أنطونان أرتو: لو أن باستطاعتي أن أستريح في عدَمي

كان أنطونان أرتو المولود في مرسيليا في الرابع من شهر سبتمبر العام 1896، شاعراً، وممثلاً، ومخرجاً مسرحياً، ورساماً، وفي العام 1924، انتسب إلى الحركة السوريالية، ليصبح واحداً من رموزها، مشرفاً على «مكتب البحوث السوريالية». في العام 1927، أسس مع كلّ من روجي فيتراك، وروبير ارون «مسرح الفريد جاري» ، الذي قدم مسرحيات من بينها مسرحية لبول كلوديل، وأخرى لستراندبارغ، وبعد اكتشافه للمسرح الشرقي، كتب بيانه الشهير: مسرح الوحشيّة.
وعن الرحلة التي قام بها الى المكسيك العام 1934، ألف كتاباً بعنوان: «رحلة في بلاد التراهوميراس» ، وبعد عودته من رحلة إلى ايرلندا، أدخل إلى المصحة العقلية، حيث كتب العديد من النصوص والرسائل والقصائد المهمة. ولم يغادر المصحة العقلية إلاّ العام 1946، أي قبل وفاته بعامين وكان في الثانية والخمسين من عمره.
عن الانتحار
قبل أن أنتحر أطالب بالتحقّق من ذلك، لأنني أريد أن أكون متأكداً من الموت، فالحياة لا تكون لي إلاّ بقبول قراءة ظاهريّة للأشياء ولعلاقاتها في الفكر، وأنا لم أعد أحسّ بأننيالملتقىالمتعذّر اختزاله للأشياء، الموت الذي يشفي، يفصلنا عن الطبيعة، لكنني لم أعد سوى تسلية للأوجاع حيث الأشياء لا تمرّ؟
إذا ما أنا قتلت نفسي، فليس لكي أدمّرها، لكن لكي أعيد تشكيلها، والانتحار لن يكون بالنسبة لي إلاّ طريقتي لغزوها بشراسة، وأن أقتحم كياني بعنف، وأن أتقدّم التقدم المريب من خلال الانتحار، أعيد إدخال خطّتي في الطبيعة، وللمرة الأولى أمنح للأشياء شكل إرادتي. أتخلّص من هذا التوضيب المعدل بشكل سيئ لأعضائي، والحياة لن تكون لي مجرد صدفة عبثية، فيها أفكر في ما يعطى لي لأفكر فيه، عندئذ أختار فكري، واتجاه قواي، ونزعاتي، وواقعي، أضع نفسي بين الجميل والقبيح، الطيّب والخبيث، أقرّر أن ألغي نفسي بنفسي، من دون انحناء، محايداً، فريسة لتوازن الالتماسات الجيدة والسيّئة.
ذلك أن الحياة نفسها ليست حلاّ، الحياة ليس لها أي نوع لوجود كخيار، مقبول، ومحدد… هي ليست غير سلسلة من الشهوات ومن القوى المتضادة، ومن المتناقضات الصغيرة التي تنجح أو تجهض بحسب ظروف صدفة مقيتة، الشرّ موضوع بشكل غير متساو لدى كلّ إنسان، مثل العبقريّة، مثل الجنون، الخير كما الشرّ ثمرة الظروف ومن خميرة فعّالة أكثر أو أقلّ.
بالتأكيد أمر كريه أن يخلق الإنسان، وأن يعيش، وأن يتسرب شعوره إلى أقل مصغّر، وإلى التفرّعات الأشد انعداماً للتصور لكيانه الحازم من دون تبسيط ولا اختزال.. في النهاية نحن لسنا سوى أشجار، ومن المحتمل أن يكون مسجّلاً في زاوية مّا من شجرتي العائليّة أنني سأقتل نفسي في يوم ما.
إن فكرة الانتحار نفسها تسقط كما لو أنها شجرة مقطوعة، أن لا أخلق لا الزمان، ولا المكان، ولا ظروف انتحاري، بل أنا لا أختلق حتى فكرة ذلك، فهل من المحتمل أن أشعر بلوعته؟
يمكن في تلك اللحظة أن يذوب كياني، لكن إذا ما هو تبقى كاملاً، فكيف ستتصرف أعضائي المدمرة، وما هي الأعضاء المستحيلة التي بها سأسجل التمزق؟
أحسّ بالموت يأتي إليّ مثل تيّار جارف، مثل اندفاع فوريّ لصاعقة ليس بإمكاني تصوّر طاقتها. أين هي هناك فكرة كياني؟
إنها تظهر فجأة مثل لكمة، مثل منجل من النور القاطع. لقد انفصلت إراديّاً عن الحياة، وكنت أريد أن أسير إلى عالية مصيري.
كنت أرغب في أن أن أظهر حياتي وأثبتها، أريد أن أنضمّ إلى الحقيقة الرنّانة للأشياء، أريد أن أحطّم سوء طالعي.
لم أكن أشعر بالحياة، ودوران كلّ فكرة أخلاقيّة كان بمثابة نهر نضب، الحياة لم تكن لي شيئاً محسوساً، شكلاً. لقد باتت سلسلة من البراهين والاستدلالات، لكنها براهين واستدلالات لا طائل من ورائها، استدلالات وبراهين لا تؤدي إلى أيّ نتيجة، وكانت فيّ مثل تصوّرات وتمثّلات مُحْتملة، لم يكن باستطاعة إرادتي أن تثبّتها.
حتى لبلوغ حالة الانتحار، علّي أن أنتظر عودة أناي، عليّ باللعب الحرّ لجميع تمفصلات كياني، أنا في اليأس مثلما في كوكبة من الممرات المسدودة يفضي إشعاعها إليّ، ليس بإمكاني لا أن أموت، ولا أن أحيا، ولا أن أرغب في أن أموت، ولا في أن أحيا. وكل الناس مثلي.
الحالم السيّئ
أحلامي هي قبل كلّ شيء مشروب روحيّ ، نوع من ماء الغثيان فيه أغطس وهو يتدفق بأحجار لامعة دمويّة. لا في حياة أحلامي، ولا في حياة حياتي، أصل إلى مستوى البعض من الصور، ولا أن أستقرّ في تواصلي، كلّ أحلامي من دون مخرج، من دون قصر منيع، من دون مخطط مدينة، رائحة عفونة لأعضاء مقطوعة.
أنا، بالأحرى، مزوّد بمعلومات عن فكري حتى لا يحدث أي شيء فيها يمكن أن يهمني: أنا لا أطلب إلاّ شيئاً واحداً، أن يحبسوني نهائياً في فكري.
أما بالنسبة للمظهر الملموس لأحلامي، فقد أعلنته لكم: شراب روحيّ.
أيّها الأصدقاء
ما أنتم اعتبرتموه أعمالي لم يكن غير فضلات نفسي، قشور الروح تلك التي لا يستقبلها الإنسان العاديّ.
أن يكون مرضي قد تقدّم أو تأخّر، المسألة بالنسبة لي ليست كامنة هنا، إنها في الألم وفي الانصعاق المستمرّ لفكري.
«ها قد عدت إلى «م»، (ربما يقصد مسقط رأسه مرسيليا-المترجم)، حيث استبدّت بي من جديد حالة الانكماش والغثيان ،هذه الحاجة المباغتة والجنونية للنوم، هذا الفقدان الفجئيّ لقواي مع شعور بوجع شاسع، وبتوحّش فوريّ.
لو أنه باستطاعة الإنسان فقط أن يتذوّق عدمه، لو أن بإمكانه أن يستريح جيّداً في عدمه، وألا يكون هذا العدم نوعاً من الوجود لكنه ليس الموت تماماً.
أمر قاس جداً ألا يكون الإنسان موجوداً، وأن يكفّ عن أن يكون في شيء ما، الألم الحقيقيّ هو أن أن يحسّ في نفسه أن فكره يتنقل، غير أن الفكر كنقطة ليس بالتأكيد ألماً.
أنا في النقطة التي لم أعد ألمس فيها الحياة البتة ، لكن في داخلي كلّ الشهوات ، والزعزعة الملحّة للوجود، لم يعد لي غير انشغال واحد،أن أعيد تركيب نفسي.
الشاعر الأسود
أيّها الشاعر الأسود، نهد صبيّة عذراء
يلازمك،
أيها الشاعر الحاد، الساخط، الحياة تغلي،
المدينة تحترق،
والسماء تتحول إلى مطر،
ريشتك تحكّ قلب حياتك.
غابة، غابة، عيون تزدحم
على الصنوبرات المتضاعفة،
خصلات شعر العاصفة، الشعراء
يركبون الجياد، كلاب.
العيون تطلق شرر الغضب،
الألسن تدور
السماء تتوافد على المناخير
مثل حليب مغذّ وأزرق
أنا معلق في أفواهكم
النساء، قلوب من الخلّ قاسية.
الشجرة
هذه الشجرة وحفيفها
غابة مظلمة من النداءات،
والصرخات،
تأكل القلب الحالك لليل.
خلّ وحليب، السماء، البحر،
الكتلة السميكة لقبّة السماء،
كل شيء يساعد على هذا الزلزال
الذي يعشش في القلب السميك للظلّ.
قلب يتشقّق، كوكب صلب
يتضاعف ويندفع إلى السماء،
السماء الصافية التي تنفلق
لنداء الشمس الرنان
كلها تطلق نفس الصوت
تطلق نفس الصوت،
مثل الليل والشجرة في قلب الريح.
الشارع
المقاهي التي تعج بالجرائم
تقتلع الشوارع الكبيرة.
أياد مغتلمة تحرق الجيوب
والبطون تغلي تحتها
كل الأفكار تتصادم، والرؤوس أقلّ من الحفر.
———————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ترجمة:حسونة المصباحي – الآتحاد

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *