‘الأم شجاعة’ امرأة لا تعرف معنى الإنسانية/ سارة محمد

  • ما أقسى الآلام التي تخلفها الحروب، والدمار الذي تصنعه، لكن الأكثر بشاعة ما تخلفه من انحطاط أخلاقي لتجار لا يعترفون بكلمة “سلام”، ويرفعون شعار الحرب لتحقيق منافعهم الشخصية، هكذا تكون “الأم شجاعة” في نظر الكاتب المسرحي الألماني الشهير برتولد بريخت الذي هرب من النازية إلى الدنمارك عام 1941 ومنها إلى كاليفورنيا بالولايات المتحدة، تخلصا من حالة القهر والتعسف التي وصلت إلى حد إحراق كتبه بسبب معارضته للنازية.

من العالمية التي اكتسبتها مسرحية “الأم شجاعة” لبريخت التي تعد واحدا من أهم الأعمال التي قدمت في القرن العشرين، إلى مسرح “ميامي” بشارع طلعت حرب في وسط القاهرة، تعود الفنانة السورية رغدة للوقوف على خشبة المسرح في دور “شجاعة”، لتحقيق مجموعة من الأهداف التي ربما خسرتها طيلة السنوات الخمس الماضية، منذ اندلاع الثورة السورية، بسبب آرائها المؤيدة للنظام، وحملات الهجوم عليها لم يهدأ لها ساكن حتى الآن.

افتتاح العرض تأجل حوالي أربع مرات، وليلة العرض الأولى التي كانت مطلع شهر سبتمبر الماضي شهدت ارتباكا شديدا بعد “الفيروس” الذي أصاب تقنيات العرض بما فيها الصوت والإضاءة، وما تبع ذلك من تأثيرات على التقنية المستخدمة بـ”الفيديو بروجكتور”، حتى أن العرض كان سيتم تأجيله مجددا بعد انتظار الجماهير لما يقارب الساعتين.

متاجرة بالدين

فضلا عن تعريب المسرحية، وإعدادها وإخراجها على يد المخرج محمد عمر المشهود له بالكثير من التجارب المسرحية الناجحة سابقا، فإنه برع هنا في نقل الصراع على مذاهب دينية محددة إلى الشكل العام الذي لا يحدده مذهب بعينه، أو حدث سياسي معين، وهو ما يجعل نص المسرحية مؤهلا

للعرض في أي مرحلة زمنية وفكرية باستخدام فكرة التعددية والرمزية التي لجأ إليها مخرجها، وهو ما وظفته رغدة بصورة غير مباشرة، لتؤكد أن مواقفها السياسية كانت على حق.

وجرى توظيف الأجواء في العرض بشكل يخدم فكرته، بداية من الإضاءة الحمراء التي سيطرت على أغلب المشاهد دليلا على عدوانية وعنف الحدث، بجانب اللون الأصفر الداكن دليلا على الانحطاط والضعف الذي يضرب النفس البشرية في مثل هذه الأزمنة، مرورا بالديكور الذي حمل بساطة الشكل وتعميق المضمون، خصوصا مع استخدام تقنية “الفيديو بروجكتور” التي عرضت في شاشة رمادية آثار الدمار الذي تخلفه الحروب في البنيات التحتية للمنشآت.

من هذه الشاشة يخرج الأبطال على خشبة المسرح بين قادة جيوش، ورجل الدين أو “المذهبجي” كما يسمى في العرض، و”شجاعة” وأبنائها، وآخرين.

أم لا تكترث بشيء في الحياة سوى جمع المال، حتى أنها تضحي بأبنائها أكثر من مرة في سبيل ذلك

العرض محمل بالكثير من القضايا والأفكار والمعاني السياسية، ويظهر مدى بشاعة وقسوة الحروب التي يتخذها الكثيرون وسيلة للتجارة والثراء جراء تقربهم من السلطة، فشخصية “شجاعة” هي الأم التي لا تكترث بشيء في الحياة سوى جمع المال حتى أنها تضحي بأبنائها أكثر من مرة في سبيل ذلك.

أما شخصية “المذهبجي” التي يجسدها الفنان علاء قوقة، فتحمل في جوهرها تجسيدا لفكرة المتاجرة بالدين؛ إذ في حوار بين “المذهبجي”، وقائد الكتيبة الذي يلومه على عدم تأثيره في جنوده وبث روح القتال في نفوسهم، يرد مؤكدا أنه يمتلك “رعشة حنجرة” تذيب الجليد، وتؤثر في الجنود الذين يجلسون أمامه وتبدو عليهم علامات “البلاهة”، في إشارة إلى عمليات غسل الدماغ التي تحدث لهؤلاء على أيدي تجار الدين.

على جانب آخر من الدمار الذي تخلفه الحرب، تظهر الكثير من الشخصيات المحطمة نفسيا، منها “شهوة” التي تجسد دورها الفنانة صفاء جلال وتلعب دور “فتاة لعوب”، وأصبحت كذلك بعد أن خدعها أحد الجنود هاربا بعد إيقاعه بها، وتظهر في أعتى مراحل التأزم النفسي الذي يجعلها تحكي عن مرارة تجربتها طوال الوقت.

شخصية “شجاعة” التي تقدمها الفنانة رغدة تكشف وطأة وقذارة الحروب، بداية من “الكاركتر” الخارجي الذي تظهر به على خشبة المسرح مرتدية قبعة كبيرة دليلا على انتمائها الطبقي إلى البسطاء والمهمشين، وعدم اكتراثها بمظهرها أيضا، حيث تنسدل الضفائر منها، وبها الكثير من الأربطة الملونة، أما الملابس فتبدو غير متناسقة، في حين كانت الإكسسوارات التي ملأت يد “شجاعة” ترمز إلى تجارتها التي طافت بها من الشرق إلى الغرب، وكأنها تضع شارات لكل نظام ومذهب مرت عليه.

حالة تغريب

على الرغم من حالة “التغريب” التي تطبع المسرح الملحمي الذي تنتمي إليه “الأم شجاعة”، والذي دشنه بريخت، فإن حالة التفكير التي تنتاب المتلقي وعدم التوحد مع الشخوص، ربما تدعو إلى المزيد من الحيرة في كيفية انتصار الفنان للاستبداد وللأنظمة بدلا من الشعوب وحرياتها.

علاقة “شجاعة” بأبنائها الثلاثة: “دوشمة، دبشة، دانة”، الذين تصبح أسماؤهم علامة على الحرب، تظهر بشاعة جشع الأم، فهي لا تكترث لدفع فدية لابنها حتى ينجو من القتل على أيدي الجنود الجدد، بل تنكر نسبه إليها بعد إعدامه، كما أنها لم تشغل بالها بابنها الآخر الذي استدرج للقتال مع القادة إلى الدرجة التي جعلته لا يفرق بين أوقات السلم والحرب، غير أن علاقتها بابنتها البكماء “دانة” تتخذ شكلا آخر، فهي طوال الوقت تخشى عليها إلى الحد الذي جعلها تشوه وجهها بالطين، وتقص شعرها حتى لا يطمع فيها أحد من الجنود.

يكشف المشهد الأخير في العرض الوجه الحقيقي لعلاقة “شجاعة” بابنتها، بعد قتلها على أيدي الجنود الجدد الذين دخلوا المدينة لإبادة الشعب خلال سُباته، فبعد أن حاولت “دانة” أن تضرب على طبلة كبيرة ليستيقظ الجميع، يلعلع رصاص العدو ليقتل براءة “دانة”، ومن ثمّ يأتي المشهد التالي وتظهر الفتاة في أحضان “شجاعة” التي تبدو عليها ملامح التحرر من جشعها بعد أن حررت ضفائرها، واتشحت ملابسها بالسواد، وسط سيل من الدموع والأوجاع.

المشاعر الخادعة لم تمكث سوى دقائق معدودة، حيث تترك “شجاعة” ابنتها ليدفنها أهل المدينة، وتنتهج لاحقا طريق التجارة في الحرب التي سلبت منها كل معاني الإنسانية والرحمة.

تبدو الحالة الملحمية التي يقدمها بريخت في نصه، على المسار الموسيقي، أكثر وهجا مما قدمه العرض المصري، فالجانب الموسيقي في النص الأصلي يعتمد على الغناء بين الأم وابنها في إحدى اللوحات، وفي لوحة أخرى خلال سرد العاهرة لحكاياتها مع عشيقها، لكن عرض “الأم شجاعة” خلا تماما من هذه التفاصيل، واكتفى المخرج بوضع صوتين لشخصين من أتباع “المذهبجي”، في إشارة إلى فكرة القطيع الأعمى الذي لا يفكر أو يناقش.

المسرحية عمل متماسك إلى حد كبير من ناحية تقديم النصوص الأجنبية، وفيه الكثير من مقومات النجاح، باستثناء الموسيقى التي لم تحدث تأثيرا ذا بال، وعودة بطلته رغدة، التي تظل بحاجة إلى عدم خلط السياسي بالفني، والتخلي عن إسقاطاتها المعهودة لإيصال رسالة شخصية.

المصدر/ العرب

محمد سامي/ موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *