الاختزال المسرحي حاجة أم بدعة/د. عبدالمطلب السنيد

سعيدنا وشقيّنا يعيش في زمنين مترادفين في كون واحد : الأول زمن عدم الاستقرار الأمني  الذي يقود إلى تخبطنا في بيئة مرتبكة بكل صفاتها وبنيتها السياسية والإقتصادية والثقافية التي تحتاج لزمن يأتي بالضرورة لينقلنا مما إرتكباه من خطايا ولكنه  قد يأتي متأخرا . والثاني أننا نعيش في زمن متسارع تكنولوجي حداثوي في ظاهره وإن لم تنفذ معاييره مكانيا ولكنه شاخص من خلال التقنيات الاليكترونية التي تعج بها قنوات العالم ومن ضمنها القنوات العربية  والانترنيت وتقنيات المسرح التي خففت عن الممثل في الأداء.

وتلك مساحة من الحرية التي لم  نكن نتمتع بها من قبل . وفي ظل عدم الاستقرار الذي نعانيه اليوم والذي جعل من الثقافة والفنون والأدب تعاني من عرج مستديم من خلال محاكاتنا لمنتج حداثوي مصنوع خارج العقل العربي أو تكاد تكون كسيحة لأنها تحتاج لمتلقي يشتغل على نشاطات الإبداع ويحفز المبدعين بتقديم الفعل الجمالي للحياة من خلال ذلك الشيء غير المألوف والمبتعد عن التكرار والمحفز لعجلة الزمن كي نلحق بما سبقونا ليس من باب أن الآخر أفضل منا، بل من باب أن بيتنا مخرّب وجل ما نريده  هو ترميمه   من التصدع القاسي. فالناشط لا يخدمنا بقدر المفكر ، لأن المفكر لا يستنسخ، بل يخلق وتلك مصيبة الثقافة عموما . فلنتدبر وعي إرادتنا وثقة آمالنا في أن يأتي جمهورنا لمشاهدة عروضنا المسرحية التي تعاني من فقر روادها وهم  قلّة من العاملين في  المسرح ..  وقلة قليلة من النقاد وهذا هو نتاج عدم استقرارنا. يضاف لذلك نظرة الدولة التي لبست فقط لباس السياسة المتعشق بالمحاصصة بالرغم من الأصوات التي تنادي بإزالتها والتي تعمل داخل الدولة ولم يتنازلوا لخلق قواسم مشتركة للولاء إلى الوطن بقدر ما هو إنتماءهم للغنائم التي تعج  بخراب ما يسمى بوطنية المواطن. من هنا جاء الفراغ وحصل العقم وضاع المسرح وتعطّل الحوار وظلت كراسي المسرح حزينة على فقدانها جمهورها الذي هو زادها   وتوزعت مهمة المسرحي وطوحاته القصوى السفر خارج العراق لتقديم عروضهم المسرحية والإشتراك في المهرجانات . يضاف لهذا وجود عين الإقطاعية  التي وضعت للعروض المسرحية أنظمة جاهلية أولها التمويل الذاتي!! ولا أعرف كيف تستطيع الفرقة القومية للتمثيل أن تموّل ذاتها بذاتها وهي التي يعتمد العاملون فيها على رواتبهم وخبرتهم وسني عمرهم المبذول من أجل تقديم الأفضل على تمويل عروضهم المسرحية ذاتيا؟

1
تُرى مَن الممول لإنتاجاتهم، الجمهور أم المنتج من ذوي القطاع الخاص؟ والاثنان غير متوفرين على الساحة الفنية .نعم أين هو الجمهور الذي يقف على شباك التذاكر كي يقطع تذكرة الدخول لأي عرض؟
من هنا يأتي حديثنا الذي نطالب فيه المسرحيين أولا اعتماد طريقة جديدة وجدية وناجعة من أجل أن نُعيد للمسرح هيبته وتقليده وجماليته  وجماهيريته و ذلك عن طريق الاختزال الفني. قد يسال سائلٌ ماذا تقصد بالاختزال؟ نقول: إن العالم يعمل اليوم على إختزالات علمية تكنولوجية ليساير حركة المجتمعات السريعة لأن إيقاع الحياة تغيّر بشكل باتت الثواني تحسب بدقة متناهية حيث يوفر لك الإنترنيت خبرا إعلاميا سريعا مع ما تقدمه القنوات الإخبارية من أخبار يضاف لذلك خبرا آخر عاجلا مع تواتر الأحداث والإختراعات ، وترى أن ما يميز إختراع عن آخر هو المحرك الآلي الذي اخترعه محرك الإنسان (العقل). وهذه المحركات أو ( الماطورات) التي تحرك العالم لم تتوقف عن إنتاج الجديد والأجدد كل يوم بل كل ساعة أو اقل من ساعة وتجد أن السوق والذوق والشهية مفتوحة للمستهلك وحتى الذي لم يستطع أن يشتري تلك البضاعة الجديدة لثمنها العالي يبحث عمن يقلدها فتراه يشتري البضاعة المقلّدة وبسعر أقل من البضاعة الأصلية، لذا فإن النص يشكل علامة فارقة للإختزال الحكائي المجسّد بتواتر الزمن التكنولوجي .
من أجل هكذا يقين علينا أن نعيد لحركتنا المسرحية نكهة  جمالية جديدة تواكب إيقاع الحياة وتستفيد من مصالحة الذات لتستريح من أطنان الهموم التي ابتلي بها وطننا .فلنزيل شيئا من خراب العقل العراقي وتشظيته وذلك عن طريق المسرحية المختزلة التي تعتبر خطوة إبداعية تجديدية لجذب المتلقي في تحقيق ألفته التي غادرته وملء كراسي جمهور المسرح الفارغة والتي تشكو حزنها بتراكم الغبار عليها بينما يعمل الآخرون على تقديم عروضهم خارج الوطن لأسباب تتعلق بعدم أمنية المكان وقلّة التمويل إن صدقت النوايا.
المسرحية المختزلة
الإختزال المسرحي يعني كتابة مسرحية عراقية محكمة الصنع تأليفا وإبداعا وجمالية في فن التأليف المسرحي البعيد عن التزويق والزيادات التي تمتلئ بالمشاهد المترهلة التي أساسها التقريرية والإخبارية والتي تفتقر إلى الحبكتين البسيطة والمعقّدة، وتسير بنمطية الصراع .

2
الساكن أفقياً الذي يعتمد الاحادية في التصعيد الساذج حتى النهاية . ولهذا علينا أن نتبع إسلوباً يعتمد على الدهشة والتسويق  والتشويق الفني الجمالي القريب من تراكماتنا  المجتمعية المعرفية التي يزخر بموادها وقصصها العراق وتعتمد المواصفات التالية:
أولا:  إن ساحة اختيار الموضوعات من قصص وحبكات تاريخية أو معاصرة مفتوحة شريطة أن تكتب المسرحية لتمثل وليست لتقرأ. وهذا هو جواز مرورها أي المسرحية لأنها تحمل أحداثا مثيرة ومشوقة للمتلقي لشرعيتها في تطور صراعها السريع والمنطقي لناموس الحياة، والذي أثار سخرية الطير المذبوح من الألم أن كلما حاولت المحاولات الإبداعية في التأليف المسرحي العربية والعراقية التي تصف نفسها بالتجديدية والتي تزعم لنفسها أنها منسلخة عن المسرح الغربي تجاربيا على أساس أنها المتحركة في الشكل والتركيب لكنها تظل حبيسة الثابت ضمن منظومة المسرح الموروثة . إن جميع محاولات المسرحيين الغربيين التي استلمنا شفراتها العملية دخلت بدخول الاستعمار لدولنا إنكليزية كانت أم فرنسية وكذلك الترجمات الوافدة . ولقد أحسن هؤلاء استخدام وتطوير أشكال الموروث المسرحي نقلا عن اليونان والرومان ، ولكن الاجتهاد كان وما زال مفتوحا لكل الممكنات المتحركة تجاوزا على الثابت منها في ضوء متغيرات العصر والمجتمعات القائمة على الفعل والأفعال الملهمة . والذي يثيرنا من أن بعض النقاد والمفكرين في المسرح العربي يعتبرون ما طرحوه يشكل إضافة جديدة من أن المتلقي عنصر مهم وحيوي في طبيعة العرض المسرحي أو الفرجة المسرحية من النظارة والمشاهدين , وهذا ليس بجديد طالما أن المسرح كان ظاهرة و نشاطا طقسيا دينيا واحتفاليا كرنفاليا إعلاميا وثقافيا  تقاليديا منذ ظهوره زمن أسخيلوس والمبدعين من بعده وظل هكذا حتى اليوم ,ولكن نشاطاته  تميزت بكونها نشاطات اجتماعية وفنا جماهيريا يستمد مصل ديمومته من وجود المتلقي  أي الجمهور .أما المشاركة التي ندعيها أو التفاعل الحاصل من خلالها فهو قائم بالضرورة لأن الجمهور الجالس أمام العرض المسرحي يتعاطف شعوريا أو عقليا ..مستجيبا أو رافضا ولكنه متحرك  أمام العرض المسرحي عقليا أما مبهورا ..مدهوشا.. متمتعا ..سعيدا أو حزينا ..مؤيدا أو رافضا وهذه جميعها دلالات المشاركة إن كانت كلاسيكية تقليدية أم بريشتوية تحريضية تعبر عن قهر المقهورين ومشاركتهم في اللعبة . إن الاجتهاد في تحريك الأشكال هو الضرورة أما تجفيف الماء عن الإنسان هو استثناء .إن وجود الجمهور في المسرح  حقيقة  ويقين كوجود الحكاية في المسرحية. ولذلك علينا أن نربي ونعوّد جمهورنا على أن يأخذ مكانه معنا في نشاطنا المسرحي طالما أنه يشكّل البعد الحيوي لاكتمال جماهيريتنا.

3
ثانيا : إستعمال اللغة الحيوية في الأفعال والمفردات القريبة من المتلقي بسلاستها والابتعاد عن تعقيدها وقاموسيتها لتخلق علاقة في الفهم والتصور والرمز وتفتح طريق الإستكشاف للحدث المركب والبسيط وتجعل المتفرج قريبا ملتصقا واعيا لطبيعة التأويل منسجما مع حلم الفن ونموذجيته التي يتمتع بجماليتها  و يتذوقها كفن يسمو عن الحياة بتكرار مرارتها المستديمة ولكنه يحاكيها بعقله البسيط والمركب كحياة. ولكنه لا يلغي الندرة في بلاغتها التي تقترب من بلاغة العربية الفصحى والتي نحتاج القليل منها في عروضنا المسرحية بإعتارها نماذج لا يستغني عنها. أما  اللغة المحكية فلها رموز وشفرات تشكل قواسم مشتركه في فهم المقصود تترك للمؤلف  الذي لم يمت بل يشارك مع الممثل والجمهور بحرية وتلقائية وسلاسة في فك الترميز وتبني التأويل ومعرفة الإسقاط وتلك هي (الحسجة) التي يعرفها الكثير . ولكي نثقف اللغة المحكية ونشذبها من بعض المفردات المستعصية الفهم للجميع , علينا أن نختار الوسط المفهوم من لهجتنا المحكية التي تعتبر ورقة تسويق رابحة يجتمع عليها الجمهور وتؤدي دورها الفاعل في التفاعل والاكتشاف والإمتاع والدهشة حتى تصبح الجسر الشرعي مع اللغة الفصحى السهلة الممتنعة لحضور الجمهور بأطيافه جميعا لمشاهدة مسرحيتنا  المختزلة التي تصلح للتمثيل  ولا تأخذ من زمن عرضها إلا ساعة واحدة أو تزيد قليلا . وهذا الذي سيعتاد عليه المتفرج الجديد حين يشعر أن رغبته وشهيته الثقافية الجمالية بدأت في اشتياق لزيارة مكانات العرض المسرحي وأصبح الطريق سالكا لعقله وعواطفه إلى المسرح عند ذاك تكون قد أديت رسالة فنية اجتماعية وجمالية لإثبات أن نشاطك المسرحي هو نشاط فني جماهيري بحق.
إن أكثر العروض المسرحية التي شاهدتها في الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكيد باللغة الإنكليزية ، ولكنها لغة الشارع المحكية البسيطة التي يفهم ترميزها وتفسير معناها المجتمع الأمريكي مع إدخال الكثير من المفردات المحلية الصرفة التي يطلق عليها (Slang language).وتعني اللغة العامية , وترى الجمهور مستمتع في المشاهدة بجمال الأداء وفنية التكنيك وإبداع  السينوغرافيا من لون وموسيقى وتكوينات تشكيلية تأخذ المتفرج نحو عالم حياتي تلقائي يحاكي واقعهم ويتحدث عن مشكلاتهم وينتقد سلبياتهم بعقلية الفن وجمالية عالية لا يجدها المشاهد في زحمة الآلة اليومية وميكانيكية الحياة وإن كان بعضها يعود لمؤلفين أمريكان ليسوا معاصرين , ولكن الإعداد لإختزال الحدث هو القاسم المشترك للمعاصرة. فإن كان هذا النشاط مطلوب ومرغوب وينمي جمهورا فلماذا لا يعمل فيه ونقدم لجمهورنا طريقة وقصصا وحبكات يزخر بها مجتمعنا بقيم فنية جمالية وبلغة تحاكي أغلبيتنا ولا نتباهى باستيراد المؤلف الغربي الذي يكتب لمجتمعه ويعرف كيف يفكك مفاتيح تراكم مجتمعه معرفيا ، وهذا لا يمنع من تقديم أعمال لمؤلفين غير عرب لأن إنسانية المسرح تستوعب الجميع ولابد من تأصيل ذلك في المعاهد والأكاديميات الفنية المسرحية، لأنه زاد لا يُستغنى عنه.
في النهاية لابدّ لي أن اذكر نموذجاً حيوياً يزخر في ما ذكرته من مواصفات النص الحكائي الذي يشتغل عليه علي عبدالنبي الزيدي والذي يشكّل علامة مهمة في التأليف الذي سيحقق نهجاً ومدرسة نفتخر بها .

المصدر/ المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *