أسرار الرقابة المسرحية – (الجزء الأول)بقلم د. سيد علي إسماعيل

في عام 19977 نشرت كتابي (الرقابة والمسرح المرفوض) – بالهيئة العامة للكتاب – وكان مخصصاً للحديث عن المسرحيات التي تم رفضها رقابياً، دون أن تُمثل أو تُطبع، معتمداً فيه على أصول المخطوطات المسرحية، كما قُدمت إلى الرقابة من أجل الحصول على ترخيص بتمثيلها. وفي الكتاب اعتمدت على جميع التقارير الرقابية السرية، التي كُتبت حول هذه المسرحيات المرفوضة، ومن ثم مناقشة التقارير وأسباب رفض النصوص كما جاءت في التقارير، ومقارنتها بالنصوص نفسها، وخرجت بعدة نتائج من أهمها أن أغلب النصوص التي تم رفضها، كانت جديرة بأن تُمثل وتُعرض على الجمهور المصري، حيث إن أسباب رفضها كانت أسباباً سياسية أو شخصية، أراد من ورائها المسئولون منع وصول آراء الكُتّاب وأفكارهم إلى الجمهور! وفي ختام الكتاب، أوضحت إن الرقابة على المسرحيات تحتاج منّا – ومن المسئولين عن المسرح المصري – إلى وقفة متأنية؛ حيث إن هذا الجهاز الخطير، هو الذي يتحكم في ثقافة الشعب المصري، كما يحكم على فكر جميع المبدعين المسرحيين المصريين. وهذا التحكم أو الحُكم يأتي إما من خلال قانون صارم وثابت لا يتناسب مع ما يتحكم فيه، أو يحكم عليه من فكر بنّاء مُتغير، أو من خلال رقيب غير مؤهل؛ كي يتحكم أو يحكم على فكر وإبداع صفوة المثقفين والمبدعين المسرحيين المصريين! ثم تساءلت: ما هو الحل الأمثل لذلك كله؟ الحل يتمثل في أحد أمرين: الأول، إلغاء الرقابة المسرحية نهائياً، وهذا الأمر ليس جديداً، فقد نادى به بعض المثقفين والمشتغلين بالمسرح منذ عام 1928. ومن الواضح أن هذا الأمر بعيد كل البعد عن التنفيذ في الوقت الحالي، بدليل أن الدعوة إلى إلغاء الرقابة ظلت طوال هذه الفترة دون تنفيذ! لذلك لم يبقَ سوى الأمر الثاني، وهو الإبقاء على وجود الرقابة المسرحية؛ ولكن بعد القيام ببعض التغييرات، أملاً في الوصول بها إلى المستوى المطلوب، والمُرضي لكافة الأطراف. وهذه التغييرات – من وجهة نظري – لا بُدّ أن تتجه نحو القانون والرقيب ولجان القراءة .. هكذا اختتمت الكتاب، الذي أحدث ضجة في حينها بوصفه أول كتاب منشور في العالم العربي عن الرقابة المسرحية مدعوماً بالتقارير الرسمية السرية! ومن الجدير بالذكر أن هناك نصوصاً وتقارير رقابية أخرى كثيرة، لم أستخدمها في هذا الكتاب؛ لأنها تتعلق بالنصوص المقبولة رقابياً في فترة ما، ومن ثم تمّ رفضها بعد ذلك لأسباب سياسية أو اجتماعية. والعكس صحيح، بمعنى وجود تقارير تتعلق بالمسرحيات التي رُفضت رقابياً في وقت ما، ومن ثم قبلت في فترة لاحقة، بالإضافة إلى تقارير متناقضة أمام النص المسرحي الواحد … إلخ التقارير الرقابية، التي بها من الطرافة الشيء الكثير، وبها من التناقض بين الرقباء الكم الأكبر، وبها من الأسرار الأدبية والثقافية والسياسية ما يجعل القارئ يُعيد التفكير في أمور كثيرة، وفي حقائق أكثر! فإلى اللقاء مع أول حلقة من سلسلة أسرار الرقابة المسرحية.

مسرحيات أحمد المسيري 1928 (2)
أحمد المسيري مسرحي إسكندراني، هوى التمثيل عام 19122، وبعد حصوله على الإبتدائية ألف فرقة مسرحية صغيرة جوّالة، تعتمد في عروضها على الارتجال. وهذه الفرقة عرضت عروضها على مسرحي بالاس وليفونتي بالإسكندرية. وفي عام 1920 انتقل المسيري بعروضه إلى دمنهور ففاز بإعجاب جمهورها، ومن ثم انتقل إلى مسارح روض الفرج، واشتهر فيها بإسكتشاته الغنائية، التي قام بتأليفها وتلحينها. وفي عام 1928 تقدم المسيري إلى محافظ الاسكندرية بطلب الترخيص لفرقته بتمثيل المسرحيات الآتية على مسرح الكونكورديا: (حرامي الفراخ، واللوكاندة المسحورة، وشايب وعايب، والكداب). فقام مدير المطبوعات برد المسرحيات إلى المحافظ مصحوبة بخطاب، قال فيه: ” نتشرف بإعادة هذه الروايات بأمل التفضل بالتنبيه على صاحبها بإعادة كتابتها على الآلة الكاتبة، أو بخط واضح على الكربون وتقديم كل رواية في كراسة خاصة، كما تقتضي بذلك التعليمات”، فقام المسيري بتنفيذ التعليمات، وتم التصريح بتمثيل مسرحيتي (اللوكاندة المسحورة، والكداب)؛ أما مسرحية (شايب وعايب)، فكتب الرقيب (فرنسيس أفندي) تقريراً وافق فيه على تمثيلها، أما رئيسه المراجع – الرقيب الأول – عبد الحميد خضر، فكتب تأشيرة مخالفة في 27/4/1929، قال فيها: ” قرأت هذه الرواية وأرى عدم الترخيص بتمثيلها لما اشتملت عليه من الألفاظ السمجة، والمعنى الساقط، وعدم احترام البنت لأبيها، وتهزيئه، والسخرية به”. وأمام هذا التناقض بين الرقيب ورئيسه، تحول الأمر إلى مدير القسم الجنائي، فكتب مذكرة فاصلة، قال فيها: ” لحضرة المراجع العذر في عدم الموافقة على التصريح بتمثيل هذه الرواية؛ إذ اعتقد بأن الفتاة تزوجت بخطيبها رغم إرادة والدها مما لا يتفق مع سمو الأخلاق والعادات المألوفة؛ إلا أنه قد يمكن اعتبار تصرف الفتاة في هذه الرواية ضرباً من ضروب الحيل للوصول إلى بغيتها (الزواج)، وهو في ذاته حق شرعي، لذلك لا أرى مانعاً من التصريح بتمثيلها. أما عن ضعف الرواية فالخطأ يرجع إلى مؤلفي مثل هذه الروايات ولا بُدّ من أن يمضي وقت طويل حتى نصل إلى الحالة التي تنشدها اللجنة “. وبهذا الرأي الفني النقدي نالت المسرحية التصريح بتمثيلها. أما مسرحية (حرامي الفراخ)، فقد طالب الرقيب فرنسيس بحذف نصف الفصل الثاني؛ لأن به ” امرأة تتوجع من آلام الوضع، فهو ليس مما يتفق والآداب “. أما الرقيب الأول عبد الحميد خضر، فقد رفض المسرحية في تقريره، قائلاً: ” أرى عدم الترخيص بها لأن الموضوع تافه، والمعنى سخيف لا يحسن عرضه؛ لما به من الاستهانة بالزوجية، والحياة العائلية. وفيها فصل يمثل امرأة تلد، وتتوجع من الألم، وهو مما لا يحسن عرضه”. وبناء على ذلك تم منع المسرحية، لأن الرقيب تدخل في الموضوع بصورة نقدية فنية، وهذا التدخل – للأسف الشديد – لم يستمر بعد ذلك، وإلا لكان للمسرح المصري – وقيمته الفنية والأدبية – شأن آخر!!

وساطة الداخلية لعرض شجرة الدر (3)
عزيزي القارئ .. لن تصدق إذا قلت لك إن مسرحية (شجرة الدرّ) لعزيز أباظة، التي عرضتها الفرقة القومية بدار الأوبرا الملكية في أكتوبر 1950، وثائقها الرقابية بلغت أربعين ورقة رسمية، تصلح للنشر في كتاب مستقل!! أما أسرار ما جاء في هذه الوثائق، فتتمثل في منع الرقيب عبد السلام وفا هذه المسرحية؛ لأنها تدعو إلى الفتنة السياسية، وتشجع الجيش على قيام بثورة لخلع الملك، مستخدمة التاريخ رمزاً لذلك، قائلاً: لا يجوز التصريح بتمثيل رواية مسرحية تطلع عليها الجماهير وفيها ثلاثة تيجان تهوى. وحوارها يصور عروشاً تترنح وجيشاً ثائراً وشعباً تغلي مراجله. وبالمسرحية سلسلة مؤامرات من قادة الجيش ومن زعماء الشعب، والملوك بين هؤلاء وهؤلاء هدف مستمر لتلك الضربات التي تتركهم في النهاية صرعى بين تصفيق الجماهير!! وما جاء في هذا التقرير يُعدّ إرهاصاً ثقافياً لقيام ثورة 1952!! وفي تقرير ثانٍ أوصى الرقيب عبد الحميد بحذف أبيات شعرية كثيرة، وتغيير كلمات أكثر، تمسّ الذات الملكية بصفة عامة، ولم يقطع الرقيب بتصريح التمثيل أو منعه!! أما الرقيب الثالث حسن الفقي – رئيس القسم – فكتب تقريراً بالمنع بناء على التقرير الأول، ولم يوافق على ما جاء من حذف في التقرير الثاني حفاظاً على القيمة الأدبية للمسرحية. هذا الرفض كان مفاجأة لعزيز أباظة، الذي كتب خطاباً إلى مدير الرقابة عبد الباسط الحجاجي فند فيه مزاعم الرقباء!! فقام المدير بتشكيل لجنة لبحث الأمر مع المؤلف، مع تأجيل التمثيل بضعة أيام. انتهى الاجتماع وكتب عبد المنعم شميس تقريراً بجواز التمثيل شريطة أن يقوم المؤلف بتبديل بعض الكلمات مع حذف وتغيير بعض المواقف! وبذلك نالت الفرقة التصريح، وتم العرض يوم 21/10/1950، ولكن الرقيب المكلف بمراقبة تمثيلها كتب تقريراً أثبت فيه أن الفرقة لم تلتزم بملاحظات الرقابة أثناء التمثيل، وأنها عرضت المسرحية كما كُتبت دون تغيير!! فطلب مدير الرقابة من رئيس القسم حسن الفقي الذهاب إلى دار الأوبرا وكتابة تقرير عما يحدث فيها، فكتب الآتي: ” إن جميع التعديلات التي تقررت بصفة نهائية، وجميع الأبيات التي حذفت لم تلاحظها الفرقة على الاطلاق. ومن الأسف أنه حتى تلك الأبيات التي اتفق معنا سعادة المؤلف على حذفها – بل حذفها بيده – قد ألقيت على المسرح. فأرجو الاتصال بالقائمين على شئون الفرقة فوراً ولفت نظرهم – بطريقة رسمية – كفرقة مسرحية إلى أن القانون والواجب يحتمان تنفيذ تعليمات الرقابة تنفيذاً دقيقاً، ولا سبيل إلى التلاعب أو التهاون أو التقصير في تنفيذ تلك التعليمات”. وتفسير هذا الأمر جاء في خطاب مكتوب عليه (سري)، به الآتي: ” إن سليمان بك نجيب مدير الأوبرا اتصل بسعادة حسن يوسف باشا رئيس ديوان جلالة الملك للتوسط لدى معالي وزير الداخلية لإبقاء الحال على ما هو عليه وعدم حذف شيء من الرواية، فأخطرهم سعادته بأن يمثلوا الرواية كما هي بدون حذف حتى يخطر سعادته اليوم ويراها بنفسه وحينئذ سيقرر ما يراه سعادته بعد مشاهدة الرواية شخصياً”. وهكذا نجد التناقض الرقابي بين الرقباء، واختلاف وجهات النظر، ومدى تدخل الوساطة والمحسوبية في الفن المسرحين حتى ولو كانت الفرقة العارضة هي الفرقة القومية المصرية، وكان المكان دار الأوبرا الملكية، وكان المؤلف عزيز باشا أباطة!!

يوسف وهبى كاتباً والرقيب مؤلفاً (4)
قدّم يوسف وهبى مسرحيته (بنات الريف) إلى الرقابة يوم 21/1/19366، من أجل التصريح بتمثيلها بعد يومين فقط، فكتب الرقيب تقرير رفض للمسرحية؛ لأن اسمها يوحي بأن بنات الريف يضحون بعفافهن بسهولة، وهذا عكس الحقيقة، كما أن المسرحية تُشوه صورة رجال القضاء كما حدث مع بطل المسرحية رئيس محكمة الجنايات القاضي محسن!! أما الرقيب الثاني فصرّح بالتمثيل شريطة حذف الصفة القضائية عن بطل المسرحية، مع حذف بعض المواقف. وجاء موعد التمثيل ولم تُعرض المسرحية، فشكلت الرقابة لجنة لبحث الأمر، وانتهت في يوم 27/1/1936 إلى التصريح بالتمثيل بعد حذف ” كل المنظر الخاص بمطالبة أهل (ستيتة) بالانتقام لشرفهم واعتدائهم عليها بالقتل أو أي منظر أو أي حديث يستفاد منه ولو ضمناً أنهم قد وصلوا لغرضهم بقتلها”. فاضطر يوسف وهبي مرغماً لتعديل مسرحيته وفقاً لأوامر الرقابة، وعرضت المسرحية بصورة مغايرة للنص الأصلي، وكتب الرقيب إسماعيل مهنا تقريراً – إلى وكيل إدارة الأمن العام ورئيس لجنة الرقابة الأدبية – بعد رؤيته للعرض، قال فيه: ” شاهدت تمثيل رواية (بنات الريف) فوجدت أن الفرقة قد قامت بتنفيذ قرار اللجنة الخاص بهذه الرواية بكل دقة. وقد تم تعديل الفصل الرابع كالآتي: يرى المشاهد في أول هذا الفصل منظر حيّ من أحياء الدعارة ويأتي بطل الرواية إلى هذا الحيّ باحثاً عن (ستيتة) فيقابلها ويستعطفها حتى تصفح عنه وتقبل العيش معه كزوجة له وتواعده على اللقاء بميدان الخازندار بعد قليل. ويتلو ذلك حضور والد الفتاة وابن عمها وخطيبها السابق باحثين عنها كذلك فإذا ما قابلوها دار بينهم وبينها حديث لوم وعتاب ينتهي بالاتفاق على عودتها معهم إلى البلدة في الريف. وبينما هم في انتظارها للعودة معهم إذ يحضر بطل الرواية ثانية للسؤال عن ستيتة نظراً لتأخرها عن اللحاق به وهناك يقابل أهل الفتاة فيوضح لهم أنه هو الذي اعتدى على عفافها وأنه سبب شقائها وأنه قد عزم على التكفير عن ذنبه بالعيش معها واتخاذها زوجة له. وبينما هم كذلك إذ يسمعون صراخ ستيتة فيسارعون إليها ويتبين أنها قد تناولت سماً بقصد الانتحار ثم تموت بعد قليل”. وبعد أيام شعر يوسف وهبى بأن الرقابة قهرته وأجبرته على تأليف مسرحية رقابية، لا مسرحية فنية أدبية، فكتب إلى رئيسها تظلماً قال فيه: ” ارتأت اللجنة حذف بعض مواقف من الفصل الرابع، وقد أدى هذا إلى كثير من الاضطراب في مغزى الرواية ومعناها ومقصدها. وإني قصدت بهذه الرواية الدفاع عن العرض والفضيلة ومحاربة الرذيلة كما جرت العادة في كل رواياتي. وقد أسفت جد الأسف على ما لحقني من الظلم الفاحش بلا مبرر! فقد ألفت الرواية لأحارب الإجرام، لا لأن أنتصر لعادات القتل والذبح كما توهمت اللجنة. وإني رغم خضوعي لأمركم وإخراج الرواية مبتورة أتقدم إليكم راجياً رجاءً حاراً أن تعيدوا النظر بأسرع وقت ممكن في دراسة المشاهد المحذوفة”. وللأسف هذا التظلم رُفض في 30/1/1936 واستمر عرض المسرحية كما أرادت لها الرقابة من تأليف رقابي لا تأليف فني أو أدبي!!
زوزو نبيل رقيبة مسرحية!! (5)
منذ أكثر من ستين سنة كان هناك فرقة مسرحية اسمها فرقة المسرح الشرقي، ومقرها 588 شارع الجمهورية بالقاهرة، وهي فرقة مؤلفة من خريجي المعهد العالي لفن التمثيل!! هذه الفرقة قررت تمثيل مسرحية (مين كان يصدق) تأليف فريد عبد العزيز وكمال كامل، وهي مسرحية تدور حول رجل متزوج من امرأتين في منزل واحد، وما يترتب على هذا الجمع من مشاكل اجتماعية وأخلاقية وأسرية، لا سيما في مجال الغيرة ومشاكل الأبناء والبنات المنتمين لكل زوجة، مما يضطر الزوج إلى الهرب من البيت، ومحاولة كل زوجة البحث عنه من أجل استمرار الحياة، وبعد عناء تعترف كل زوجة بأنها السبب في هروب زوجها بسبب مشاكلها، وفي الختام يعود الزوج بعد تعهد كل زوجة بأنها لن تصنع المشاكل مرة أخرى. وقد حددت الفرقة عرض المسرحية عرضاً خاصاً يوم 28/6/1958 بمسرح القاعة المرقسية بشارع رمسيس، احتفالاً بعيد الأضحى المبارك. وبعد أيام من تقديم طلب الترخيص إلى الرقابة؛ كتب الرقيب (نجيب سرور) – الكاتب المسرحي المعروف – تقريراً بالموافقة على التمثيل قال فيه: ” تعدد الزوجات هو الخط الرئيسي في المسرحية، ولكنه خط ضائع في زحمة التفاصيل والتهريج والمواقف الهزلية المسفة المبالغ فيها. ولا مانع من الترخيص بالتمثيل لهذه المسرحية بشرط حذف العبارات المحددة في الصفحات”. كما وجدت تقريراً آخر موقعاً من الفنانة زوزو نبيل – بوصفها رقيبة مسرحية – قالت فيه: ” مسرحية هزلية تافهة ليس لها هدف اللهم إلا إذا كان المؤلف يقصد بأنه يحارب تعدد الزوجات فطاحت الفكرة من رأسه وعاد وبرّر تعدد الزوجات بالحوار، وهو ما جاء على لسان الزوجة في ختام المسرحية، وهي الجملة المشار إليها بالملخص (يوه يعني إحنا عملنا اللي ما بيعملوش حد ما كل الضراير كده)! كان يقصد المؤلف بأن تكون المسرحية فكاهية ولكنها عبارة عن مشاهد (شردحة) بألفاظ نابية وأفكار بالية، وترجع بالمسرح المصري إلى الوراء أيام إن كان مرتجلاً وإذا حذفت كل هذه المشاهد لم يعد هناك ما يدّعي المؤلف بأنها مسرحية. وطالما إن قانون الرقابة لا يجيز مصادرة المؤلفات إلا في حالات معينة فأرى التصريح بعرضها عرضاً خاصاً كما هو وارد بالطلب، ولا يسمح بعرضها عرضاً عاماً لهبوط مستواها الفني”. وإذا أردنا مقارنة التقريرين ستكون المقارنة ضد نجيب سرور، وفي صالح زوز نبيل، التي كانت رقيبة مستنيرة .. رقيبة ناقدة من الدرجة الأولى!! وأهم ما جاء في تقريرها اعترافها بأن هناك حالات معينة لمصادرة المسرحيات، وهذه الحقيقة يعلمها جميع الرقباء؛ ولكنهم لا يعترفون بها رسمياً، لعدم وجود تعليمات رسمية بذلك، بل ولا يوجد في القانون نصوص صريحة على مصادرة المسرحيات، ولكنها تعليمات شفاهية يتناقلها الرقباء فيما بينهم، وكأنها ميراث روتيني يجب انتقاله وتنفيذه من جيل إلى جيل دون وجود حقيقي له! فتعليمات الرقابة المسرحية عبارة عن شبح الكل يهابه وينفذ أوامره دون أن يراه أو يمسك به!!

إلى الوراء عشرة أعوام (6)
نشر الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس مسرحيته (مغامرة رأس المملوك جابر) عام 19700. هذه المسرحية لم تُعرض في مصر – حسب علمي – إلا عام 1981 من خلال كلية طب الأسنان في مسابقة المسرح الجامعي، وقد نشرت مجلة المسرح مقالة عنها في يولية من العام نفسه. والوثائق الرقابية تكشف لنا مفاجأة مجهولة، تتمثل في أن المسرح القومي كان ينوي عرضها في مصر ضمن التبادل الثقافي بين مصر وسورية في عام 1971، أي قبل عرضها المعروف بعشرة أعوام!! ففي يونية 1971 كتبت الرقيبة ثريا الجندي تقريراً بالموافقة على عرض المسرحية قائلة: ” تدخل هذه المسرحية ضمن اتفاقية التبادل الثقافي بيننا وبين سورية، ومؤلفها من المؤلفين الذين يدعون إلى هذا الاتجاه الواقعي من المسرح، ويحاول خلال تلك المسرحية أن يتوجه بحديثه مباشرة إلى الجمهور ويتهمه بالسلبية ويدعوه للتخلص منها والمشاركة في كل ما يقع من أحداث في بلاده. والمسرحية على أي حال تجربة جديدة في المسرح العربي جديرة بالرعاية والتشجيع وأرى الموافقة على عرضها”. أما الرقيبة شكرية السيد فقد كتبت تقريراً بالرفض؛ قالت فيه ” المسرحية تظهر عامة الشعب في حالة من السلبية واللامبالاة بالأحداث، لا يهمهم إلا الحصول على كسرة الخبز، وشعارهم في ذلك (من يتزوج أمنا نناديه عمنا). ونظراً للظروف الحاضرة أرفض عرض المسرحية حتى لا يُساء فهم مضمونها”. أما الرقيب محمد عمرو فكتب تقريراً بتأجيل العرض، قائلاً: ” إن المسرحية بصورتها الراهنة لا تصلح للعرض في هذه الظروف السياسية التي تجتازها بلادنا، وأرى تأجيل عرضها الآن خاصة وأنه كان يوجد خلاف في قيادة البلاد، ولكن الله سلم”. وأمام هذه التقارير المتنوعة بين القبول والرفض والتأجيل، تشكلت لجنة للبت في الأمر، وانتهى تقريرها بأن المسرحية تسير في خطين، أولهما درامي عن قصة المملوك وتبليغه رسالة الوزير وحلق شعره .. إلخ، والخط الآخر سياسي يدور حول الخلاف بين الخليفة والوزير، لذلك رأت اللجنة الاهتمام بالخط الدرامي، وإغفال الخط السياسي، وطلبت من المشرف على المسرح القومي (سعد أردش) بأن يقوم بهذا التعديل بالاتفاق مع المؤلف!! وفي يوم 17/6/1971 أرسلت مديرة الرقابة اعتدال ممتاز خطاباً إلى سعد أردش قالت فيه: ” بشأن طلب الترخيص بعرض مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) للكاتب السوري سعد الله ونوس، نفيدكم بأنه تدعيماً للعمل على زيادة التبادل الثقافي بين الكُتّاب العرب، وتشجيعاً لهم على تقديم إنتاجهم في مصر. وبناءً على الاتفاق الذي تم بين الرقابة وبينكم والخاص بالتركيز على الخط الدرامي الخاص بمغامرة رأس المملوك جابر. نرجو التكرم بالتنبيه باتخاذ اللازم وإفادتنا وفقكم الله وسدد خطاكم لما فيه خير مصر والعروبة”. وحتى الآن لا نعلم كواليس هذا الموضوع!! فهل قام سعد أردش بالتغيير ولم يوافق عليه ونوس؟! أم أن المؤلف لم يوافق على التغيير أصلاً؟! أم أن الظروف السياسة أوقفت المشروع برمته!! ومهما كانت الحقيقية، التي ربما تظهر في يوم ما .. فإن مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) كانت ستعرض قبل عشرة أعوام من عرضها المعروف والموثق .. وهذا من الحقائق المسرحية المجهولة!!

الرقابة ترفض نصاً أجازته من عشر سنوات!! (7)
في عام 19800 تقدمت شركة مصر لصناعة الكيماويات بطلب إلى الرقابة المسرحية من أجل الترخيص لها بتمثيل مسرحية (شي لله يا بو زعيزع) تأليف فهيم القاضي، فكتبت الرقيبة نجلاء الكاتب تقريراً برفض المسرحية قالت فيه: ” مسرحية ليس لها هدف، ولا مضمون، وتحمل أفكاراً إلحادية، تهدف إلى السخرية من أولياء الله الصالحين، كما أنها مليئة بعبارات تذرئ بكرامة العقيدة الإسلامية، ولهذه الأسباب أرى عدم الترخيص بعرض هذه المسرحية”. كما كتبت الرقيبة فايزة الجندي تقريراً ثانياً رفضت فيه المسرحية أيضاً، قائلة: ” المسرحية سخرية واستهزاء وتشويه لصورة الأضرحة والأولياء، فما هي إلا مركز للشعوذة والأحجبة والعبث بحيث تلغي العقول والتفكير، وتسلب الإرادة، وتسير الإنسان حسب أهواء هؤلاء الأولياء وأتباعهم. كذلك هي تشكيك في صحة وجود الأولياء وما يتبعه من زيف وتزوير، لذا أرفض الترخيص بأداء المسرحية”. وهكذا حكمت الرقابة على عدم تمثيل المسرحية عام 1980، ومن يقرأ التقارير وتبرير الرفض، يعتقد بأن الرقابة كان رأيها سديداً في هذا الشأن!! الغريب في الأمر، بل والعجيب .. أن هذه المسرحية تمّ تمثيلها بالفعل عام 1969!! أي قبل رفضها رقابياً بأكثر من عشرة أعوام!! فقد مثلتها فرقة المنصورة المسرحية من إخراج حسين جمعة، وكتب عنها محمد بركات في مجلة المسرح (يونية 1969)، وقال عن عرضها إنه أفضل عروض الأقاليم في عام 1969!! والطريف أن هذه المسرحية كانت أول مسرحية تعرض للمؤلف فهيم القاضي على خشبة المسرح!! وكانت من تمثيل: أحمد العدل، إبراهيم عبد الرازق، عبد الله عبد العزيز، إبراهيم الدسوقي، فتحية طنطاوي، نادية طنطاوي. والجيد في الأمر أن محمد بركات اختتم مقالته بقوله: “لقد عشت أيها السادة سهرة ممتعة مع فرقة من فرق الأقاليم ومؤلف جديد .. سهرة طربت فيها طرباً حقيقياً لا زيف فيه ولا خداع .. مسرحية (شي لله يا بو زعيزع) التي أمتعتني وأسعدتني سعادة لم ألتق بها على طول وعرض مسرحيات الموسم القاهري العظيم”!! ومن الغريب أن هذه المسرحية عُرضت مرة أخرى عام 1970، حيث قدمتها فرقة المنصورة المسرحية أيضاً في مهرجان فرق الأقاليم المسرحية في دورته الرابعة. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف ترفض الرقابة نصاً أجازته قبل عشر سنوات، على الرغم من أن الموانع الرقابية في النص هي هي في عام 1969 وفي عام 1980؟!! ومن الأمور اللافتة للنظر أن الرقابة عندما ترفض أو تجيز نصاً سبق تقديمه إليها، كانت تكتب في التقرير النهائي أن النص سبق وأن أجيز فتجيزه، أو أن النص سبق ورفض فترفضه بناءً على التقارير السابقة!! ولكن حالتنا هذه حالة خاصة ومحيرة!! والاحتمال المقنع أن المسرحية مثلت أول مرة دون عرضها على الرقابة، أو دون التصريح لها من قبل الرقابة، وهذا أمر يستحيل حدوثه، والاحتمال الآخر أن الرقابة لم تهتم بالرجوع إلى سجلاتها أو أرشيفها للتأكد من تقديم النص من قبل، حيث إن الفرقة العارضة هي فرقة من هواة العاملين في إحدى الشركات، لا سيما وأن الرقابة عندما ترفض النص ترفضه بصورة تعسفية دون إعلام المؤلف أو المخرج بأسباب الرفض؛ لأن التقارير كلها سرية ولا يطلع عليها أحد!!

ميراث الريح بين العرض الفعلي والرفض الورقي (8)
نشرت مكتبة الفنون الدرامية في مصر ترجمة مسرحية (ميراث الريح) لأول مرة في ديسمبر 19611، وهي من تأليف روبرت لي، وجيروم لورانس. وبعد أكثر من عشرين سنة تقدمت الثقافة الجماهيرية بمحافظة الشرقية بطلب إلى الرقابة لتمثيلها في ديسمبر 1982، فكتبت الرقيبة لواحظ السيد تقريراً بالموافقة لأن المسرحية تناقش أهمية العلم والتطور. كما وافقت أيضاً الرقيبة شكرية السيد على عرض المسرحية لأنها من المسرحيات الفكرية العميقة التي تناقش ماهية العلم وماهية العقيدة وأن حق التفكير مكفول للجميع، كما أن المسرحية أذيعت كثيراً في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية. أما الرقيبة فايزة الجندي فكتبت تقريراً برفض المسرحية لأنها تشتمل على فقرات كثيرة من الإنجيل، وهي فقرات تتعارض مع القرآن في وحدانية الله وفي خلقه السموات والأرض في ستة أيام. وبسبب التناقض في التقارير بين الرفض والقبول، تشكلت لجنة رقابية أخرى، ومنها كانت الرقيبة سلمى عبد القادر التي رفضت المسرحية لأنها تدور حول التشكيك في قدرة الله في خلق الإنسان، وتدعو إلى نشر نظرية دارون. أما الرقيبة نبيلة حبيب فوافقت على النص، وفي الوقت نفسه رفضه الرقيب فتحي مصطفى عبد الرحيم لأنه يهاجم المعتقدات الدينية. وجاء التقرير النهائي برفض النص في 11/3/1983، وعلق رئيس اللجنة في تقريره على الرفض قائلاً: ” هذه المسرحية سبق وأن رفضت مراراً، ولا أدري لماذا يختار بعض الأناس أن يعرضوا مسرحية يقال فيها أن الإنسان أصله قرد وتطور إلى إنسان؟! ولما كان من الثابت من الناحية العلمية ما ينفي هذه النظرية علمياً في علم الأجنة من أن الأجناس تتوارث جيلاً بعد جيل ولم يظهر في عصرنا الحاضر أية دلالة على أن قرداً ظهرت عليه علامات التحول أو التطور إلى إنسان. وأيضاً من الناحية الدينية لم يأت القرآن بأي نص يثبت هذه النظرية”. ولا نريد أن نتوقف عند أسباب المنع، فكلها أسباب رقابية مقبولة؛ ولكنني سأتوقف عند مقولة تقرير اللجنة بأن الرقابة سبق وأن رفضت المسرحية مراراً؛ لأن هذه المسرحية التي رفضت مراراً نالت التصريح بتمثيلها عام 1975 لمسرح الطليعة، ولظروف – ربما رقابية – تم تأجيل العرض!! وهذا ما أثبتته سجلات الرقابة! وربما يقول قائل إن الرقابة رفضتها، وبدلاً من الاعتراف بالرفض أعلن مسرح الطليعة تأجيل العرض .. ربما!! ولكن ماذا سيقول هذا القائل عندما يعلم أن كلية الحقوق بجامعة الزقازيق مثلت هذه المسرحية في مهرجان المسرح الجامعي لعام 1982؟! أي قبل أشهر قليلة من كتابة هذا التقرير الذي يدعي بأن المسرحية رفضت مراراً!! ومن الأدلة على ذلك أن المسرحية أخرجها صلاح مرعي، وكتب عنها حسن عطية – الناقد الدكتور – مقالة في مجلة المسرح عدد12 يونية 1982، وأشاد فيها بتمثيل عاطف راشد وفاتن عبد الله وفوزي إبراهيم وفريد أنطون ومحمد آدم ومنى عبد العزيز ومحمد عزت. فكيف تم عرض هذه المسرحية في مهرجان المسرح الجامعي، وبعد أشهر قليلة تم رفضها؟! والطريف أن الرقابة تؤكد – في تقريرها – أنها لم تصرح بتمثيل مسرحية (ميراث الريح) من قبل؟!

آدم وحواء وإبليس على المسرح رغم أنف الرقابة!! (9)
نشرت مجلة الجديد في عددها 31 بتاريخ 15/4/19733 إعلاناً مسرحياً قالت فيه: قريباً على مسرح البالون الكوميديا الغنائية (عريس وعروسة) تأليف بهجت قمر وإخراج أنور رستم. وهذا القريب ابتعد ولم يأت في موعده، حيث إن النص تعثر في أروقة الرقابة عندما تقدمت به الفرقة الاستعراضية الغنائية التابعة لقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية بهيئة السينما والمسرح والموسيقى بوزارة الثقافة والإعلام. فموضوع المسرحية يدور حول الشخصيات الخشبية في مخزن مسرح العرائس، حيث تمنى آدم وهو عروسة خشبية التحول إلى بشر حقيقي ليعيش عيشة البشر، وتتحقق له هذه الأمنية، فيتحول إلى إنسان ولكن لمدة يوم واحد، شريطة أن يبتعد عن الجرائم والآثام. ولكن حياة البشر للأسف كلها جرائم وآثام، لذلك يقع آدم فيها ويرتكبها في هذا اليوم، فيقرر في نهاية الأمر العودة إلى طبيعته الخشبية، وحياة العرائس لأنها أفضل من حياة البشر. هذا النص أجازته الرقيبة ثريا الجندي والرقيب فؤاد خطاب، أما الرقيب عمارة نجيب فأجاز النص بشرط تعديل النهاية، قائلاً في تقريره: ” وجوب تعديل النهاية المتشائمة المقررة لسوء الحياة الإنسانية بإضافة كلمات الأمل، التي تقرر أن حياة البشر ليست قاصرة على هذه الصور، بل هناك الخير وهناك الكفاح والعدل، علماً بأن عدم تنفيذ ذلك يجعل المسرحية غير صالحة للعرض”. أما علي الفقي، فكتب تقريراً ضد النص قال فيه: إن موضوع المسرحية شائك ومعقد، لأنه يحكي عن قصة سيدنا آدم وحواء وإبليس وخروجهم من الجنة في أسلوب درامي ساخر لا يتناسب مع مقام آدم وحواء، وليس معنى خروجهما من الجنة أن يكون من حق أي كاتب مسرحي أن يقدمهما على المسرح للجماهير في صورة بالغة البشاعة، هذه الصورة التي يأباها الدين وتنكرها الشريعة الإسلامية. وقد لجأ المؤلف إلى طريقة ملتوية وإن كانت مكشوفة حيث بنى موضوع مسرحيته على أن أبطالها عرائس خشبية. وفي رأيي أن المسرحية لا تصلح للعرض بصورتها الحالية. ولكي تكون صالحة نوعاً ما أرى استبدال أسماء الشخصيات البارزة التي أشرت إليها مثل آدم وحواء وإبليس … بأسماء أخرى مع مراعاة ذلك في الديكورات والملابس. فإن لم يتيسر ذلك أقترح إحالة الموضوع برمته إلى الأزهر لإبداء الرأي فيها من الناحية الدينية!! والمعروف إن استطلاع رأي الأزهر في مثل هذه الأمور غالباً ما يكون ضد العمل الفني، لذلك سارعت الفرقة الاستعراضية بطلب عدم البت في المسرحية لحين تقديم تعديلات على النص تفادياً لاستطلاع رأي الأزهر. وبالفعل قدمت الفرقة التعديلات المطلوبة، ونالت المسرحية التصريح المطلوب، وتم عرضها جماهيرياً، وشاهد الجمهور العرائس الخشبية التي تحولت إلى أشخاص من دم ولحم، وبدأ العرض، وفتحت الستارة عن ديكور يمثل الأرض في بدأ الخلق، حيث ظهرت في مقدمة الخشبة شجرة تتدلى منها تفاحة حمراء، ونسمع صدى صوت (آدم وحواء) يتردد من بعيد وكل منهما ينادي على الآخر .. آدم ينادي (حواء .. حواء .. حواء)، وحواء تنادي (آدم .. آدم .. آدم) وهنا يدخل (إبليس) .. وتحياتي للرقابة وتقاريرها .. فالمؤلف (بهجت قمر)!!

مجدي فرج بين الرقابة الوظيفية والرقابة النقدية (10)
أول حوار نقدي – على حد علمي – قام به الناقد مجدي فرج، كان مع المخرج السينمائي صلاح أبو سيف، نشرته مجلة الكاتب عام 1976، ثم نشرت له المجلة نفسها حواراً آخر مع كرم مطاوع عام 1978. هذه البداية في الكتابة شجعت الناقد مجدي فرج على التأليف المسرحي لأول مرة، فألف مسرحية من فصلين بعنوان (السقوط)، استوحاها من حكاية (النائم واليقظان) إحدى قصص ألف ليلة وليلة، وتقدم بها إلى الرقابة لنيل التصريح بتمثيلها عام 1978؛ ولكن الرقيبة فايزة الجندي رفضت النص وكتبت في تقريرها أن النص تجاهل إرادة الشعب في اختيار الحاكم، كما أنه يصور المملكة فاسدة فارغة من القيم، وأن الحاكم الظالم المستبد يطارد شعبه، وأن القيم والمبادئ أصبحت عملة أثرية غير قابلة للتداول. ومن المعروف أن هذه الأمور تُعد من الموانع الرقابية، لأنها إسقاط من المؤلف على الواقع – وهذه الموانع غير منصوص عليها في القوانين واللوائح الرسمية، ولكنها من التعليمات الشفاهية المتبعة داخل الرقابة في تلك الفترة – وهذه الأمور كفيلة بمنع النص من العرض. ولأن الرقيب محسن مصيلحي يعلم خفايا الرقابة ودهاليزها – وتعاطفاً مع الكاتب الناقد، ولعلمه برفض النص من قبل الرقيبة فايزة الجندي – كتب الناقد الرقيب محسن مصيلحي تقريراً بصلاحية النص للعرض، كتبه بوصفه ناقداً مسرحياً، أكثر من كونه رقيباً! قال فيه: ” وسط الجو الديمقراطي الذي نأمل جميعاً المشاركة في صنعه ونزولاً على حرية التعبير الفكري لسائر القوى الوطنية أرى الموافقة على إتمام عرض هذه المسرحية لأن السماح بعرضها سيكون مؤشراً هاماً على إعطاء حرية التعبير الفكري للجميع”. وبالمنطق نفسه – وربما بالاتفاق مع مصيلحي – كتب الرقيب محمد شيحة تقريراً نقدياً لا رقابياً بصلاحية النص للعرض، قال فيه: “لا مانع من الترخيص بعرض هذه المسرحية لأنها من الأعمال الباكرة لكاتب شاب يحتاج إلى من يأخذ بيده لا إجهاض عمله! والمسرحية ستقدم كعمل تجريبي محدود الانتشار محدود الجمهور، وأن احتواء هذه التجارب الجديدة وامتصاصها خير من رفضها وتكوين جفوة بين الفنان والرقيب لا لسبب إلا إحساس الرقيب بأن كل ما يمس الحكم أو السلطة كفكرة لابد وأنه يحمل إسقاطاً بوجه أو بآخر”! وأمام هذا الإجماع على التصريح بصلاحية النص – تقريران صلاحية مقابل تقرير واحد بالرفض – نالت مسرحية (السقوط) لمجدي فرج التصريح بتمثيلها، ولم تنجح الرقابة في إسقاط كاتبها! هذه الحقيقة – للأسف الشديد – عاطفية، والرقابة لا تعترف بالعواطف بل بالموانع الرقابية المتعسفة، دون النظر إلى الكاتب وموهبته!! وما فعله محسن مصيلحي ومحمد شيحة هو غض الطرف عن وظيفتهما كرقيبين، والاحتكام كناقدين مسرحيين إلى الموهبة المسرحية في الكتابة، مع إيمانهما بتشجيع الكتابات الشابة، وهذا هو أحد الجوانب الرقابية الإيجابية، الذي نادى به كثيرون – ولم يعترف به الجهاز الرقابي الإداري طيلة حياته – منذ نشأة الرقابة عام 1882 وحتى الآن!! فموقف مصيلحي وشيحة دفع مجدي فرج إلى كتابة نصه المسرحي الثاني (التحقيق) عام 1988، ومن ثم تألق مجدي فرج ككاتب وناقد مسرحي وشعري وتلفزيوني وسينمائي، وأصبح له مكانة نقدية مرموقة؛ لأنه وجد من يؤمن بموهبته منذ البداية.

مجدي كامل موهبة أحبطتها الرقابة!! (11)
مجموعة من شباب المعهد العالي للفنون المسرحية قدموا مسرحية (البرلمان) ضمن أنشطة المعهد، وأعدها أحدهم وهو (مجدي كامل) عن نص (برلمان الستات) لأريستوفانيس، وأخرجها هشام جمعة. وبسبب نجاح العرض تجرأ الشباب على تقديمه ضمن عروض المسرح الحديث على مسرح السلام عام 1988، فتقدم المعد إلى الرقابة من أجل الترخيص له بالعرض، فماذا حدث؟؟ رفضت النص الرقيبة فايزة الجندي لأنه يصور مجلس الشعب بصورة هزلية، ويصف أعضاءه بالجهل والغباء والتفاهة! كما أنه يسخر من النظام الديمقراطي ومن النظام العام والشخصيات العامة، ويُشهر بالمعارضة! أما الرقيبة نجلاء الكاشف فرفضت النص لأن المعد أسقط على نص أريستوفان قضايا ومشكلات معاصرة، منها: الانتخابات بالقائمة ونهب الأموال العامة وتعويم العملة المحلية والصلح مع الأعداء. أما الرقيبة لواحظ عبد المقصود فرفضت النص لأن المؤلف يدعو إلى تعميم النظام الشيوعي في الحكم، مما يؤدي إلى الفوضى وقلب الموازين الاجتماعية والسياسية! وكان أمام المعد مجدي كامل أحد طريقين: الأول التمسك بنصه وما فيه من أمور وقضايا يريد عرضها على الجمهور وبالتالي الموافقة على منع النص، والآخر الرضوخ لمتطلبات الرقابة من أجل التصريح بالنص، وخروج أول عمل له إلى النور!! ولأنه شاب واعد ولا يريد أن يحرم مجموعة الشباب من الظهور – أمثال: إبراهيم الأبيض وعلاء مرسي وسيد جبر وحسن السيد وطارق لطفي ومحمد الدسوقي وميرفت مراد وسميحة عبد الهادي ومنى أبو النجا – ارتضى المعد الأمر الآخر مرغماً، فذهب بقدميه إلى الرقابة وكتب محضراً رسمياً قال فيه الآتي: إنه في يوم الخميس 11/2/1988 حضرت أنا مجدي كامل المعد لمسرحية (برلمان الستات) المأخوذة عن نفس المسرحية لمؤلفها الأصلي (أريستوفان). وقد قمت بالحذف والاستبدال وبالتوقيع على المحذوفات والاستبدالات بالنص المقدم إلى الرقابة، حتى ترى الرقابة البروفة النهائية خالية من أي موانع رقابية!! وبالاطلاع على التقرير النهائي لمدير الرقابة لاحظت أن المعد قام بحذف وتعديل واستبدال في ثلاث وثلاثين صفحة، من مجموعة صفحات النص ال48!! أي أن النص تم تشويه ثلثيه بيد معده بناء على إجبار الرقابة من أجل التصريح بتمثيله!! ولنا أن نتصور العرض خالياً من أي مضمون أراده المعد!! فالحذف طال جميع الموضوعات التي اعترض عليها الرقباء، فماذا بقى في النص من موضوع صالح للعرض المسرحي في مصر؟!! لم يبق منه سوى ما كتبه أريستوفان عن البرلمان الإغريقي كما ألفه، لا البرلمان المصري الذي أراده مجدي كامل كما أعده بنفسه!! ومن سخرية القدر أن كتبت سامية حبيب مقالة عن هذا العرض في مجلة المسرح – العدد السادس 1988 – قالت فيه (لماذا العودة لأريستوفان؟ وما الرؤية الفنية التي يقدمها هؤلاء الشباب في أول عرض لهم على مسرح الدولة؟) وقد حاولت الكاتبة بكل مهارة كتابية ونقدية أن تقنع نفسها أولاً والقراء ثانية أن النص المعد مختلف عن النص الأصلي، ولكنها لم تنجح!! فقد أحبطت الرقابة موهبة مجدي كامل في الكتابة المسرحية، وأجبرته على التعديل والحذف، فوافق مرغماً من أجل ظهور بقية الشباب على خشبة المسرح، وقرر في داخله عدم العودة إلى الكتابة المسرحية مرة أخرى .. فحتى الآن لم أقرأ أي نص مسرحي بقلم مجدي كامل!!

عبد الغني داود بين النوساني وديوان المظالم (12)
ألف الكاتب والناقد المسرحي عبد الغني داود عام 19877 مسرحية (النوساني)، وتقدم بها إلى الرقابة من أجل التصريح بتمثيلها لصالح فرقة المسرح الحديث من إخراج عادل زكي، وهي مسرحية تدور حول مجموعة من الموظفين المرتشين ممن يعملون في مصلحة المعاشات. وجميع أحداثها تدور حول تصرفات هؤلاء الموظفين فكل موظف يرتشي من الجمهور ويقتسم الرشوة مع من هو أكبر منه، وهكذا حتى تصل الرشوة إلى وكيل الوزارة. وهذا النص رفضته الرقيبة فايزة الجندي قائلة: : إن نهايته جاءت مخيبة لأي أمل في الإصلاح فجاء الوكيل الجديد على شاكلة من سبقوه”، أما الرقيبة فادية محمود بغدادي فسجلت ملاحظات رقابية كثيرة، قالت في نهايتها: ” بسبب تلك الملاحظات والنهاية القاتمة والتي لا أمل فيها للإصلاح أرى عدم التصريح بهذا النص”. أما الرقيبة نجلاء الكاشف فكتبت تقريراً جيداً قالت فيه: ” على الرغم من أن هذا النص يسفه بعض القيم الفاسدة المتفشية في بعض الدواوين الحكومية مثل الرشوة والتزوير، وتناولها بالسخرية والاستنكار اللاذع في محاولة للتغيير منها؛ إلا أن هناك بعض التحفظات التي يجب النظر إليها بعين الاعتبار عند إجازته للعرض العام”. وهذه التحفظات تمثلت في أربعين عبارة وموقف، أصرت الرقيبة على تعديل بعضها، وحذف البعض الآخر. وأمام هذا التناقض في التقارير أضاف المدير الرقيبة لواحظ عبد المقصود كلجنة ثانية، فقالت في تقريرها: ” لكي تصبح المسرحية صالحة للعرض يجب وجود توازن بين الخير والشر وتوقيع عقاب رادع على المنحرفين”. وكتب المدير على هذا التقرير تأشيرة قال فيها: ” اتفقت لجنة المراجعة مع لجنة القراءة على ضرورة تعديل هذه المسرحية حتى تتوازن المسرحية في أحداثها بين الخير والشر”. وبعد أيام حضر المؤلف عبد الغني داود إلى الرقابة وكتب محضراً بشأن المسرحية، قال فيه: ” حضرت اليوم الموافق 20/10/1987 بناءً على طلب الإدارة لمناقشتي بخصوص مسرحية النوساني من تأليفي والمقدمة للمسرح الحديث. وقد تمت المناقشة والتباحث مع الآنسة الرقيبة نجلاء الكاشف، واتفقنا على التعديلات الآتية الواردة في الصفحات التالية …… وقد تضمن التعديل الحذف والإضافة والإلغاء في هذه الصفحات، وقمت بالتوقيع على هذا التعديل، وهذا للعلم “. وعلى الرغم من ذلك كتبت نجلاء الكاشف تقريراً جديداً بعد قيام المؤلف بالتعديلات اللازمة، طالبت فيه المؤلف بتعديل جديد على التعديل السابق، وبمزيد من الحذف إضافة لما تم حذفه سابقاً!! وبالفعل قام عبد الغني داود بتنفيذ التعديل الجديد، وهكذا نال النص الترخيص بالعرض!! ولكن: هل تم العرض؟؟ لا وألف لا؟؟ فالمسرح الحديث ابتعد عن هذا النص، الذي يكشف مساوئ المصالح الحكومية، خشية الوقوع في المحظور، فلم يجد المؤلف وسيلة لعرض أفكاره، سوى مسرح المظلومين، وهو مسرح قصر ثقافة القناطر الخيرية، الذي عرض النص في مهرجان بيوت الثقافة الجماهيرية بعد ثلاث سنوات من إخراج صبري فواز. والطريف أن النص نُشر أخيراً في سلسلة (نصوص مسرحية) باسم (ديوان المظالم) وكأن التسمية مطابقة لظلم الرقابة من ناحية، ومطابقة للمسرح الذي عُرض عليه النص من ناحية أخرى، والعجيب أن النص نشره المؤلف كما كتبه أول مرة دون أي تعديل أو حذف؛ انتقاماً من الرقابة، التي أرادت أن تتدخل في أفكاره وإبداعه!!

دهاليز الرقابة وسر القملة (13)
في عام 1987 تقدمت المؤلفة انتصار بدر عبد الحميد إلى الرقابة من أجل التصريح بعرض مسرحيتها (السبع بنات) لصالح قصر ثقافة قصر النيل، والمسرحية تدور أحداثها حول أب وبناته السبع، حيث سقطت (قملة) في طبق الطعام، وبعد فترة تضخمت هذه القملة وأصبحت مفترسة وبشعة، فأقسم الأب على أن من يقتلها يستطيع أن يتزوج أحد بناته، وهنا تقدم الشاب أحمد ونجح في قتل القملة، وتزوج الابنة الكبرى. وبعد فترة تحول الشاب إلى غول مفترس فأكل زوجته، وكرر الأمر مع الشقيقات الخمس فأكلهن، ولم يستطع افتراس البنت الأخيرة، حيث نجحت في الهروب من هذا الغول الوحشي. وأمام هذا النص كتبت الرقيبة لواحظ عبد المقصود تقريراً رفضت فيه النص قائلة: ” المسرحية من المسرحيات الخيالية الخرافية، ليست لها أي هدف أو معنى سوى بث الرعب في نفوس مشاهديها من الكبار والصغار، علاوة على أنها مقززة للغاية، كما أنه لا يوجد بها أي درس أو عبرة يستفاد منها في الحياة مما يجعلها غير صالحة للعرض”. كما رفضت النص أيضاً الرقيبة فايزة الجندي، قائلة في تقريرها : ” أرى رفض الترخيص بأداء نص السبع بنات، فالنص ليس من قبل الحدوتة ذات المغزى أو الأسطورة ذات العبرة بل أنه مجموعة من الخزعبلات المرعبة للصغار والمقززة للكبار لذا أرفض الترخيص بأداء النص”. أما الرقيبة (سعاد هانم محمد أحمد طاهر) فرفضت النص، قائلة في ختام تقريرها: ” مسرحية هزلية مفسدة للذوق العام سواء كانت للصغار أم للكبار. فهي ليس لها هدف ولا معنى اللهم إلا المعنى الذي يقصده الكاتب والذي لا أعلم ما هو. فلقد أصبحنا في عصر الفضاء والصواريخ والتكنولوجيا ومازال هناك البعض يتحدث عن الغول والأقاصيص الخرافية فهل هذا معقول؟ فهي مسرحية بها من الإسفاف ما يكفي بعدم السماح بعرضها”. وبالنظر إلى تقارير الرفض نجد أن الرفض مبني على الموضوع وخلو النص من أية فكرة .. إلخ، ولم نجد تقريراً واحداً يعطي الأمل في إجازة هذا النص، بل ولم يشر أي تقرير إلى إمكانية التعديل أو التغير من أجل التصريح!! وعلى الرغم من ذلك فوجئنا بالمؤلفة تحضر إلى الرقابة، وتكتب ورقة رسمية تحت عنوان (مذكرة) قالت فيها: ” حضرت اليوم الموافق 11/1/1988 أنا انتصار بدر مؤلفة مسرحية السبع بنات بناء على طلب الإدارة، وقمت بتعديل الحشرة (القملة) إلى (شيء غريب) أو (كاهن هلامي)” !! فكتب المدير تأشيرة أسفل هذه المذكرة، قال فيها: ” علماً بأن بعض الرقباء قد اعترضوا على المسرحية لاحتوائها على حشرة القملة المقززة وقد حضرت المؤلفة وعدلت النص بأن جعلت الحشرة كائناً غريباً أو شيئاً هلامياً، وبهذا انتفى الاعتراض على المسرحية، ولا مانع من الترخيص بها”. ولا أعلم حتى الآن من أين أتى المدير بهذا الكلام؟! فجميع التقارير لم تعترض على (القملة)، ولم يطلب رقيب واحد من الرقباء تعديلاً على النص من أجل إجازته!! فلماذا كذب المدير في هذا الشأن؟! ولماذا وجد مخرجاً رقابياً لإجازة النص؟ هل هي محاولة لمجاملة الكاتبة؟ أم هي مجاملة لقصر الثقافة؟ مهما كانت حقيقة الأمر، فالحقيقة الواضحة أن هناك مجاملة!! وأن هناك التفافاً على القوانين واللوائح والتعليمات .. وهذا الالتفاف هو أحد أساليب دهاليز الرقابة .. وما أكثر دهاليز المسرح في مصر!!

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *