الاعترافات المحذوفة من مذكرات يوسف وهبي

قبل أيام، وتحديدًا فى ١٧ أكتوبر الماضى، حلت الذكرى الـ ٣٥ لرحيل «فنان الشعب» يوسف وهبى، التى مرت فى صمت لا يليق بالرجل الذى ملأ الدنيا، وشغل الناس، وشهد له التاريخ بأنه الأب المؤسس للمسرح المصرى الحديث، واستطاع أن يغير سمعة الفن ويحول الفنان من مجرد «مشخصاتى» لا تقبل شهادته فى المحاكم إلى صاحب مهنة نبيلة، ويمكن أن يكون من أبناء الذوات ويحمل لقب «البكوية». والسؤال: «هل فى سيرة يوسف بك وهبى جديد يمكن أن يُكتب ويُقال ويُنشر؟».. الإجابة بقلب واثق: «نعم.. هناك جديد.. ولدينا وثائق طازجة بخطه، ورائحته قادرة على صناعة الأخبار واستعادة الذكرى».. باختصار: «ما زال يوسف وهبى بعد ٣٥ عامًا على رحيله قادرًا على إثارة الدهشة».

شطب فقرات من «عشت ألف عام» والنقاد يعتبرونها الأجرأ فى تاريخ الفن

فى ٢٧ يونيو الماضى، كتب الناقد المرموق «إبراهيم العريس» مقالًا مطولًا فى صحيفة «الحياة» اللندنية، خصصه للحديث عن مذكرات عميد المسرح العربى يوسف وهبى، وقدم فيه إعادة قراءة لمذكراته الأشهر: «عشت ألف عام»، وكان عنوان المقال دالًا على رأيه ومُلخصًا لوجهة نظره: «يا للأكاذيب الجميلة».

«العريس» أخذ على مذكرات يوسف بك «كثرة ما فى النص من مبالغات وأكاذيب ونفخ فى الذات لا يستقيم مع الصورة التى ترسمها كل تواريخ الحركة الفنية والاجتماعية»، معتبرًا أنه «يصعب تصديق أى صفحة من مذكرات الرجل كما هى».

ومع ذلك، فإن «العريس» يعود فيعترف أن «أجمل ما فى (عشت ألف عام) هو مبالغاته»، مضيفًا: «لقد كان يوسف وهبى حالة على حدة فى تاريخ المسرح المصرى، حالة لا تظهر سوى مرة واحدة، تيمنًا بعبارته الشهيرة: (شرف البنت زى عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة)».

هذا رأى «إبراهيم العريس» فى مذكرات يوسف وهبى «الشرعية»، التى نشرتها «دار المعارف»، وقالت فى مقدمتها إنها المذكرات الكاملة للفنان الكبير «كما كتبها دون تدخل فى أى من التفصيلات أو الوقائع التى أوردها، سواء عن نفسه أو عن سواه ممن تحدث عنهم أو احتكت حياته بحياتهم خلال المسيرة الطويلة، التى استغرقها كفاحه الفنى العظيم».

فهل سيغير «العريس» ودار المعارف رأيهما عندما يقرآن الوثيقة التى ننشرها وتؤكد أن يوسف وهبى خدع الجميع، وأنه لم ينشر مذكراته كاملة، بل شطب أجزاء وفقرات عديدة منها، تتضمن مبالغات أكثر من تلك التى استوقفت وأدهشت إبراهيم العريس، فجعله يصفها ــ بلطف ــ بأنها «أكاذيب جميلة؟».

وبعيدًا عن رأى «العريس»، فإن أغلب النقاد المنصفين ينظرون إلى «عشت ألف عام» على أنها واحدة من أجرأ المذكرات الفنية وأمتعها، خاصة أنها تضمنت اعترافات عارية بل صادمة أحيانًا، لِمَ لا؟، وصاحبها امتلك الجرأة والشجاعة لأن يعترف بأنه أقام علاقة جنسية كاملة مع صديقة والدته، وهو لم يزل تلميذًا يافعًا فى المدرسة.

واعترف وهبى كذلك فى تلك المذكرات بأنه انضم لتنظيم «المافيا» أثناء سفره إلى إيطاليا لدراسة المسرح، وأن ظروفه الصعبة اضطرته للإقامة مع فتاة «كومبارس» إيطالية فى شقتها بشارع للدعارة فى «ميلانو»، حتى اتهمه البوليس بقتلها، وقضى فى السجن ٤٨ ساعة إلى أن أظهرت التحريات براءته.

كما اعترف بأنه كان مدمنًا للقمار، وعلى موائده الخضراء خسر عشرات الآلاف من الجنيهات، وأنه أضاع الثروة التى ورثها عن والده، واضطرته الظروف لأن ينام فى عشش الفراخ وأن يهرب من «الدَيانة». ما سبق بعض مما حكاه عميد المسرح المصرى فى مذكراته، وجزء مما كتبه، أما الذى شطبه فكان لا يقل جرأة بل يزيد، وذلك فى البروفة الأولى لـ«عشت ألف عام»، ــ التى بحوزتنا ــ، وكتبها يوسف وهبى بقلمه قبل أن ينقحها، ويشطب العديد من فقراتها، وننشر فيما يلى المقدمة البديعة للمذكرات كاملة على لسانه بلا أى حذف.

لا أنام إلا بحفنة من الحبوب المخدرة وترددت على طبيب نفسى سويسرى

يندر أن أهنأ بثُبات عميق ــ «يقصد سُبات» ــ.. فذكريات الماضى يحلو لها أن تهاجمنى فى الليل البهيم، وشريطه السينمائى يعرض أعماقى طوال الليالى، فأهب من رقادى مهما كنت مرهقًا، وإذا تصادف وانتصر على النعاس فعقلى الباطن لا ينام بل يظل متيقظًا.

وكثيرًا ما يحدث لى عندما أعتزم كتابة مسرحية وتستعصى على مخيلتى تنظيم أحداثها يتطفل عقلى الباطن المستيقظ ويشاركنى فى تنظيم وقائعها. 

إنه كالضيف الثقيل الذى لا تحلو له سوى زيارتى ليلًا فأضطر إلى إضاءة «الأباجورة» المجاورة لفراشى، فالعقل الباطن مثل الأرواح يهرب من بهرة الضوء، وهذه هى الوسيلة الوحيدة لطرد الضيف الثقيل، وأستعين بأى كتاب تقع عليه يداى حتى إذا ما طلع الفجر لا أجد بدًا من تناول حفنة حبوب مخدرة لتصرعنى، وهكذا أنجو من الجنون.

لكن ما إن أفيق من ثُباتى ــ «يقصد سُباتى» ــ، حتى تتراقص أمامى أشباح الماضى وتتدافع آلاف الذكريات فى شريط سينمائى لا أول له ولا آخر، وأستعرض السنين وتتراقص الصور والشخصيات والأحداث التى مرت فى حياتى وألهث فى تتبعها ويعترينى الإعياء من هذا الاستعراض الإجبارى وأصرخ بصوت عالٍ: «لا.. لا.. مستحيل».

هل كل ما فى هذا الاستعراض حقيقة أم محض خيال؟ إنها لا تقف عند حصر.. لقد صدق طبيب الأعصاب الشهير فى مدينة «جنيف» عندما لجأت إلى مصحته منذ سنوات للعلاج بعد حادث مفجع وقع لى وكاد يطيح بعقلى وقال لى: «لقد عشت ألف عام.. ألم تفكر فى تسجيل حياتك الحافلة؟».

راودتنى الفكرة مرارًا بيد أننى كنت أتراجع.. لماذا؟.. لأن تاريخ حياتى فيه من الأسرار ما يحتم علىّ عدم نشره.. وحبى لفنى عرضنى للعديد من المآزق والتجارب والمغامرات.

هيا لا تضيّعن الوقت.. احزم أمرك وسجل كل ما وعته ذاكرتك، وضع نصب عينيك أن واجبك إطلاع العالم العربى كله على تاريخك الطويل.. اجعل منه كتابًا مفتوحًا وتوخ الصدق والأمانة ولا تحاول أن تتهرب من أخطائك واضحط ــ «يقصد ادحض ــ» الأكاذيب والافتراءات إذا كانت هناك أكاذيب وافتراءات.

وذات ليلة منذ بضعة شهور سمعت دويًا فى أذنى، ثم اهتز سريرى، ففتحت عينى وأنا بين الثبات ــ «يقصد السُبات» ــ واليقظة، لمحت على أشعة القمر التى تتسرب من نافذة غرفة نومى شبحًا، وعندما دققت النظر بدا لى هذا الشبح كصورة طبق الأصل منى فارتجفت وهمهمت:

– من أنت؟

– أنا حاضرك. 

– حاضرى؟ وماذا تريد؟

– جئت لأعاتبك على كسلك وإهمالك فى تسجيل ماضيك. 

– ماضى؟

– نعم ماضيك. 

– أنت محق كثيرًا.. ما أمسكت القلم وأنا معتزم أن أكشف عن ماضى الستار ومرارًا ما ملأت منه صفحاتى.. وفى كل مرة أتوقف بل أمزق ما دونت لأن تاريخ حياتى يحتاج إلى تكريس كل وقتى والتفكير فيه يضنينى ويهد كيانى. 

– سألازمك من الآن ولن أدعك حتى تنتهى منها. 

خسرت عشرات الآلاف فى القمار.. ونمت فى عشش الفراخ

– إنها مسئولية خطيرة وأسرار طواها الزمن ويشوبها عدم الاستقرار.. إنها مسيرة طويلة وعمر عشته طولًا وعرضًا.. وكثيرًا ما أسائل نفسى: «كيف صمدت بمفردى ودون عون من أى مخلوق على اجتياز الصعاب التى مرت بى؟».

عشرات السنين عشتها بين مد وجزر.. فى قصور فاخرة وفى غرفة على السطح يشاركنى فيها الدجاج.. رأسمال ضخم ورثته عن أبى وأضعته ثم استرددته ثم فقدته.. دوامة لا تهدأ: فقر وغنى.. شظف وترف.. ظلام وبهرة أضواء.. قامرت وربحت وخسرت.. انتصرت وانهزمت، لكننى لم أُسلم سلاحى ولم أخضع للأقدار ولم أغتر بالثراء ولم أجزع من الإفلاس العلنى وملاحقة «الدَيانة». إعصار وزوابع وحرب عوان أشهرتها على الرجعية والحقد.. مغامرات مع الجنس اللطيف تفوق حد الخيال. راغبات فى خلق علاقة مع ذوى الشهرة، وفضوليات متعطشات للتذوق والتجربة، فراشات تغريها الأضواء ثم يتساقطن فى أتون النار.. لكننى كثيرًا ما كنت ضحية للمغريات.. لفقوا علىّ القصص.. اتهمونى بأنى قناص أصطاد الطير الضعيف، نهم فى المتعة، حشاش، سكير، عربيد، جعلت من المسرح مصيدة سقط فيها العديد من الضحايا.

والحقيقة كانت عكس ما لفقوه عنى وما ابتكروه لتحطيم سمعتى. أنا لا أدعى أننى كنت قديسًا أو راهبًا أعيش فى محراب أو متصوفًا فى صومعة أو معصومًا من الخطأ والشهوات.. لكننى كغيرى أيام الشباب والفتوة كنت أستجيب أحيانًا للإغراء والجمال فى شىء من النهم بيد أننى لم أشرب الخمر ولم أتعاط المخدرات ولم أرتكب موبقات سوى حبى السابق للقمار الذى سلبنى عشرات الآلاف.

– كم مرة أحببت؟

هذه عملية حسابية تحتاج إلى خبير فى مسك الدفاتر، لكننى أحببت لأول مرة مبكرًا وقبل البلوغ وكان عمرى ٨ سنوات.

– خبرنى أولًا يا أستاذ يوسف هل أنصفك أولئك الذين أرخوا للمسرح؟

– من النادر بكل أسف.. معظم من ادعوا معرفة تاريخ المسرح لم يعاشروه. 

– متى بدأت هوايتك للمسرح؟

-منذ كان عمرى ٧ سنوات وتضاعف هذا العشق على مر الأيام وتحول إلى وله وأصبحت خشبة المسرح أشبه بامرأة أُذبت فيها وجدًا لكنها كانت وما زالت امرأة قُلّب أذاقتنى حلوها ومرها وبعت نفسى وشبابى لها.

– هل كان النقد لأعمالك ومسرحياتك بناء أم هدامًا؟

– معظمه كان معاول هدم وتشويه لجهادى، بيد أننى لا أنكر فضل بعض الأقلام النزيهة التى ساندتنى وأنصفتنى.

سيناريو مسلسل درامى يحكى قصته فى مكتبه بوسط البلد.. مَنْ ينتجه؟

حسنا فعلت أسرة عميد المسرح المصرى، وفنان الشعب يوسف وهبى عندما أهدت مؤخرًا مكتبته وأوراقه إلى مكتبة الإسكندرية لتكون فى الحفظ والصون، وحتى لا نجد تلك الوثائق المهمة قد تسربت وخرجت من مصر واستقرت فى أدراج كئيبة على ضفاف الخليج لا تعرف قيمتها ولا مكانة صاحبها بل دفعوا فيها حقائب من الدولارات لمجرد التباهى.

وحسبما ذكره لى أيمن منصور، المدير فى «بيت السناري» التابع لمكتبة الإسكندرية، الذى تولى تسلم وثائق يوسف بك من أسرته، فإن هذه «الثروة» تضم سيناريوهات مسرحياته والوثائق الخاصة بفرقته المسرحية «رمسيس»، وكتبه الشخصية بمكتبته، وأغلبها عن المسرح وتاريخه بأغلب اللغات العالمية، ومجموعة نادرة من اللوحات التى رسمها له كبار الرسامين العالميين، ومتفرقات من مذكراته الشخصية التى نشرت بعد ذلك فى ٣ أجزاء عن «دار المعارف»، وكذلك ما حصل عليه من نياشين وأوسمة وشهادات تقدير خلال مسيرته الحافلة.

وقد أُتيح لى أن أرى وأطلع على كثير من تلك الوثائق فى مكتب يوسف وهبى فى مكتبه بوسط البلد، الذى يشغله الآن ابن شقيقه ويحمل نفس اسمه المهندس يوسف وهبى، ففى حجرة عمه كانت كل أوراقه كما تركها عند رحيله فى ١٧ أكتوبر ١٩٨٢، وكان بينها سيناريو مسلسل درامى فى ٣٠ حلقة.

يحكى هذا المسلسل قصة يوسف وهبى وسيرته منذ مولده فى الفيوم لأسرة أرستقراطية ترى فى التمثيل «عارًا» و«قلة قيمة» إلى أن أصبح أشهر ممثل مسرحى فى الشرق وواحدًا من أبرز نجوم التمثيل فى كل الأجيال.. وأتصور أنه يمكن أن يكون الأساس لسيناريو مسلسل كبير يليق بسيرة واسم يوسف وهبى «مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل».

أذكر يومها ــ أكتوبر ٢٠١٠ ــ أن المهندس يوسف وهبى كان غاضبًا بشدة ومحتجًا بقوة على مشروع مسلسل كان السينارست فيصل ندا قد أعلن أنه بدأ كتابته بالفعل عن حياة يوسف وهبى، وقال إنه سيقف ضده بشدة ليمنع ظهوره.

وأظن أن فيصل ندا بعد كل هذه السنوات قد تراجع عن مشروعه، ولم يبق إلا السيناريو الموجود فى حوزة أسرة يوسف وهبى، لعل واحدًا من المنتجين الحقيقيين يتحمس لإعادة يوسف وهبى إلى الحياة.

——————————————————————

المصدر :مجلة الفنون المسرحية – عن  الدستور 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *