أنا مجرّد آخر..!- أحمد الماجد 

أنا مجرّد آخر..!!
أحمد الماجد
لأننا نعيش عصر الانقضاض على كل ما هو سائد ومألوف، ولأننا بتنا إلكترونيين أكثـر من الاجهزة الإلكترونية ذاتها، ودُبلجت مشاعرنا لتتمكن من ترجمة هذا الكمّ الهائل من الانفتاح الثقافي على متغيرات العالم من خلال سهولة التواصل والوصول إلى أي شيء، أصبحت قضية المسرح والثقافات المتفرعة منه والداخلة فيه، مفروغاً منها ولا تحمل أية مفاجأة، باعتبار أننا نمارس اليوم مسرحاً تجاوز الأطر التقليدية منذ زمن، اعتمدت بنيته على فرضية المشاركة وتعددية الأشكال والآراء والأفكار والمعارف والتجارب والرؤى.
فلم يعد للمؤلف سلطته القديمة، والممثل شاب واحدودب ظهره، وحتى المخرج لم يعد بمقدوره أن يصل إلى روح المتلقي ويقتحم وجدانه دون تلك التعددية الداخلة في صلب العمل المسرحي نفسه للوصول إلى مسرح غني وعميق، إنساني وشامل، ساحر ومؤثر. فمع انهيار الحدود الحداثية استعان المسرح بالتعددية في أسلوب تناوله للعرض، علاوة على وجود عدّة ممارسات مسرحية جديدة تستخدم ما بين النص، أو ما يسمّى بثقافة الاجزاء والمقاطع، حيث يمكن استخدام عدّة نصوص في النص المسرحي الواحد، من أجل الوصول بوعي إلى رسالة إنسانية تبناها العرض، فالتعددية أقرتها صناعة المسرح نفسها، فكيف يريد البعض للمسرح ككيان متجدد أن يعود إلى قوانين وفرضيات وأشكال عفا عليها الزمن وباتت ماضياً ميتاً لا يعود.

يذكر بيتر بروك في كتابه “المساحة الفارغة” وفي محضر إجاباته عن تساؤلات تلاميذه في إحدى ورشاته المسرحية حينما سُئل عن معنى المسرح؟ فقال:” إنه فن يؤكد نفسه في الحاضر وهذا ما يجعله مقلقاً. إنه الرقعة التي تقع فيها المجابهة الحياتية، إذ يخلق اجتماع مجموعة من الناس في مكان واحد قوة كبيرة، وهي نفس القوة الموجودة في الحياة اليومية والتي يتمتع بها كل فرد والتي يمكن فرزها واستيعابها بوضوح”. فالمسرح دائماً هو “الآن وهنا”، أنت وأنا في هذه اللحظة وهذا المكان، وهي تعني أيضاً غيرنا في مكان آخر من العالم، فأنا الآخر، والآخر أنا، ولا يمكن للمسرح أن ينزلق يوماً إلى حفرة معتمة ليختزل عظمته وشموليته في فرضية “إما أنت وإما أنا”. المسرح كلنا ونحن، يحاورنا ونحاوره، يتأثر بنا ونتأثر به، في حالة من التكافل وكثير من العمل الجاد والجماعي.

التعددية التي نطمح إليها لا تؤمن بوجود حقيقة عالمية واحدة لا غيرها يجب السير وراءها والانضواء تحت لوائها، بل هي تراث مشترك للإنسانية ينهل منها من يشاء لما يشاء. فتعدد الثقافات هو من سيقترح على المتلقي أفكاراً جمالية ومعرفية جديدة مغايرة وملونة، بغض النظر عن مدى قوة انصهارها وتأثيرها في بنية المجتمع أو فكر المتلقي، باعتبار أنها طروحات قابلة للاستيعاب لا الفرض، القبول لا الرفض، توحد ولا تفرق، تعزز ولا تقوّض. المسرح الذي نريد عليه أن يستغلّ قرابته ويقتبس من أبناء عمومته السينما والتلفزيون، وأن يتوجه في خطابه كما يتوجهان إلى الجميع، أن يحرص على مشاهدة عروضه جمهور الأمريكيتين بنفس القدر الذي يحرص على مشاهدته جمهور أوروبا وبذات الشدة عند جمهور آسيا وإفريقيا.

فالعروض المسرحية لم تعد تقدم حصراً لجمع من الناس يجلسون في قاعة عرض، بل إنها تنتشر مثل العدوى إلى جميع أهل الأرض بكبسة زرّ أو أقل من ذلك عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وما توفره من إمكانات هائلة، ليعثر كل راغب على ضالته حتى لو كان في أبعد نقطة في العالم عن مكان العرض. فالتعددية والاعتراف بوجودها والقبول بها أصبحت حلاّ لا مفر من التعامل معه والتفاعل معه، إذا ما أردنا أن نصل بمنتجنا الإبداعي إلى البعيد الآخر، وإذا ما أردنا أن يكون للمسرح دوره في لملمة شتات الشعوب وتضميد الجراح التي أثخنتها الحروب في أجساد مجتمعاتنا المبتلاة بعجلة القتل التي يدور دولابها بأقسى سرعاته وأقصى ما لديه من وحشية.

إن الذهاب إلى الآخر لا يعني بأي شكل من الأشكال، مسخ هويتنا وإلغاء هوية العرض، وجعله سطحياً مفرغاً أو إرشادياً موجهاً يقف على حافة المسرح ولا يذهب إلى العمق، بل إنه يعني احترام ثقافة الآخر دون الذوبان فيها، من خلال مسرح تنقّى من نزعاته الطبقية والطائفية والعنصرية وخرج من انعزاليته المناطقية، وراح يوغل في عمق قضايا الإنسانية في أي مكان.

إن مفهوم التعددية الثقافية في المسرح ومن خلال المبادئ العالمية القائمة على الاحترام المتبادل وعدم التمييز والتسامح والفرص المتساوية إذا ما نفّذ بعقل منفتح صابر على النتائج، فإننا لن نعثر في مسرح اليوم على بديل أفضل يضمن لنا مسرحاً تفاعلياً وحياً ومؤثراً أفضل من مفهوم التعددية. العرض المسرحي واحد من حيث صورته السمعية والبصرية، أما من حيث المعنى فإنه يختلف بحسب وعي من يتلقى، فذات الشيء ووحدته لا معنى لهما إلا بتجليهما من خلال التعدد والاختلاف، وهكذا فإن العرض واحد فقط قبل عرضه على الجمهور، فإذا عرض فإنه سيصبح متعدداً ومختلفاً ومتنوعاً، باعتبار أنه مجموعة دلالات تقع في مستويات ينتجها المتلقي ويجد نفسه وسط تلك المجموعات التي لا حد لها من التشابهات والتضادات والتغيرات والتصورات، وهنا تبدأ مهمته في ملاحقة تلك الإيحاءات والتفاعل معها.

المسرح عربة اسمها اللذة، لذة الدخول إلى جديد العوالم الثقافية الأخرى، إنه عربة يتشارك فيها العارضون، ويضع فيها كل ذي بضاعة بضاعته العاكسة لهويته وانتمائه وتراثه وتاريخه وحضارته، ليعرضها وفق ما يرى، ووقت ما يرى، وكيفما يرى، وأينما يرى، لجمهور شغوف بأن يتابع ويرى، ثقافات جديدة عليه من دون المساس بمبادئه وعقيدته وتاريخه. المسرح طائر حر لن تغير معرفتنا بنوع فصيلته في استمتاعنا بتغريداته إذا ما أطرب وأبدع، ولا يمكنه العيش وحيداً حتى لو بنى عشه على شجرة من ذهب، ولن يحلق بحرية إلا بجناحين سليمين يتقوى أحدهما بالآخر.

المسرح أمّ شجاعة، صمدت بوجه كل العواصف وخرجت منها أكثر شباباً وقوة، وقد آن أوان البرّ بها والعمل على رعايتها وإسعادها، المسرح وعاء تاريخ الشعوب، ولن يجلس على عرش التأثير إلا إذا كان عادلاً، لا يدقق في اللون، ولا يعتدّ بالشكل، ولا يشغله العِرق، غنيّ بالتنوع، ينأى بنفسه عن الخِلاف إلى الائتلاف، ولا يعير أهمية للجغرافيات والخرائط.

نذهب إليه ونقف على خشبته منتشين بكامل إدراكنا وإرادتنا وثقتنا وثقافتنا وإمكاناتنا وأدواتنا وحواسّنا وعواطفنا، فهو القادر على ضبط فوضى الحياة وإعادتها إلى نصابها، وهو القادر على تذكير الإنسانية بأوعية النقاء التي خرجت منها، عبر بث أفكار التسامح والتعدد والتنوع التي جادت بها البشرية منذ صرخات الحياة الأولى، المسرح أيضاً هو القادر على كسر شوكة مريدي الظلام وإرهابهم، بالعودة الكاملة بعالمنا إلى أزمان البياض، باعتبار أن المسرح فن الإنسان، يلتصق بحميمية معه ويدافع عن وجوده ويأخذ بيده إلى منابع الصفاء ومرابع الرقيّ، ويطلق لخيالنا حرية التحليق في فضاءات ثقافية تعددية تسهم في علاج المجتمعات وتخلصها من أوجاعها وأزماتها. يقول الروسي اناتولي فاسيلييف في كلمته بمناسبة يوم المسرح العالمي 2016:

“إذهبوا إلى المسرح، واحتلوا كل الصفوف الأمامية وكذلك الشرفات، وانصتوا للكلمة وتأملوا المشاهد الحيّة، إنه المسرح قبالتكم فلا تهملوه، ولا تفوّتوا سانحة المشاركة فيه، فلربما تكون أثمن فرصة لنا أن نتشاركه في حيواتنا الفارغة الراكضة”.

* ورقة عمل مقدمة في مؤتمر باكو الدولي الرابع للمسرح، أذربيجان 7 – 8 نوفمبر 2016 تحت عنوان “المسرح والتعددية الثقافية”.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *