أرِوَقة الموت الواحد….نٌص مسرحٌي استثنائٌي لزيدان حمود – العراق

في بداية الثمانينات وفي أوج الحرب العراقية الايرانية ٬ كتب الروائي والكاتب المسرحي زيدان حمود أهم و أجرأ عمل مسرحي له ٬ ليس على مستوى مدينة الناصرية بل على مستوى العراق كله٬ تتمثل أهمّيته بإعتباره من الأعمال القليلة التي طرحت قضية الحرب تلك بصورٍة مغايرٍة عما هو معروف ومألوف في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه أعمال أقل ما يقال عن بعضها إنها ساذجة ٬ كانت تستخدم الكوميديا السطحية لإيصال فكرتها هذا إذا كان فيها فكرة ما أصلاً ٬ وأهميته الاخرى تأتي من إن هذا العملُكِتَب من على ظهر الَّدّبابة التي كان الكاتب زيدان حمود أحد أفراد طاقمها القتالي ٬ وحسب ماُذكر لنا وقتها إنه كتبُه في مدة لا تتجاوز العشرة أيام بعد عودة وحدته القتالية من هجوم مضاد وفي فترة إعادة تنظيم َفوَجه ٬ وهذا ما أعطى الَّنص أهميته الإستثنائية لأنهُولَِد في جبهات القتال ٬ فكان لابد أن يكون صادقاً ومعبراً عن العلاقة بين الانسان والارض التي ينتمي لها ٬ بين المثقف وتفاصيل الموت اليومية التي كانت تحيطُه من كل الجوانب وبين الجندي الذي هو الانسان والمثقف والمقاتل في الوقت ذاته.

عشرة أيام جعلت الروائي زيدان حمود يكتب أفضل وأكثر نصوصه المسرحية إثارة للجدل على الاطلاق ٬ رغم كتابته العديد من النصوص المسرحية قبل هذا النص والتي لاقت الكثير من النجاح في الوسطين ٬ الجماهيري والثقافي في مدينة الناصرية والمدن الجنوبية الاخرى ٬ وإفضلية هذا النص تتأتى إضافة لما ذكرنا إعلاه من انه ليس نصاً آنياً كتب لفترة أو زمن معينين بحيث إنهَيصلُح انُيعرض في هذه المرحلة ولاَيصلُح لغيرها او إنه خاص بهذا البلد او تلك المدينة فقط ٬ بل يمكن لأي مخرج أن يقوم بإخراجه الآن في هذا الزمن وفي الظرف الذي يمر به العراق تحديداً او أي بلاد اخرى رغم مرور أكثر من ربع قرن على كتابته ٬ أتذكر أيضاً إننا قرأنا خبراً في الصحافة العراقية آنذاك مفاده ان احدى الفرق المسرحية التابعة لإحدى كليات الفنون الجميلة في مصر الشقيقة قامت بإخراج النص وعرضه في القاهرة منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما نشره زيدان في مجلة الطليعة الادبية البغدادية وهذا يّوضح ما ذهبنا إليه من إن النص لا يحدده زمان او مكان . إستخدَم زيدان تقنية المسرح الفقير(( وهي مدرسة ما زالت جديدة في ذلك الوقت (ظهرت في الستينات من القرن الماضي ) تقوم على كسر وتخطي التقاليد المسرحية في ضخامة الديكور والملابس والانتاج ,التي اعتمدتها المدارس المسرحية التي سبقتها لكنها تركز على المعرفية بعلم المسرح )) ٬ استخدم تلك التقنية لعرض مسرحيته التي قاَم بإخراجها أيضاً معطياً لأفكاره مساحة واسعة للتحرك بحرية في المشاهد التي كتبها بحبكة متقنة ليتطور الصراع الدرامي صعودأ بين شخصياته المحورية الموجودة في النص ٬ والتي تنم عن درايتة وحرفّيتة بأدوات الكتابة المسرحية التي يجيدها كمؤلف متمرس ٬ ومبتعداً في الوقت ذاته عن الرقابة الصارمة التي كانت تتربص لكل عمل فنيُيعرض آنذاك ٬ وبهذا نجَح في إخراج النص من التأويل الواحد الى تأويلات عّدة إستفاَد منها حتى يذهب بالنص والمسرحية الى مهرجان المنطقة الجنوبية ٬ ليواجه معضلة كبيرة هناك ٬نتيجة لجرأته التجريبية في النص والإخراج الذيَتجسَد في موضوعة خطيرة وهي ( الاغتصاب ) وأوحى للمشاهد إن إغتصاب الارض هو إغتصاب للمرأة ( وهذا كان من المحّرمات السياسية ) ٬هذه البديهة التي تمحورت حولها ثيمة المسرحية شّكلت وعياً مضاعفاً في ذهنية زيدان لرؤيته للمشهد الذي جّسده بطريقة إخراجية ذكية ٬ حيث إستغنى عن الديكور كلياً ليستخدم الممثلين كأدوات لديكوره ضمن طقوس سايكلوجية تهيء المتلقي للانفصال عن واقعه الحقيقي ليدخل ضمن الواقع الافتراضي للمسرحية او لمشهد الاغتصاب نفسه ٬ جاعلاً منهم ( الممثلون ) عناصر محفزة للوصول الى الذروة موظفأ كل ما موجود على المسرح من الإضاءة الى الحوار والى ملابس الممثلين التي تحولت الى مناظر لمشاهد المسرحية الذي أراد في واحد منها أن يكون عبارة عن سرير فقط منظره الخلفي الممثلون أنفسهم بقمصانهم التي رسَم عليها أشياء ما توحي بالشر٬ لتتم عملية إغتصاب المرأة أمام زوجها ٬ الذي أُجبَر على مشاهدة تفاصيل المشهد ٬ الذي أثار حفيظة لجنة تحكيم مهرجان البصرة في عام 84 نتيجة للجرأة الكبيرة التي إحتواها . وايضا الدقة الكبيرة التي إمتلكها الممثلون لأدائه ٬ وقابليتهم على الانتقال من شخصية الى شخصية اخرى وبمواصفات جداً خاصة من خلال تغيير الطبقات الصوتية او استخدام اجسادهم للتعبير عن نوع الشخصية التي يؤدونها, نذكر منهم شيخ المسرحيين الفنان عبد الرزاق سكر والفنان الراحل كاظم العبودي والفنانة سهير الّصراف ٬ التي قامت بأداء مرّكٍب لدورها مما جعله أن يكون واحداً من أجمل أدوارها الذي لايمكن أن يتكرر . أروقة الموت الواحد ٬ هو من الأعمال الممّيزة التي سيذكرها الجمهور المسرحي في الناصرية بإعجاب ٬ نظراً للتقنية الجديدة التيُكتَب بها النص آنذاك والطريقة الإخراجية التي انتجت رؤية تنظيرية جديدة للمسرح الفقير في الناصرية تلك الرؤية التي إعتمدها الكاتب والمخرج زيدان حمود الذي قال ذات مرة عن المسرحية :((إنهاُتمثل له عالماً خاصاً به وحده وله وحده لأن كل كلمةُكتبْت في هذا النص بل كل حرف فيهُكتَب تحت القصف المدفعي وبلُغة خاصة جداً هي لغة ما بين الحياة والموت ٬ لغة أن تعيش أولا تعيش ولذا عندما قرَر أن يقوم بإخراجه فهو إنما يعيش كلمات تلك المسرحية التي ُولدْت وعاشْت معُه في الملاجيء إحتماًء من القصف المعادي )) . من الصعب أنُتحدد إبداع زيدان حمود او تحصره في مجاٍل واحد ٬ فهو الروائي العراقي والقاص والكاتب المسرحي والمخرج المسرحي , وهو الممثل أيضاً ٬ فهو يرى ضرورة وأهمية المسرح في المجتمع لِما يحملُه من أفكار جديرة ٬ آثَر إلاّ أن يأخذ بها زيدان بكل جٍد وإخلاٍص وجهٍد وخبرٍة وتفاٍن من أجل ذلك الإبداع ٬ المعنى الحقيقي للفنان والانسان في المجتمع الذي يكتب لأجله .فهم يقوم بعمليات تجديد عادة ليفتح الباب لاستخدام تقنية فلسفية في اعماله خارجا بها عن نطاق النظريات التقليدية في العمل المسرحي خاصة , فاتحا المجال لندخل معه حقولا معرفية واسعة لم نكن نتوقعها ولم نكن نتوخاها لانها تتفق اساسا مع بيئته ككاتب ٬ وربما لهذا السبب كانت اروقة الموت الواحد قد انتفضت كنص حرفّي وبمهارة لغوية مبتكرة ٬ ضد عملية القولبة المتوقعة للنص المسرحي والتجميد الفكري والدرامي الذي ينتهي به عادة الى التجميد او الموت , وليستمر زمنها الدرامي او الفعلي الى يومنا هذا كدليل على تفردها كنص قابل للتأويل ايديولوجياً حسب الطبيعة الفكرية او الفسلفية للمتلقي والذي لا يعني بطبيعة الحال ان يكون نخوبياً او لا, ولكن بالقدر الذي يمكن ان يتمتع به من جمالية ذوقية للعمل الفني او الادبي بصورة عامة . الاخبار الواردة من الناصرية تقول إن زيدان حمود إبتعد عن المسرح ٬ ولنا حق السؤال هنا : هل ابتعد هو عن المسرح أم إن المسرح قد إبتعد عنه نتيجة الظروف التي يمر بها البلد؟ ومهما يكن الجواب واتمنى ان تكون تلك الاخبار غير صحيحة , شخصياً إعتقد ان إعادة إخراج مسرحية أروقة الموت الواحد وفي هذه الظروف سيعطي للمسرحية مكانتها المّميزة من جديد ٬ لما تحويه من رؤية اخراجية مكتوبة ومتقدمة لمشاهد درامية سبقت زمنها الذي كتبت فيه وما زالت تعتبر إستثنائية و تستحق أن ترى الحياة من خلال وضعها على خشبة المسرح ثانية و لا يمكن أن تظل حبيسة النص رغم تناغمها مع الواقع الذي نعيشه الآن ٬ بإمكان زيدان حمود ان يعود منافساً قوياً في المهرجانات المسرحية التي تقام في عموم العراق مثلما كان من قبل كمؤلف وكمخرج مسرحي ايضاً ٬ هذه دعوة نوجهها للمهتمين بالشأن المسرحي في مدينة الناصرية علّنا ُنعيده الى المسرح ثانية .

——————————-

المصدر :  رياض سبتي – الناقد العراقي

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *