البريطانيون يشاهدون مسرحية جميع المسرحيين

هالة صلاح الدين

عالم ممزق على شفا حرب نووية بين القطبين الشرقي والغربي في نسخة انكليزية لمسرحية ‘فويسك’.
 
“لقد سمعتُ عنك أشياء وأشياء، أشياء عن ماهيتك، أشياء عما ارتكبتَه. عليك أن تخاف. استمر في المشاهدة. هل تسمعني؟ إننا في حاجة إليك”، يتحدث الصوت المبهم في مسرحية الكاتب الألماني جورج بوشنر على مسرح أولد فيك اللندني إلى فويسك الجندي الرازح تحت أقدام الطبقية الهيراركية وأحذية السلطة العسكرية والذي يتقمص دوره ببراعة الممثل البريطاني جون بويجا بطل فيلم “حرب النجوم: القوة تنهض”.
 
لطالما استشهد المسرحيون بأعمال بوشنر ونوهوا بها بصفتها الاستهلال الحقيقي للمسرح الحديث. كان كاتباً ينشد الثورة سبيلاً للنجاة وتفتّق ذهنه عن إشعال التمرد بين صفوف الفلاحين في مسقط رأسه مما اضطره إلى الهرب من ألمانيا. لذا أخفق في نشر مسرحياته إلا واحدة، وهي تراجيديا عن الثورة الفرنسية تحت عنوان “موت دانتون”.
 
واليوم ينفخ المؤلف المسرحي جاك ثورن صاحب مسرحيتي “هذه إنكلترا” و”هاري بوتر والطفل الملعون” حياةً جديدة في مسرحية “فويسك” لبوشنر. لم يكتب القدر للنص الاكتمال لأن بوشنر قضى نحبه عام 1837 بعد أن عبَّأ حياة كاملة من التجارب المشحونة في سنوات معدودات ثم ترك مسرحيته غصناً مقطوعاً بدون تتمة.
 
 
لعبة ملء الفراغات
 
تُعتبر “فويسك” أمثولة استثنائية بكل ما تضمره الكلمة من معانٍ. النادر فيها هو أنها مسرحية أعيد تعديلها مراراً وتكراراً فانقلبت مِلكاً لجميع الأيديولوجيات وصالحة لكل تقنيات المخرجين بمختلف ثقافاتهم الفنية لما يتصف به فضاؤها السردي من قماشة رحبة تحتمل شتى التأويلات. كل مؤلف يملأ فراغاتها وكل مخرج يجرّب فيها من خياله الخصب. إننا حيال مسرحية تجيد فتح الأبواب المواربة ورمي التلميحات بوصفها النوافذ المشْرفة على الفن.
 
ولافتقارها إلى نقطة النهاية صارت قطعة درامية تنحو إلى التجريب. ولعل هذا ما جعلها مثالاً للابتكار وقماشة خام للورش المسرحية. ومن الجدير بالذكر أن الأكاديمي المصري الراحل عبدالغفار مكاوي قد ترجم “فويسك” إلى اللغة العربية، كما أنتجها مجلس دبي الثقافي تحت عنوان “مندلي” كورشة تدريبية عام 1996 من إخراج المخرج العراقي جواد الأسدي.
 
كان بوشنر قد استلهم “فويسك” من قصة واقعية محاولاً عن طريقها محاكاة الواقع. وفي عرضنا هذا نكتشف أن ثورن يحافظ على ما تضمّه المسودة الأصلية من مشاهد ولوحات مستقلة غير أنه على عكس الأصل المتشظي يشكِّل منحنى سردياً متماسكاً يتصاعد بعواطف فويسك ثم يهوي به في مستنقع الفزع من طريق لم يسلكه من قبل ولا يعْهد له مخرجاً.
وفي تلك القصة الأيقونة عن جندي حلاق يجهل القراءة والكتابة ويضطهده القاصي والداني، يعَصْرن ثورن دراما حربية تعود إلى القرن التاسع عشر ليتجلّى للمتفرج معنى جديد لانكسار عقلية ضائعة لا تواتيها الفرص لمداواة جراحها. يعْلم الجندي تمام العلم أن أيّ نصر يُتوَّج على رأس من هم على شاكلته ما هو إلا عبث وفخر وهمي في مسرحية تُعد أول “تراجيديا للطبقة العاملة” على الإطلاق وبطلها أول شخصية كادحة تتربع على خشبة مسرحية عالمية.


 
حافة نووية وشيكة
 
على مدار ساعتين وعشر دقائق هي مدة العرض تتشكل الأحداث إبان ثمانينات القرن العشرين والحرب الباردة تستعر بين القطبين الشرقي والغربي بينما يتشتت العالم بين الرأسمالية والشيوعية جالساً على حافة كارثة نووية وشيكة.
 
لا تنفك خيالات ماضي فويسك تفتك به والحاضر بدوره لا يرحمه. كان قد انخرط في معمعة الحرب في بلفاست بأيرلندا الشمالية فخلفت في أحشائه آثاراً جهنمية ضاق بها ضيقه بفقره. وعلى حين تسيطر القوات السوفييتية على ألمانيا الشرقية، تصْدر الأوامر ألاّ ينخرط الغرب مع الشرق في أيّ التحام أو مناوشات بينما يترقب الطرفان الغزو وكأنه مفتاح الفرج.
 
وعلى الحدود يتمركز فويسك مع القوات البريطانية الكامنة في برلين الغربية، وكانت حينذاك جزيرة وسط بحر من الشيوعية الكاسحة. هو وحبيبته ماري يستميتان لبناء حياة كريمة وتأمين مستقبل طفلتهما. ولكن الحاجة هاوية لا مفر منها إلا لمحظوظ أو مقاتل روماني، وتكلفة الكفاح عزيزة لمن يلفظهم المجتمع ويدحرهم مشردين.
 
 
أول تراجيديا عاملة
 
يخلص المؤلف إلى أننا لا يحق لنا إدانة سوى مَن يفتقرون إلى “موهبة إبداء التعاطف”. عندئذ، وعندئذ فقط، يسخطهم إلى مرتبة كاريكاتورية مثلما هو الحال مع طبيب يعرِّض فأر التجارب فويسك لحمية تجريبية ويتلذذ بهلوسته كدعاية تخدم شهرته؛ والكابتن رئيس فويسك المباشر ورمز السلطة العسكرية الذي يتعالى عليه أخلاقياً لإنجابه طفلة غير شرعية ويستمتع استمتاعاً يجْمع بين الجبن والسادية وهو يعايره بخيانة ماري ثم يتربص به جنسياً راغماً إياه على تدليك فخذيه.
 
ينحني فويسك للعاصفة تلو العاصفة دون أن يفلت من زوابعها. ينفعل فيخبط رأسه في جدار تارة ثم يتحجّر في محله غير دارٍ بمصيره تارة. يهضم تيارات الإساءة ذاتها في باطنه فنلمح بين ثنايا الحوار أصداءً ماركيز دي ساد ولوحات النص المشَّتتة تصل خيوط محنته حين يطْلق العنان أخيراً لما يترسَّب في وجدانه من كراهية.
 
 
ثمرة نسوية بازغة
 
قد تتراءى الحبكة من فرط قسوتها دنيئةً مبتذلةً. رجل يُظهر كافة صنوف العنف ويقتل حبيبته غيرةً على حين يلقي الإلحاد بظلاله على المشاهد. سوف يستوقفنا هذا العالم الذي هجره الرب رغم أن بوشنر لا يورد إطاراً مرجعياً لهذا الدين المستلب. حسْبه أن يجعل ماري تطالع الكتاب المقدس ووخز الضمير يناوشها بينما يصورها في مشاهد أخرى ضحية بلهاء أتى عليها الدهر.
 
وحتى مع خيانتها لا تعكس ماري شخصية “متحررة” بالمعنى المعاصر للكلمة. تتمزق بين ندَّاهة الجسد وحس أخلاقي تعززه بقية باقية من كاثوليكية قديمة تحثها على “التوبة النصوح”. تصارح فويسك في مستهل العرض بأن بهما من اليأس ما يحُول دون أن يقْدما على أي شيء عدا أن يعيشا حياة يائسة! ونحن لا يصلنا الانطباع بأنها تتقمص دوراً ثانوياً في فانتازيا رجل، بل شخصية ذات أبعاد ثلاثية كانت على الأرجح إحدى الثمرات البازغة لنسوية الآثار الأدبية في القرن التاسع عشر.
 
 
الخراب على القصور
 
وهكذا تتكالب على فويسك الإهانات الفاضحة من السلطة والتكبر الطبقي والرفيقة على حد سواء. يستميت في تحقيق أدنى متطلبات الكرامة والتوازن النفسي، ولكن هيهات. فالهش ليس الجسد وحده، بل عالم فصله حائط برلين التاريخي، وهي فكرة يستخدمها ثورن لإبداء آراء واستبصارات عن الدين والسياسة في فراغ معتم تبزغ منه الشخصيات كأقباس من نور ثم تتوارى كأشباح الموتى.
 
ومثله مثل بطله الأثير فويسك الذي نفخ فيه جلّ فلسفاته وأفكاره عن الكون، كان بوشنر اشتراكياً رفع شعار الثورة الفرنسية “السلام على الأكواخ! الخراب على القصور!” وهو واحد من الكتاب الألمان القلائل الذين هبطوا من “مملكة الأحلام الخيالية في القرن التاسع عشر” وفقاً للشاعر الألماني هاينرش هاينه. ونتيجة لذلك حاول تغيير العالم بقوة العضلات واقفاً من المظاهرات السلمية موقف الشك عندما قال، “لو أن لأيّ شيء جدوى في هذا الوقت، فهو العنف”.
 
وعلى غرار كاتبها تُردد “فويسك” على خلفية من شعرية اليومي المبتذل، أصداء استياء بوشنر من حال شعب “على وشك الموت جوعاً وآلاف العائلات تعيش على البطاطس النيئة”. ولا شك أن بطلها لا يصمد أمام حرب باردة وحبٍّ لم يسنح له الخواء فرصة للنجاة وجوع ناشب في الأعناق فيتعرى تعري حوائط مثقوبة شهدناها على خشبة المسرح.
 
لطالما اختلف النقاد ومؤرخو الأدب حول المشهد الذي يناسب النهاية أكثر من غيره. وقد قرر المخرج أن خير خاتمة هي قرع طبول حرب متخيلة بين الشرق والغرب ودلْق أحشاء عارية من بين تلك الثقوب الجدارية، لعلها ترمز إلى دول تلتقط بالكاد أنفاسها بعد حرب لتنخرط في أخرى أو رجل توازي ندوبه فداحة انهيار منظومة تتصادم فيها القوى الرأسمالية والشيوعية رأساً برأس.
 
———————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  العرب 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *