلا أن أهم ما جمع اللوحة مع الكوريغرافيا، هي العناصر المؤلفة لخصوصية التصميم النابع من ثقافات تشترك مع الفن والجمال والقدرة على التأليف المرن في التشكيل والرقص بمختلف تمظهراتهما، وفق تفاعلات بصرية مدروسة بدقة تتمثل بالمعنى المتجذر في الطقوس المرتبطة بالحركة والألوان، والفضاءات المفتوحة على تخيلات يتم تدوينها ودراستها وفق رسوم لخطى مدروسة موزعة على عدّة نقاط حركية تتشكل منها نوعاً من وسيلة تعبيرية موشومة بتشكيلات كوريغرافية قوية حسيّاً، وبما يكفي بصرياً لتكوين رؤية فنية متوازنة. لتكون ضمن نوتات تحمل طابعاً تعبيرياً تصويرياً وانطباعياً صارخاً، يتصف بدراما بصرية ذات علامات ادائية تتجانس معها الريشة والألوان التي تظهر خفايا وابعاد كوريغرافية تولد من وحي الامتزاج الحسّي عند الفنان، ويستطيع من حيث يتراءى له خلق فضاءات واسعة. لتوضيح الهدف بالإيماء والايحاء والحركة المبنية على التأثيرات البصرية، وما يتشكل من لوحات مستقلة يمكن لكل منها أن تكون موضوعاً للوحة يرسمها فنان بريشة كوريغرافية، تضم في طياتها المفاهيم العامّة للشكل الفني، ومميزاته التصميمية لخلق تنوعات في الاداء الحركي إن كان بالجسد المؤدي أو باللون وأطواله الموجية الذي يتخذ صفة درامية مقترنة بالفضاء التخيّلي. إن على خشبة مسرح أو على خامة اللوحة، كما في اوبرا “قصة الحي الغربي” التي تروي قصة “روميو وجوليت” على وقع ايقاعات لاتينية وموسيقى “ليونارد برينشتاين”، المخاطبة للحس والعقل، فالترجمة البصرية من خلال الكوريغرافيا وتنوعاتها المؤثرة على خلق التجانس الذي تتأثر بها الريشة والألوان المتلاحمة مع بعضها على مساحة محدودة، فينحصر المشهد وفق قياسات لها أطرها البصرية والجمالية النابعة ببساطة من مزاجية التصميم الكوريغرافي في التشكيل والمسرح وروحية الانتقال من حال الى حال كما في لوحات الفنان “جبر علوان”، ببعدها التشكيلي والكوريغرافي من حيث حركة الجسد في فضاء اللوحة، وما ينتج عنها من تجانس لوني أو ارتباط كلّي بالنقاط وتوزيعها على مساحة اللوحة. لتنطلق ألوانه وفق ايقاعات تجسد اهمية التصميم الكوريغرافي في الفن التشكيلي. اضافة الى التغيرات الهندسية والبصرية بحرفيتها المعقدة التي تشكل عدّة تحديات فاعلة في الكوريغرافيا المبتكرة للوحة . 

تتخطى الاشكال الكوريغرافية كل ما هو متوقع تشكيلياً، حتّى في الاسلوب التكعيبي كما في لوحة “بابلو بيكاسو” التي تمثل اعادة تركيب الانسان وفق رؤيته خاصة لوحات الرقص، لكن تبقى التسميات التشكيلية غير مفيدة في كشف الغموض الحقيقي الناتج عن تساؤلات لا يمكن استكشافها ما لم تتكاتف الخطوط المنحنية، الدائري اللولبي، والمائل ..إلخ. لأنها تشي بالوعي التقني المتدفق من الايقاع اللوني الداخلي، المتأثر به الفنان أو المصمم المنبهر بالمساحة، والتقسيمات المدروسة بين الفراغات المؤدية الى خلق الحرية للتعبير عن الحركة، بما يتناسب مع الرقصة الموسيقية أو اللونية، وبمهارات حسابية دقيقة، لكل مفردة ضوئية أو لونية أو نقطة ينتج عنها انعكاسات بصرية تؤدي دورها الفعّال على قماشة اللوحة أو على المسرح أو حتى عبر العدسة الفوتوغرافية” كما في مسرحية “دون كيخوت” ولوحات الفنان العراقي “جبر علوان” ليحاكي الظل الحركة، ويبقى الضوء لعبة الابيض المخفي لجمع الطاقة البصرية وفق حركة الضوء، وبرشاقة للإبقاء على دهشة العين وقوة التشكل الكوريغرافي في التصميم التشكيلي وقدرته على خلق جماليات ايحائية وغير مباشرة، تؤسس لتأثيرات ترتكز على ابعاد المساحة وتطويرها. لتستقطب الحواس وتفتح فضاءات التخيل على مصاريعها، فتتكيف اللوحة تبعاً للتاويلات والاستنتاجات التي تحملها ريشة الفنان وفق الكوريغرافيا ومنهج الصياغة، لرسم الرقصات النابعة من المنطق الكوريغرافي الذي بات يشكل الحقائق الجمالية وقوانينها التي تعزز قيمة التناضح التشكيلي بين اللوحة والكوريغرافيا وسحر الرقص المشبع بفهم الحركة، وبتفاعل شديد تتناضح من خلاله الحركة والألوان والضوء والظل والخط والشكل. لتتشكل بنية اللوحة من الكوريغرافيا وتضافرها البصري في خلق مضامين تشكيلية تتفرع عنها المفاهيم الفنية الأخرى. 

تتخطى الكوريغرافيا أبعاد المادة اللونية في اللوحة التشكيلية وتعبر مجال الفن وجوانبه المتعددة كالوحدات الحركية الصغيرة ، ومنها الى أنماط التكوين التي تنطوي على اهمية المكان والزمان، والنقاط المتصلة والمنفصلة. اذ تستند الريشة الى الاحساس الكلّي بمجموع الشخوص، والتفكر بالمسافات الفاصلة عبر الحركة ونشأة تعدد الأشكال على الخامة. لإبراز الاصول الشكلية في تشكيل تتناغم معه الحركة البصرية، وبتخيلات لإيقاعات الالوان وتعدد اصواتها في تزامن تنصهر معه الرؤية التي تنقلنا الى مساحة اللوحة . هذا الفن الكوريغرافي في التشكيل هو المنهج المكاني والزماني الذي تتكرر فيه المفردة الايقاعية للحركة في الشكل البصري والمكمل للمنهج الفني بكوريغرافيته وتشكيله، وتطوره ويدعونا إلى التفكر في فضاء الحركة والنمط التكويني الراقص في اللوحة.

—————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *