أوديسّةُ ساراماغو على خشبة مسرح “غيت” في لندن : ابراهيم قعدوني

المصدر : ضفة ثالثة : نشر محمد سامي موقع الخشبة

تدور القصة الشهيرة للروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو التي بعنوان “حكاية الجزيرة المجهولة” حول رجل يريد أن يبلغ جزيرةً مجهولة لم يبلغها أحد قبله. هي حكاية تُحرّض قارئها على أن يحلُم بالمستحيل وأن يحاول قطع المسافة الشاسعة بين نفسه والآخرين. في سبيل ذلك يقصد الرجل قصر الحاكم الذي بعدّةِ أبواب مختاراً باب الالتماسات بغيةَ أن يسأل الحاكمَ أن يمنحه قارباً ليشرع في رحلته وما بين الفكرة والطريق إليها، يعرض الروائي البرتغالي العبقري خوسيه ساراماغو بأسلوبه الرشيق أسئلةً لازمت الخيال البشري منذ طفولته.

قامت إيلين ماكدوغال المديرة الفنية الجديدة لمسرح غيت في لندن ومعها كلير سالتر بإعداد مسرحي لقصّة ساراماغو  وقد انطلقت عروضها على خشبة المسرح الواقع في منطقة نوتينغ هيل في وسط لندن منذ الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري وتستمر حتى بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام.

اختارت مصممة الديكور روزي إلنيل اللون الأزرق ليلفّ الخشبة من جوانبها كافةً في إشارةٍ مزدوجة إلى البحر الذي سيركبه الرجل في رحلة بحثه، وربما أيضاً إلى عالم الأحلام الذي يدعو ساراماغو إلى الانعماس فيه دون شروط لتقصّي أبعد ما يمكن للمخيلة البشرية أن تبلغه. أمّا القارب الذي سيبحر على متنه الرجل فقد ارتأت روزي أن يكون باللون الأحمر النبيذيّ.

 المسرحية، كما قصة ساراماغو، دعوة مفتوحة للحلم وللبحث عن أسلوبٍ آخر دوماً، دعوة لأن يتجرأ المرء على السير وراء أحلامه مهما بدت غريبة للآخرين. في حكاية ساراماغو، وحين يقول الحاكم للرجل الذي جاءه يسأل قارباً “إنَّ الجزر كلها موجودة في الخرائط، وليس ثمة من جزر مجهولة”، فإن الرجل الحالم يجادله بالقول إنَّ “الخرائط تحتوي على الجزر التي نعرفها وحسب”. ثمّ يحدث أن تنضمّ عاملة التي في قصر الحاكم إلى رحلة الرجل الحالم بعد أن يظفر بموافقة الحاكم على منحه قارباً لرحلته صوب “جزيرته المجهولة”.

 ماذا لو؟

يبدو العرض في ظاهره أشبه بسرد حكائي لوقائع قصة ساراماغو نفسها، إلاّ أنّك حينما تجلس في مقعدك بين الجمهور مُستَمِعاً إلى الحكايات التي تتبادلها شخوصُ المسرحية على متن قارب أحلامهم في بحرِ رحلتهم صوبَ الجزيرة المجهولة؛ لا بدّ لك وأن تشرُدَ خلفَ لحظة تأمّلٍ في رحلتك أو رِحلاتِك أنت، يُحرِّضُكَ العرضُ، مثلما تفعله حكاية ساراماغو على أن تسأل نفسك عن مآلات أحلامها الخاصّة إذا كنتَ ممن يحلمون أو أن تقول أين أحلامي إن كنتَ من غير هؤلاء.

ما الذي يمكن أن يحصل إذا ما انبعثت أحلامنا القديمة من غيابها الطويل؟ ذلك سؤالٌ آخر تقترحه الصيغة المسرحيةُ للقصة، هل تعود مثلما كانت، أم أنّها لا بد وأن تكون قد تغيّرت بمرور الوقت؟ وإذا ما حاولنا سردَ حكاياتنا العتيقة، هل نُعيدُ قصّها كما وقعت حقاً وكما اعتدنا على سردها دائماً أم أنّها تتغيّر هي الأخرى؟

“في معظم الأعمال المسرحية التي أنخرِطُ فيها، مثلما في هذا العمل أيضاً، أحاول أن أُفكّر مليّاً في السينوغرافيا الأنسب لفضائه المسرحية التي بين يديّ، إلاّ أنني كذلك أحاول ما استطعت أن أتجاوز الجدران المحيطة بالخشبة نحو الفضاء الحكائي الأوسع. أعتقد أنَّ جزءاً من مهمتي يتعلّق بسؤال ماذا لو؟ ينطبق هذا السؤال بنحوٍ خاص على هذه المسرحية، إذ إنّها تتعلّق بالحلم، أليس الحلم هو صيغة افتراضية للواقع المعاش، صيغةٌ في هيئة “ماذا لو؟”. تقول روزي  إلنيل التي أشرفت على تصميم ديكورات في أحد لقاءاتها الإعلامية وتضيف بأنَّ التحضير لإخراج مسرحية «الجزيرة المجهولة» انطوى على كثير من البحث والتفكير وقلّة المعرفة حتى.

“لقد تعيّنَ عليّ أن أبحث بين الكثير من صور الأبطال الكلاسيكيين وأراجع وثائق عن عروضٍ مسرحية منذ الستينيات إلى يومنا هذا، كذلك عُدتُ إلى رسومات القرون الوسطى واطّلَعتُ على رسوماتٍ من أفلام الخيال العلمي والألعاب الضوئية والسّفُن التي تتعلق جميعاً بهذه المسرحية في نهاية المطاف بشكلٍ أو بآخر” تضيف روزي.

وبما أنَّ العمل يدور في أصله حول فكرة قصِّ الحكايات، يبدو أنَّ ماغدوغال وإلين ارتأتا أنَّه ليس على فضائه السينوغرافي أن يُعبّرَ عن زمان أو مكانٍ محدّدَين، بل على العكس من ذلك، أن يزيل الحدود بين الأزمنة والأمكنة كما في الأحلام، وذلك ما تؤكّده روزي إلنيل في حديثها بقولها إنّ “أشد ما حرصنا عليه هو أن يشعُر الجمهور تماماً أنَّ هذه الحكايات تدور الآن حيث هو في صالة مسرح غيت في شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2017″، ذلك هو فضاؤنا المفضّل لهذا العمل وحكاياتِه عن الأحلام. لقد دفعني التفكير في إعداد ديكورات هذه المسرحية إلى إعادة التفكير في مسلّماتي حول الكثير من المسائل الفنية ولا سيّما التفكير في أنَّ الجدران التي عادةً ما تكون داكنةً في الفضاء المسرحي لدرجة أنّ الصورة الشائعة للمسرح أصبحت تقوم على أنّه صندوق أسود. في هذا العمل بالتحديد، نظرت إلى المسرح كفضاءٍ ملوّن، كمساحةٍ لمُشاركة الحكايات”.

صندوق أزرق بلون البحر

أحالت روزي إلنيل مسرح غيت الصغير نوعاً ما إلى صندوق أرزق بلون البحر، وفيما تجلس بين الجمهور، تشعر نفسك نقطةً في محيط الحكايات الكبير، يتعزّز شعورٌ كهذا بفعل الاتساع المحيطي الذي لحكاية ساراماغو واللون “التوركوازي” أو الفيروزيّ  الذي اختارته إلنيل لتضع في وسطه قاربَ الحكاية النبيذي وهو يمخُرُ عباب السيرةِ قاصداً الجزيرة المجهولة “التي لم يعرفها أحدٌ من قبل” كما يقول مسافر ساراماغو لحاكم المدينة.

وبدورها تساعد الموسيقا المرافقة للعمل في خلق ذلك الإيحاء المغامراتيّ الذي نجده في عوالم القراصنة. أمّا على الخشبة فنجد طاقماً من أربعة حكّائين إذا ما جاز القول، يرتدون حِلَلاً قرمزية وأرجوانية وخمرية اللون على التوالي، ثمّ يبدأون في سردِ حكايةٍ عن “حكايةِ رجلٍ وقارب”.

يقولون في حكايتهم إنَّ الرجل -الذي يُكتَفى بالإشارة إليه كرجل دون أن يكون له اسم- سأل الحاكم أن يعطيه قارباً يسافر به إلى الجزيرة المجهولة، إلاّ أنَّ الحاكم اعترض على عبارة “الجزيرة المجهولة” قائلاً إنَّ الجزر كلها على الخرائط وليس ثمّة من جزيرة مجهولة فقد اكتشف رجاله الجزر كلّها! لكنّ الرجل الحالم يجيب قائلاً إنّ “الجزُر المجهولة” وبحكم تعريفها ليست موجودةً في الخرائط مما يدفع بالحاكم في نهاية المطاف إلى أن يمنح الرجل ما يسأله ليشرع الأخير في رحلته صُحبَةَ شريكةٍ جديدة ليست سوى عاملة النظافة في قصر الحاكم (كما في حكاية ساراماغو نفسها) والتي ألهمتها الحكاية التي قصّها الرجل على الحاكم فانتبهت هي الأخرى إلى حلمها وقررت أن تُبحِرَ خلفه.

تبرز وظيفة الرحلة في الأدب منذ كلاسيكاياته العريقة، منذ أوديسّا هوميروس مروراً بجزيرة ساراماغو المجهولة وصولاً إلى مسرَحَتِها على خشبة مسرح غيت. تُهيء الأسفار فضاءاتٍ مشرعة على التساؤل والتفكير والحلم، وإذ نتقدّم في رحلتنا فإنّ أسئلتنا تتقدم وتتطوّر هي الأخرى، من سؤال الفردِ عن هويته وكينونته الذاتية إلى سؤاله عن العالم الأكبر الذي يحتويه. من أنا، ثم من العالم، ومن أنا في العالم. لعلّها تلك هي الرسالة التي تصِلُكَ وأن تجلس في مقعدك بين جمهور حكاية “الجزيرة المجهولة”.

-أيّ جزيرة مجهولة تلك التي ستُبحر باحثاً عنها؟

إذا ما كان لي أن أخبرك فإنّها لن تكون مجهولةً، تلك الجزيرة..

-تبتغي الذهاب باحثاً عن الجزيرة المجهولة، لأنّ شيئاً آخر ربما يكون في مكانٍ ما هناك،
ولأنّك تريد أن تعرف من تكون هناك،

-تسألُ الملكَ قارِباً دون أن تعلم أين تمضي ولا كيف تُبحِر
مع ذلك، اطمئنّ فلن يخيب رجاؤك.

تلك هي الكلمات التي اختارتها إلين ماكدوغال -بتصرّف- من قصة “الجزيرة المجهولة” للبرتغالي المبدع خوسيه ساراماغو لتكونَ في نُبذةِ ملصَقِ المسرحية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *