التجريب في المسرح الإسباني في مطلع القرن العشرين: بايي إنكلان وغارسيا لوركا ورافائيل ألبيرتي

ثلاثة أعمال قد اخترتها كمثال معبّر عن التحريب في مسرح الأطفال الاسباني. وتعود الأعمال الثلاثة الى مطلع القرن العشرين، إلا أن كل منهم يرجع الى حقبة مختلفة تاريخياً وأدبياً: فالأولى هي مسرحية “رأس التنين” الهزلية للأطفال لكاتبها بايي إنكلان والذي يعد لدى كثير من النقاد، الكاتب المسرحي الاسباني الأكثر نبوغاً في القرن العشرين، وكذلك أحد الأعضاء الأكثر جدلاً في ما يطلق عليه “جيل 1898”. أما العملان الابداعيان الآخران، فينتميان الى اثنين من أبرز شعراء وكتاب المسرح في الجيل التالي لذلك الجيل مباشرة، ألا وهو “جيل 1927″، والعملان هما “الطفلة التي تروي الحبق والأمير المسؤول” لغارسيا لوركا و”العصفورة المزركشة” لرافائيل ألبيرتي.
 
وسنتناول بإيجاز الاتجاه التجريبي في هذه الأعمال الدرامية التي أبدعتها لنا هذه الرموز التي كان لها تأثيرها الكبير على الأدب الاسباني نظراً لقدرتها التجديدية في اللغة الأدبية وفي نقد الأفكار السابقة. وسنتعرض لهذا الاتجاه على صعيد النص الدرامي، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا ليس سوى مستوى واحد من بين العديد من الأوجه التي يمتلئ بها عالم لغة المسرح الثري.
 
كما ساهمت هذه الأعمال ـ على الرغم من كونها مهملة نسبياً وسط الانتاج الابداعي لهؤلاء الكتّاب ـ في التطوّر الأولي لمسرح الأطفال ذي القيمة الأدبية العالية.
 
الأدب المسرحي في مجال أدب الأطفال الاسباني:
 
يكتسب أدب الأطفال المسرحي أهمية خاصة وسط مجال أدب الأطفال الواسع. وتعود أصول هذا الاتجاه الأدبي الى أواخر القرن التاسع عشر، كما أنه يحظى حالياً باهتمام ملحوظ في كل أنحاء العالم كمجال ثري للابداع. ويرتبط أساس تطوره وتقدمه بالاحتياجات الجديدة للنظام الرأسمالي الباحث عن ثقافة فنية تجديدية متمثلة في توجيه الاهتمام الى الطفولة في النطاق الاجتماعي التربوي في المجتمعات البرجوازية، إضافة الى العديد من الأسباب الأخرى المتعلقة بمصالح السوق والمستهلك في الدول المتقدمة.
 
ويعتبر الأدب الروائي من قصص أو ألبومات هو النوع الأدبي الأكثر شيوعاً بين قوائم المؤلفين وبين الكميات الهائلة من كتب الأطفال التي يتم نشرها سنوياً والتي يبلغ عددها 6000 كتاب تقريباً وفقاً للاحصائيات الأخيرة. بينما يعد المسرح النوع الأدبي الأقل تناولاً إضافة الى الشعر الذي يمكننا أن نطلق عليه اسم “شقيقه المظلوم”.
 
وعلى الرغم من كل شيء، فلقد أوضحت دراسة حديثة أن هناك كثيراً من الأعمال ذات كيان خاص مخصصة للأطفال متوفرة في سوق النشر ويبلغ عددها 489 قطعة درامية لـ209 كتاب، على الرغم من أنها تعاني من سوء توزيع. هذه الدراسة أجريت حول طبيعة أدب الأطفال الدرامي الاسباني باللغة القشتالية منذ بداياته وحتى الآن، بغض النظر عن الانتاج الأدبي الخاص بلغات رسمية أخرى يتم التحدث بها في شبه الجزيرة الاسبانية… (بوتينيا، مونيوث، يورينتي 2002).
 
ظهرت وسط هذه البانوراما الابداعية على مدار القرن العشرين كثير من الأعمال ما بين القيمة ومنعدمة القيمة الأدبية، وفي نفس الوقت خرج الى النور كثير من محاولات التجديد والتي دفعت إليها أهداف تقليدية (تيخيرينا 2000، 1998، 1993). ومما لا شك فيه أن الأعمال الدرامية الثلاثة التي نعرضها في هذه المناسبة كتطبيق لدراستنا تنتمي الى ذلك الجانب المضيء الباحث عن التجديد من أجل تحقيق المتعة للطفل كقارئ ومشاهد.
 
بايي إنكلان: مسرحية “رأس التنين”
 
الهزلية للأطفال (1910)
 
تم عرض مسرحية “رأس التنين” الهزلية للأطفال لكاتبها بايي إنكلان للمرة الأولى في مدريد في الخامس من مارس لعام 1910 في مسرح الأطفال الذي كان قد أسس قبل هذا الحدث ببضع شهور على يد أديبنا خاثينتو بينابيتي الحائز على جائزة نوبل للآداب.
 
وجدير بالذكر أن مسرح الأطفال الاسباني قد ظهرت أصوله متأخراً كما هي الحال في بقية دول العالم الغربي، فمنذ العصر الوسيط وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن الأطفال يشكلون جمهوراً في حد ذاتهم، بل كانوا يحضرون عروض الكبار الخاصة بالاتجاه الديني والتعليمي للمسرح.
 
وكان لـ”مسرح الأطفال” الذي افتتح في مدريد في كانون الأول عام 1909 الفضل في ظهور الخطوات الأولى لوعي أدبي وأخلاقي جديد في مستهل القرن العشرين، حيث كانت هذه المرة الأولى التي يخصص فيها مسرح للمشاهدين من الأطفال. ولكن برغم انطلاق هذا المشروع بقوة، إلا أنه لم يلقَ الدعم التأسيسي أو الاستحسان المرجو من قبل الجمهور. حال هذا دون نمو المشروع الذي كان لا يمكن دعمه مادياً على الرغم من مثابرة بينابيتي ومهارة الفرقة التي كان يقودها الفنان فيرناندو بوريدون.
 
كان “رأس التنين” هو العمل الذي ساهم به بايي إنكلان في تلك المبادرة الجديدة المتمثلة في تخصيص مسرح للأطفال بدعم رسمي، والذي عرضت فيه أعمال لكتّاب آخرين في ذلك العصر إضافة الى ثلاثة أعمال للأطفال ألفها بينابيتي نفسه وكذلك مسرحية بايي إنكلان الهزلية. من هذه الأعمال نذكر “عصافير الشارع” للوبي مارتين والمستوحاة من إحدى قصص الأخوان جريم، و”الأخير على الفصل” لفيليبي ساسوني، وهي معالجة لجزء من رواية “قلب” إدموندو دي أميثيس، و”الدمية غير القابلة للكسر” وهي قطعة درامية للأطفال ألفها إدواردو ماركينا.
 
كان كل من افتتاح وعرض هذا العمل من قبل فرقة بوريدون على “مسرح الملهاة” الذي يحل في تلك المناسبة محل مسرح “الأمير ألفونسو” الذي اتخذه بينابيتي مقراً لمبادرته يعد بمثابة الأخيرة لمسرح الأطفال بعد أربعة أشهر فقط من افتتاح هذا المشروع المرجو. واليوم، وبعد قرابة قرن من هذا الابداع، يظل هذا العمل محتفظاً بقوته وتحقيقه للمتعة سواء من خلال القراءة أو العرض المسرحي.
 
وللأسف، لم يبدع لنا بايي إنكلان في مجال أدب الأطفال سوى هذا العمل البعيد تمام البعد عن مسرح الأطفال التقليدي الساذج والسطحي. فلقد نجح إنكلان في تقديم رواياته السابقة لعصرها مدرجاً فيها الخصائص المميزة للقصص الشعبي من خلال لغة متطورة، مع معالجتها من خلال جماليات تقنيته التجديدية التي أطلق عليها اسم (El Esperpento) أو (نوع الأمور غير المعقولة) والتي كان يهدف منها الى تقبيح واقع يراه مشوّهاً في حد ذاته.
 
ترتكز هذه الجمالية الحديثة على التشويه الساخر بغرض نقد المجتمع الاسباني في عصره نقداً لاذعاً، ذلك المجتمع الذي كان يعاني من أزمة شديدة بسبب ضياع المستوطنات الأخيرة المتبقية من امبراطوريته القديمة في ما يطلق عليه “كارثة 1898” وهو التاريخ الذي اقتبس منه رواد جيل 98 اسمهم.
 
ويرى خوان ثيربيرا في دراسته حول تاريخ النقد الوثائقي لمسرح الأطفال الاسباني أن هذا العمل لا يعد بأكمله مخصصاً للأطفال (ثيربيرا، 1982، 366). نعم، تتمتع مسرحية “رأس التنين” الهزلية بمستويين للقراءة، فهي تقدم للجمهور من الصغار والكبار الذين يصطحبونهم الى عروض مسرح الأطفال. وكان إنكلان بهذا العمل سابقاً لعصره، أما الآن، فكثير هم الأدباء الذين يتناولون موضوعات مسرح الأطفال، والتي تتجاوز ذلك الى إثارة اهتمام الأسرة بأكملها. ففي البداية، ينجذب الأطفال الى مغامرات الأمير بيرديمار في إنقاذ الطفولة من شرور التنين وفي الصراع من أجل حبه، حتى الوصول الى النهاية السعيدة.
 
سوف يستمتع المتفرّج بالشخصيات والمظاهر الساخرة والتهريجية وكذلك سيستوعب بعض الدعابات النقدية والكاريكاتيرية. أما بالنسبة للكبار ـ فعلى الرغم من أنهم سيحتاجون الي الاستعانة بالقاموس مرات عدة نظراً لعمق اللغة الأدبية واحتوائها على العديد من الكلمات المهجورة ـ إلا أنهم سيقدرون سمو القيمة التعبيرية في لغة بايي إنكلان العظيمة وبراعته في تشويه الطبائع الانسانية والمقولبة إضافة الى النقد الاجتماعي والسياسي مديناً بذلك مشكلات عصره ومقتحماً مجالات محظورة كالملكية والنبالة والجيش. ويستخدم بايي في هذا العمل المخصص للأطفال نفس الأساليب المتنوعة التي اتبعها في مسرحيته العالمية “أضواء بوهيميا” التي يظهر فيها بوفرة وجلاء (El Esperpento) أو (نوع الأمور غير المعقولة)، ذلك النوع الأدبي الذي ابتكره. هذه الأساليب هي: الدعابة الساخرة والسخرية الكاريكاتيرية والسخرية اللاذعة والتناقضات القوية وتشويه الواقع من خلال إضفاء خصائص الحيوان والجماد على الانسان (ألباريث نوبوا 1987، تيخيرينا، 2001).
 
ونستطيع من المثال الآتي، الذي يدين فيه المضايقات التي كان يتعرّض لها المهاجرون الاسبان في أميركا في مطلع القرن، ملاحظة قدرته البارعة على استخدام السخرية ونقد المجتمع.
 
“الكفيف: لم يوافقوا على ركوب كلبي. كانوا يريدونه أن يدفع تذكرة شخص.
 
المهرّج: بل الأشخاص هم الذين يجب أن يدفعوا ثمن تذاكر الكلاب، فهم يعاملون معاملتها على سفن المهاجرين هذه”. (المشهد الأخير).
 
إنه لحوار قوي يمكن تطبيقه على العصر الحالي، إلا أن الضحايا في هذه الحالة هم هؤلاء المشردون الذين يعانون الجوع وضياع المستقبل في دول العالم الثالث وينظرون الى اسبانيا على أنها حدود الجنة غير المرئية. آلاف من الأشخاص يجتازون البحر ليلاً في قوارب صغيرة من موانئ افريقيا الى جزر الكاناريا… هذه هي الدراما اليومية للهجرة غير المشروعة.
 
ونلاحظ في “رأس التنين” تطور نظرية (El Esperpento) أو (نوع الأمور غير المعقولة) التي صاغها من خلال عملية طويلة، وهذا ما يفسره توفر العديد من خصائصه المميزة في هذا العمل. ولنذكر بعض الأمثلة لخصائص هذه النظرية الجديدة:
 
ـ التشويه النظامي المستمر للواقع
 
يلجأ إنكلان الى استخدام مرايا مقعرة ومحدبة تشوّه الصور باعتبارها الأداة المناسبة لعرض الواقع الاسباني بشكل كاريكاتيري يراه الكاتب الأكثر ملائمة من وجهة نظره النقدية، فيعرض كل ما هو ساخر وسخيف.
 
ومثال على هذا:
 
“نظر الملكان غاضبين الى بعضهما البعض. ثم وضع الملك مانجوثيان يده على السيف وثبت التاج على رأسه، وكذلك فعل الملك ميكوميكون، فصاح رجال الحاشية ثم أصابتهم حالة من الوجوم: الكؤوس في أيديهم وأفواههم مفتوحة”. (الهامش الخامس المشهد الأخير).
 
التناقضات والاختصارات بشكل غير معقول:
 
يحتاج هذا التشويه الى عرض مواقف متناقضة أو متباينة قد تصل الى الهذيان.
 
ومثال على هذا:
 
الجيب الجميل المنسوج بخيط من الذهب المصنوع من صدرة ملساء عرق به سيدي الملك في ثلاثين معركة (الهامش التاسع، المشهد الأول).
 
طبيعة ما هو فوق العادة:
 
قد تدهشنا الحياة في كثير من الأحيان لأننا نعتبرها غير معقولة. أما إنكلان، فهو يسير على نهج تقديم الأشياء غير المعقولة وكأنها طبيعية.
 
ومثال على هذا:
 
تسلم الطفولة للتنين لما جرت عليه العادة منذ 2000 عام.
 
السخرية اللاذعة:
 
ليس استخدام السخرية الماكرة واللاذعة شديداً في هذا العمل كما الحال في أعمال أخرى له، إلا أننا سنقدم بعض الأمثلة لهذا:
 
المهرج: إن أكثر الأشياء صعوبة في إسبانيا هو أن تجد شخصاً مرحاً. ولكن فقط في المجلس، يمارسون بعض الألعاب البهلوانية.
 
الاتفاق التشخيصي:
 
يعد بايي إنكلان في تشويهه للواقع خالقاً لكون مادي يساوي فيه بين جميع شخوصه، محقّراً البشر ومقارنتهم بعالم الحيوان والجماد. ويستخدم إينكلان في نظرية (El Esperpento) أو (نوع الأمور غير المعقولة) أنواع التشخيص المتعددة التي تكسب الحيوانات صفات البشر إضافة الى إضفاء صفة الحركة على الأشياء الجامدة. كما يبدع إنكلان في وصف البشر بصفات الحيوانات وكذلك بصفات الأشياء الجامدة.
 
ويكثر إنكلان في هذا العمل من استخدام التشخيص ولكن مع الاحتفاظ بالأنواع الجمالية الأخرى أيضاً.
 
ومثال على هذا:
 
في التشخيص: تصرّف اللقالق يعلن عن معجبي ريكاردو واجنير (الهامش الثاني المشهد الأول).
 
في الحركة: الأمير بومبون: يبدو أنها قد جنّت (الكرة، المشهد الأول).
 
في الحيونة: المهرّج: وماذا عن المقعدين الذين يجرون كالسلاحف؟
 
التعامل مع الانسان كدمية:
 
ويكتمل التشويه السابق من خلال التعامل مع الانسان كدمية:
 
ومثال على هذا:
 
بعيونه المصنوعة من البورسلان وفوه الصبيانية وما تتمتع به من نسيم خلاب وجوف المانيكان. (الهامش الثاني، المشهد الرابع).
 
حرية التواصل والاتجاه النقدي:
 
يتشبع العمل بهدين المظهرين: حرية التعبير وتخطي كل الحدود في الحوار، الى جانب الابتكار؛ كل هذه الأشياء ثابتة في الحوار والهوامش. أما بالنسبة للاتجاه النقدي، فإن أهدافه من هذه السخرية كثيرة ويصيب بها مظاهر مختلفة للمجتمع في تلك الحقبة. فهو يستخدم النقد السياسي والاجتماعي… استهزاء مستمر بالملكية والمحكمة والبرلمان والحكومة والساسة… إلخ فضلاً عن إيماءات عن الفقر الذي يعاني منه الشعب والهجرة والعسكرية والبروتوكول والزواج… إلخ.
 
وعلى سبيل المثال:
 
الكفيف: إن الملوك لا يدفعون أبداً لمن يقومون بخدمتهم، ويكلفون حاشيتهم بهذه المهمة، والحاشية تكلف الخدم بها، وعندما تذهب الى الخدم كي تتسلم راتبك، يخرجون إليك رافعي أيديهم بالعصي.
 
فيديريكو غارسيا لوركا: “الطفلة التي تروي 
 
الحبق والأمير المسؤول” (1923)
 
حظي عالم مسرح العرائس باهتمام فائق لدى الطلائع الجمالية في النصف الأول من القرن العشرين. ولقد جذب هذا النوع الأدبي الرواد الإسبان في العشرينات والثلاثينات… تلك الحقبة التي كانت تتسم بالحركة والنشاط. كان الرواد يبحثون في هذا النوع الأدبي عن عالم فني شعبي صغير غير ملوث بالرجعية والرتابة التي سيطرت على المسرح البرجوازي. بايي إنكلان ومانويل دي فاييا وفيديريكو غارسيا لوركا ورافائيل ألبيرتي وسالبادور بارتولوسي وريباس شريف وخاثينتو جراو… كل هؤلاء الرواد سعوا الى التجديد من خلال مسرح العرائس. كما خاض الأديب فرانشيسكو بوراس الاسباني ـ محرّك الدمي بمسرح العرائس والذي تصدى بمسرحه الصغير بحديقة الريتيرو في مدريد للعوامل الخارجية حتى آخر قطرة في دمه ـ هذا المجال الابداعي حالياً وثائق صحفية وفوتوغرافية ذات قيمة عالية لهذا العصر.
 
والأمر ليس مقتصراً على الأدب الاسباني، فلقد استعان كثير من العارضين الذين يسعون الى التجديد الفني الأوروبي في القرن الماضي بتلك الدمى في عرض فنونهم المسرحية التجديدية. ومن هؤلاء نذكر: ألفريد جاري وجاستون باتي وبيكيت لونيسكو.
 
ويعتبر فيديريكو غارسيا لوركا أكثر رواد جيل 27 قرباً لقلوب الجماهير التي بكت كثيراً حادثة مقتله البشعة على يد الفاشيين في حربنا الأهلية “اللاأهلية”. قدم لوركا للأطفال في يوم الملوك عام 1923 حفلاً لمسرح العرائس أقامه بعناية واحترام فائقين لجمهوره من الأطفال. فلقد استعان في اختيار الدمى والديكور برسام المناظر الشهير إرمينيخيلدو لانث. كما شكل الأوركسترا ـ التي قادها الموسيقار العالمي مانويل دي فاييا ـ من آلات الصنج والكمان والكلارينيت والعود. أما الابداع والاخراج، فقد كانا وظيفة فيديريكو نفسه. جدير بالذكر أيضاً أن لوركا قام بوضع الديكورات، إضافة الى تحريكه لشخصية الأمير في المسرحية، بينما كانت أخته كونتشا تلعب دور الطفلة البطلة إربني (إرنانديث، 1992، 33 ـ 52). كما اتخذ لوركا من بيت عائلته في غرناطة خشبة مسرح لعرض جميل ومؤثر جمع فيه بين ثلاثة أعمال قصيرة هي: مهزلة “الثرثاران” لثيربانتيس وأحد ترجمات “لغز الملوك السحرة” من القرن الثاني عشر، وأخيراً العرض لمسرحيته “الطفلة التي تروي الحبق والأمير المسؤول”.
 
تتمثل المسرحية في قصة أندلسية قديمة مصوغة على شكل حوار ومعالجة لتقدم في مسرح العرائس. فيعبر لنا شاعرنا وكاتبنا المتألق مرة أخرى من خلال نبرته الشعبية ونداءاته للفلكلور الشعبي الطفولي عن الجاذبية الخاصة التي يشعر بها تجاه مسرح العرائس والأطفال، رفقاء للعب والسحر والفكر اللاعقلاني. ويرتبط الفن الشعبي الأندلسي لدى لوركا دائماً بإطار من السحر يضفي مفهوماً آخر على الواقع ـ كما هو الحال في هذا المثال الشهير: مع الفيتو فيتو فيتو، مع الفيتو فيتو يتحرّك ـ وكما يبحث لوركا دائماً عن “جني” الأطفال الذي يبتكر الأسئلة التي تبدو سخيفة، كما نرى في الحوار الآتي:
 
الأمير: قولي لي أيتها الفتاة التي تروي الحبق، كم عدد أوراق الشجيرة؟
 
فأجابتها الطفلة الطنانة بسؤال آخر ليست له إجابة؟
 
الطفلة: كم هو عدد نجوم السماء وعدد رمال البحر؟
 
يشكل هذا العمل، الذي ظل مهجوراً لعقود عدة ولم يُكتشف ويُدرس إلا على يد الأستاذ جوانثاليث ديل بايي عام 1982، جزءاً من مجموعة لوركا المخصصة لمسرح العرائس، فضلاً عن عملين آخرين غير مخصصين للأطفال ألا وهما: “عرائس الهراوة” و”خشبة مسرح عرائس دون كريستوبال”.
 
رافائيل ألبيرتي: “العصفورة المزركشة” (1925)
 
تتسم مسرحية “العصفورة المزركشة” بالأصالة. وهي عمل غير معروف كتبها رافائيل ألبيرتي (1902 ـ 1999) لمسرح عرائس فيتوريو بروديكا الشهير ومسرح بيكولي التابع له. تتكون المسرحية من مقدمة وثلاثة فصول لم يكملها ألبيرتي إلا بعد عودته الى اسبانيا من منفاه الذي ظل فيه سنوات عدة. ولقد عرَّف ألبيرتي مسرحيته بأنها “مسرحية غنائية فكاهية يمكن الرقص على نغماتها”. ويتكوّن الحوار فيها من أغانٍ وأنغام يرددها الأطفال في ألعابهم التقليدية. كما أن عنوان المسرحية ذاته مستوحى من أغنية شعبية اسبانية تقول: كانت العصفورة المزركشة جالسة على غصن الليمون الأخضر… هذا إضافة الى الأصول شعبية التي تنتمي إليها العديد من الشخصيات، حيث استوحاها من أعمال في عالم التواشيح الشعبية مثل: “العصفورة المزركشة” و”رقصة أنتون بيروليرو” وكذلك من أعمال أحد ضروب الشعر الشعبي الاسباني el romance مثل “الأرملة” و”كونت كابرا”. أما من كتب الأمثال، فقد تأثر بـ”الخالة بيايا” و”السيد دييجو كونتربراس”… إلخ. ويضاف الى هذه الأعمال شخصية العرن الجذابة التي ابتكرها الشاعر وجعلها تقوم بدور مقدم العمل. ويصفه ألبيرتي في المسرحية، فيقول: “عرف الديك الكبير وبدلة من الأجراس الصغيرة”.
 
ويبدو التجريب جلياً في هذا العمل المميز الذي خصصه ألبيرتي للأطفال في إعادة تحديد الأهداف الشعبية المرجوة واستغلال مختلف العناصر المرئية التي تظهر من الملابس والأدوات المستخدمة، وبصفة خاصة جداً القدرة على التعبير واستغلال القيم الصوتية والموسيقية في اللغة.
 
ومما لا شك فيه أن ألبيرتي في هذا العمل الهزلي… في هذا الهتاف الغامض الذي لا يجب فيه البحث عن أي مدلول، قد اخترع لغة ذات قيمة عالية خاصة في الايقاع ومحاكاة الأصوات والتي يستمتع بها الأطفال بشدة، وذلك كما يقول لوبيث تاميس (1985، 154) لأن الطفل الخالي من متطلبات البناء العقلاني الذي يفرض على الانسان البالغ يقترب من اللغة بحواسه المنتبهة وقدرته على التعجب التي لم يستخدمها بعد، فيسمع الطفل الكلمة وينجذب الى الايقاع وتلاعب النغمات قبل أن يفهمها. فيستمتع بكثرة الأسماء وتكرار الحماقات والتركيبات غير المألوفة للمقاطع واستخدام الألفاظ منعدمة المعنى. إنه الاستخدام البسيط والشيّق للغة… فليست هناك ضرورة لملاءمة الأحداث أو الكلمات لأن الطفل لا يزال غير مدرك لهذا. هذه هي حرية وسذاجة الأطفال التي يسعى كثير من الشعراء والفنانين الى استعادتها.
 
ولكن أكثر ما يثير الدهشة هو عودة الاستمتاع بالهذيان في الكلام وكثرة التحدث. وهكذا يعود ألبيرتي طفلاً مرة أخرى، فيستمتع بلعبة الأصوات الى درجة تفوق استمتاع الأطفال ذاتهم بها. (تيخيرينا، 1993، 123 ـ 127).
 
ويشرح العرن للجمهور غايته بأسلوب فصيح في مقدمة العمل فيقول: “بيو2 ـ بيو/ بيو ـ بيك، بيردو3 ـ لاري ـ لاري ـ ريو4/ ريو ـ ريك” ويستمر قائلاً “لادون5/ لانديرا/ ديرالون/ دينيرا/ نيديرلين/ نيديرليرا/ روندا6، روندالين، جاندول، فارو، فارالاي/ جيري، جيريجاي/ بول.
 
إنه الاستمتاع الفلسفي بالنطق متعدد الأطوار… التلاعب بالأصوات دون الاهتمام بالمعنى الدلالي. ونستطيع أن نقوم بتحليل بسيط للرمزية الصوتية في هذا العمل المسرحي، على سبيل المثال:
 
الضحكة: كيكيريكي/ بيردولاريلاريريو/ ريو ريك/ خيخيخي.
 
الكوليرا: تارو، تاتارو، تاري، بي/ تيتارو، يتبعه روك كيكيريكو.
 
(فاستخدامه لحروف الـt والـp والـr والتي تعتبر حروف انسدادية مكتومة أو حروف رنانة ذات تكرار عنيف يجذب الانتباه، فضلاً عن إنهاء المقاطع بحرف الـq وليس الـi الضعيف الحاد. هكذا عبر لنا كاتبنا عن محاكاة صوت الديك في الاسبانية).
 
أو الغموض الذي تثيره الحروف الأنفية في عمقها، على سبيل المثال:
 
“ليندو ديراندا دوراندو/ دورادورا بيروليندو”.
 
تعكس الرمزية الصوتية واستخدام الكلمات في هذا التمرين المتعدد الأطوار حاسة السمع الرقيقة لدى الشاعر ولدى قربه من الطفولة. ولربما أراد المبدع هنا أن يعود الى القيمة الطبيعية للألفاظ بعيداً عن تحكمية اللغة، فهو يعتمد فقط على محاكاة الأصوات العاطفية والمعبّرة.
 
إنه تلاعب لا حصر له بالأصوات والموسيقى والألوان وسعادة الأطفال، كل ذلك يشبه لوحات رافائيل ألبيرتي ذاته؛ كثير من محاكاة الأصوات، كثير من الصياح والزغاريد والهذيان في هيئة أغنية.
 
ففي “العصفور المزركش”، يستمد ألبيرتي الطفل الذي يلعب في ميناء القديسة ماريا من مسابقات التلاعب الألفاظ مفاتيح لغة الأطفال ثم يقدمها في المسرح. فمتعة التكرار هذه لا يشعر بها الكبار، أما بالنسبة للطفل والشاعر، فهما يستمتعان بصعوبة النطق والجناس في تقاطع الأشكال الهندسية. فهناك مثل اسباني يقول: “الكلمة الجادة الطفولية تشبه الببغاء المصنوع من الورق”.
 
ويكرر العرن صياحه عدة مرات على المسرح فيقول “كيكيريكي”. قد نطلق على هذا مصطلح محاكاة الأصوات، برغم ظهور عبودية الثقافة أيضاً في جانب الرمزية اللغوية. ويشير ساوسور الى استمرار الاحتفاظ بالعلامات اللغوية حتى في تقليد الأصوات الطبيعية فيقول مثلاً: “يصبح الديك في المناطق المتحدثة بالاسبانية قائلاً كيكيريكي وفي ألمانيا يقول كيكيريكي، أما في أقفاص الدجاج في فرنسا، فتصيح الديوك قائلة كوكوريكو وفي انكلترا تقول كوكادودلدو”.
 
——————————————————————————–

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *