الفنان الرائد سامي عبد الحميد: لم نؤسس بعد لمسرح تقليدي في العراق

 

هل يمكن ان نسجل تاريخ المسرح العراقي بمعزل عن التاريخ الشخصي للفنان الكبير سامي عبد الحميد . فالفنان الذي بدأ خطواته الاولى مع البدايات الحقيقية للمسرح العراقي المعاصر يعد اليوم، سجلًا حافلا بما قد اسس من اعمال متميزة لاتزال تشكل علامة من علامات المسرح العراقي بشكل خاص والمسرح العربي بشكل عام.

 

 

سامي عبد الحميد هو الرائد دوماً.و هو المكتشف هو الباحث عن سر الابداع.. مفكراً ومبدعا وصاحب رؤية خصبة  امتزجت فيها معظم التجارب والرؤى التي قدمها المسرح العراقي على مدى ستة عقود من تاريخه.
المدى الثقافي حاورت الفنان الرائد سامي عبد الحميد لتقف معه عند اهم المحطات في مسيرته الابداعية التي امتدت لاكثر من ستة عقود.
* بعد أكثر من خمسة عقود من عملك في المسرح، ومن خلال تجربتك.. أين موقع المسرح العراقي في المسرح العربي.
– عندما انخرطت في العمل المسرحي بداية الخمسينيات من القرن الماضي لم أكن اعرف الكثير عن المسرح العربي وكذلك كنت أعرف القليل عن المسرح العراقي كنت أعرف أن هناك في بغداد عدداً من فرق الهواة تقدم عروضها المسرحية على مسارح الملاهي أو في دور السينما قبل عرض الأفلام، وكنت اعرف أن هناك ممثلاً كوميدياً مشهوراً يعمل في الملهى هو (جعفر لقلق زادة) وكنت اعرف أن هناك عدداً من المتخرجين في فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة والذين علمهم أستاذهم (حقي الشبلي) وأغلبهم قد توقفوا عن النشاط المسرحي، والقلة منهم يعمل في قسم التمثيليات في إذاعة بغداد، ثم ازدادت معرفتي بالمسرح العربي تدريجياً فعرفتُ شيئاً عن المسرح المصري، وشيئاً عن المسرح في لبنان، وبقيتْ مسارح سوريا وتونس والمغرب والجزائر مجهولة بالنسبة لنا، ولذلك لم نكن نعرف موقع المسرح العراقي ينسب إلى تلك المسارح العربية.
ثم أخذت معلوماتنا تتسع عن حركة المسرح في البلاد العربية خلال الستينيات عن طريق مجلة المسرح المصرية، حيث كانت تنشر أخبارا عن النشاطات المسرحية في هذا البلد أو ذاك، إضافة الى المقالات التي عرفتنا بالمستويات الفكرية والفنية التي وصلت إليها المسارح العربية وبالأخص مسرح مصر ومسرح سوريا ولبنان.
وعرفنا لأول مرة بأن المسرح العراقي متقدم وربما متفوق على المسرح المصري، عندما قدمت مسرحية (البيك والسايق) من إخراج (إبراهيم جلال) بعد أن اقتبسها وحوّل حوارها إلى العامية العراقية الشاعر (صادق الصائغ). عن مسرحية بريخت (بونتيلا وتابعه ماتي) وقدمت في القاهرة وفي الإسكندرية خلال احد الأسابيع الثقافية العراقية، وأشاد بها النقاد والمسرحيون وقارنوا مستواها المتقدم بمستوى المسرحيات المصرية المتأخر، ومنذ ذلك الحين افتخر المسرحيون العراقيون بفنهم وواصلوا عطاءهم الثر وأخذوا ينافسون أقرانهم في البلاد العربية وازداد فخرهم عندما راحوا يحصدون جوائز المهرجانات العربية المشهورة مثل مهرجان أيام قرطاج ومهرجان القاهرة التجريبي.
* كيف حدث ذلك وأولئك المسرحيون في تلك البلدان أقدم منكم ممارسة وأكثر خبرة وأدق اتصالاً بالمسرح الأدبي… 
– نحن لا نقلّ عنهم وعياً ولا دراية ولا خبرة فمعظم المسرحيين العراقيين يحملون أفكاراً تقدمية ويتخذون من المسرح وسيلة لنقل رسالة تنوير وتثقيف وإمتاع، واغلبهم درس الفن المسرحي في معاهد خارج البلاد وداخله وجلّهم يبغي التجديد.
لا أعتقد أن مسرحاً عربياً قبل المسرح العراقي تناول مسرحيات جيكوف وأبسن ولا أعتقد أن مسرحاً عربياً قبل المسرح العراقي طبّق عامل التغريب البريختي. تصدى المسرحيون العراقيون لأنواع الأساليب المسرحية الكلاسيكية وحتى اللامعقول وظهرت نزعة التجريب لدى المسرحيين العراقيين في وقت مبكر، من يتصور أن مسرحاً شهد الرقص الدرامي قبل غيره، من يتصور أن مسرحاً شهد المسرحية الموسيقية قبل مسرحيات الإخوان رحباني، من يتصور أننا قدمنا مسرحية معين بسيسو (ثورة الزنج) أفضل مما قدمته مسرحية فرقة مصرية؟
من يتصور أننا تناولنا من مسرحيات شكسبير وبرؤى مختلفة أكثر من الآخرين؟

* بوصفك مسرحياً متمرساً وأكاديمياً له بصمة واضحة على أكثر من جيل.. هل لديك توصيف معين لمرحلة زمنية ازدهر فيها المسرح العراقي؟
– بالتأكيد كانت مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين هي الأكثر ازدهاراً بالنسبة للمسرح العراقي وبالنسبة للمسرح العربي عموماً. وربما بالنسبة للمسرح العالمي في مرحلة الستينيات ظهرت الكثير من الابتكارات المسرحية في المسرح العربي ومنها اتساع رقعة مسرح اللامعقول وظهور عدد من فرق المسرح التجريبي المهمة مثل (المسرح الحي) و(المسرح المفتوح) و(مسرح الشمس) وغيرها، ومنها تأثير فلسفة اليسار الجديد في الفن المسرحي، ومنها ظهور اختلاف الرأي بشأن استخدام التكنولوجيا الجديدة في العمل المسرحي أو رفض استخدامها والاعتماد على الممثل وتعبيره فقط كما (غروتوفسكي) في مسرحية الفقير.
وفي المسرح العربي ظهرت انعكاسات تطورات المسرح الغربي والتي نقلها المبعوثون من المخرجين وظهر كتاب مسرحية جدد خرجوا على الأعراف القديمة في التأليف المسرحي، نذكر منهم سعد الدين وهبة ونجيب سرور والفريد فرج وعز الدين المدين وكريم بورشيد وعلي عقلة عرسان وممدوح عدوان.. وكان كل من سعد اردش وكرم مطاوع وسمير العصفوري ونبيل الالفي والطيب الصديق والمنصف السويسي الطيب العلج والساحر ممن جددوا في العرض المسرحي. وفي مرحلة الستينيات والسبعينات بدأت حركة إحياء التراث وتوظيف مفرداته في العرض المسرحي وحذا المسرح العراقي حذو المسرح العربي في جميع النقاط المذكورة سلفاً. حيث برز من المؤلفين الجدد يوسف العاني وعادل كاظم وطه سالم ونور الدين فارس ومحي الدين زنكنه وجليل القيسي، وبرز من المخرجين المجددين إبراهيم جلال وجاسم العبودي وبدري حسون فريد وسامي عبد الحميد ومحسن العزاوي وعوني كرومي، وفي تلك المرحلة ظهر مصممون مبتكرون مثل كاظم حيدر وفاضل قزاز، وفي تلك المرحلة أثبتت بعض الفرق الخاصة مثل (الحديث) و(الشعبي) و(اليوم) و(اتحاد الفنانين) إمكاناتها وبلورت جمهورها، وفي تلك المرحلة تأسست فرقة الدولة (الفرقة القومية للتمثيل) والتي اسميها (فرقة المسرح الوطني)، وفي تلك المرحلة أخيراً وليس آخراً أخذ المسرح العراقي ينافس المسارح العربية بل يتفوق عليها أحياناً.
في مرحلة الستينيات والسبعينيات تأسس (مسرح بغداد) مقراً لفرقة المسرح الفني الحديث، و(مسرح الستين كرسي) لفرقة المسرح الشعبي، وكان قد تأسس قبلهما (المسرح القومي) وهو بناية من مخلفات المعرض التجاري السوفيتي في كرادة مريم.

* التجريب سمة مهمة لتجربتك.. كيف يفهم سامي عبد الحميد التجريب؟
– هناك فرق بين (التجريب) كوسيلة لإيجاد البدائل وبين (المسرح التجريبي) الذي يعتمد البحث والتقصي وفق فرضية تحتاج إلى إجراءات لإثباتها وصولاً إلى نتائج قد تتم الاستفادة منها وتطبيقها أولاً ومن ثم يستمر التجريب وعلى وفق فرضية جديدة وهكذا.
وبصراحة أنا لجأت إلى التجريب في عدد من أعمالي المسرحية ولكن لم ادخل باب المسرح التجريبي ولكني لجأت في بعض أعمالي إلى تقنيات المسرح التجريبي ومنها (العمل الطاقمي) و(التأليف الجماعي) و(الارتجال) ومنها المسرحيات القصيرة الثلاث (إلى إشعار آخر) و(الكفالة) و(شكراً ساعي البريد) وكانت فرضيتي (السهل الممتنع) أو (ما قلّ ودل).
الغريب أن مصطلح (المسرح التجريبي) قد تم ابتذاله عندنا في مسرحنا حيث راح كل من هبّ ودبّ يدعي وصلاً بالمسرح التجريبي بل أن بعض المهرجانات المحلية انتحلت تلك الصفة.
لا مسرح تجريبي من دون مسرح تقليدي ونحن حتى اليوم لم نؤسس لمسرح تقليدي في العراق، وكانت محاولاتنا كلها تجريبية وليست مسرحا تجريبيا، رغم قدم نشأة المسرح في دول أوربا التي ترجع إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد إلا أن (المسرح التجريبي) فيها لم يتبلور إلا أواسط القرن العشرين أو أوائله.
ظهر المسرح التجريبي في أميركا مثلاً بتشجيع من المسرح التجريبي في أوربا، وبالمقابل اثر المسرح التجريبي الأميركي كثيراً في المسرح التجريبي في أوربا، كما فعلت (فرقة المسرح الحي) أو (فرقة مسرح لاماما). لا تسبغ صفة (المسرح التجريبي) على عمل واحد أو عملين تقدمهما فرقة مسرحية معينة، لان المسرح التجريبي يقتضي الاستمرار بالتجريب باعتباره نظرية ومنهجاً وتطبيقاً بل وحياة يومية.

* هل أنت مع طغيان الشكل على المفردة؟
– أقول لا شكل بلا مضمون ولا مضمون من دون شكل في جميع أنواع الفنون، فالشكلاني عندما يبدأ برسم لوحته الفنية لا بد أن يكون قد حمل فكرة في ذهنه، معناه حمل مضموناً، والدرامي الذي يحمل مضموناً في ذهنه لا بد أن يصوغ هذا المضمون بشكل ما، أما أن يرجح الفنان هذا على ذاك فمعناه اعتماد أسلوب معين في التعبير، وأما أن يطغى شكل اللوحة أو شكل المسرحية على مضمونها فمعناه ضياع الهدف من وراء ذلك العمل الفني، وقد يقول الفنان الشكلاني إن الهدف كامن في جمال الشكل، وأنا أقول أليس من الأفضل أن يحقق الفنان هدفين: الجمال والفكر في آن واحد؟ وبدون جمال فان المضمون المرسل إلى المتلقي او الرسالة يمكن تحقيقه بوسيلة إعلامية أخرى مقروءة أو مسموعة أو مرئية مسموعة، ومن دون مضمون يصبح العمل الفني مسطحاً لا يستهوي إلا القلة من المتلقين، لذلك لا أرجح طغيان الشكل على المضمون، بل أرجح الانسجام والتناغم بينهما.
ظهرت مدرسة الفن للفن وتركزت أوائل القرن الماضي ولكن حركتها ضعفت بمرور الزمن ودعا الرمزيون إلى الاهتمام بموسيقى الشعر أكثر من الاهتمام بمحتوى الشعر ولكنهم اغفلوا سهواً أن الأجواء التي توفرها موسيقى الشعر هي بالتالي مضموناً كما أن المعاني التي تحملها كلمات الشعر وأبياته وهي حتماً موجودة فهي أيضاً مضمون سواء كانت تلك المعاني ظاهرة أم خفية.
إن من يعمل على طغيان الشكل على المضمون إنما يعتمد على الإسهام أو التلقائية فقط، أما الذي يوازن بين الشكل والمضمون فهو يعتمد على الإسهام وعلى التفكير والوعي ومعناه انه يستند إلى أكثر من دافع في صياغته الفنية.
وللحق نقول إن الفن المسرحي دون غيره من الفنون الجميلة – البصرية والسمعية والتشكيلية والموسيقى يلتزم بمبدأ التوازن بين الشكل والمضمون.
وسارت معظم التيارات المسرحية قديمها وحديثها بهذا الاتجاه. وإن لم تفعل ذلك لن تستطيع الحفاظ على اجتذاب جمهورها وتوسيع رقعته. وهنا اضرب مثلاً على ذلك في مسرح ريخت الملحمي الذي جمع الشكل إلى المضمون أو المضمون إلى الشكل وحقق بذلك انتشاراً وشهرة واسعين واهتماماً من قبل المسرحيين في جميع أنحاء العالم وقد اقتبست منه العديد من التيارات المعاصرة.

* تنقّل سامي عبد الحميد بين النص المحلي، والنص العربي، والنص الغربي.. أين تجد نفسك؟
– كنا وما نزال نحن الذين تعلمنا الفن المسرحي في الخارج ومن الخارج نعتقد أن النص الأجنبي أكثر جذباً لنا شكلاً ومضموناً، ويأتي بعده النص العربي للمؤلفين المشهورين، وكنا نعتقد أن النص المحلي – العراقي يفتقر إلى الكثير من مقومات الدراما وان معالجات كتاب المسرحية العراقية تقليدية أو ربما ساذجة احياناً والسبب واضح أنهم كانوا يقلدون نصوصاً أجنبية أو عربية وقعت بين أيديهم أو شاهدوا عروضاً مسرحية لفرق مصرية زارت العراق، أو أنهم لم يحصلوا على الثقافة الفنية التي تؤهلهم لكتابة مسرحية جذابة ترضي طموحاتنا الفنية في تقديم عروض مسرحية متفردة.
مثل تلك النظرة للنص المحلي للفرق كانت في مرحلة الستينيات من  القرن الماضي كما ذكرت سلفاً، ولكن عندما وقعت بين أيدينا نصوص مسرحية متقدمة مثل (تموز يقرع الناقوس) و(الطوفان) لعادل كاظم و(صورة جديدة) و(المفتاح) و(الخرابة) ليوسف العاني، و(فوانيس) و(طنطل) لطه سالم و(أشجار الطاعون) و(البيت الجديد) لنور الدين فارس، ولحقت بذلك نصوص أخرى مثيرة لنا وكتبها كتّاب جدد أمثال (محي الدين زنكنه) و(جليل القيسي) و(فلاح شاكر) و(بنيان صالح) و(محمد علي الخفاجي)، رأينا أن تلك النصوص لا تختلف في قيمتها الفنية والفكرية عن نصوص الغربيين التي كانت على الدوام مثيرة لخيالنا.
لكن ظلت نصوص الكتاب الأجانب أمثال شكسبير وجكوف داين وغوركي وبرسمت وادنيل ووليافر وكوكتو وبرانديللو وبيكيت ويونسكو أكثر إثارة لنا سواء بسبب تناولها موضوعات إنسانية شمولية كأنها انعكاس لواقع حياتنا أم بسبب شكلها الفني المبتكر والمحفز لفاعلية خيالنا عند التصدي لإخراجها، ولأنني من المخرجين الانتقائيين كما أسمى، لذلك تجدني أتنقل بين النص الأجنبي والمحلي.
لقد أخرجت أولاً نصوص يوسف العاني ونصين لعادل كاظم ونصين لطه سالم ونصاً لجليل القيسي ونصاً لمحي الدين زنكنه ونصاً لفلاح شاكر وهكذا… وأخرجت من النصوص العربية (ثورة الزنج) و(كوميديا أوديب) وكثيراً من النصوص الأوربية والأمريكية لمؤلفين مختلفين من شكسبير وبن جونسون إلى اناتول فرانس وجاك انوي والى اونيل ووليامز والى  بيكيت ويونسكو وجان جينيه وغيرهم من عباقرة الفن الدرامي.

* كنت دائم العمل في تجارب مسرحية مع الطلبة والشباب ومن يتابع مسيرتك يجد أن أفضل الأعمال قدمتها مع هؤلاء الشباب، كلكامش، ثورة الزنج، عطيل في المطبخ.. هل تعتقد أن الممثل المحترف عاجز عن تقديم رؤيتك المسرحية؟
– أنت يا سيدي متابع جيد لعملي المسرحي وراصد واعٍ لمسيرتي الفنية، فعلاً كانت أعمالي الأكثر نجاحاًً هي التي اعتمدت فيها على شباب المسرح وخصوصاً من طلبة أكاديمية الفنون الجميلة وهناك أسباب واضحة وأخرى خفية، ومن الأسباب الواضحة الخامة الطازجة التي أجدها في الطلبة بالطبع ليس هذه الأيام بل خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وعليه فإني استطيع أن اصهرها وأشكلها بحرية أكثر وأجد لدى الطلبة استجابة قوية لما أريد.
ومن الأسباب أيضا كما يبدو، إيمان طلبتي بقدرتي على تقديم عمل ناضج ومؤثر. والسبب الثالث الواضح هو الوقت المتاح الكافي للإبداع، فبالرغم من انشغالي في أمور إدارية كانت لدي ساعات كثيرة أتفرغ فيها لعملي الفني من دون تقيد بزمن معين لتقديم العرض.
وبعكس ذلك العمل مع المحترفين، الذين تقولبوا على أنماط معينة من أساليب التعبير ومن الصعب عليهم الاستجابة الى المتطلبات الجديدة كما ان البعض منهم لا يكونون على إيمان تام بما افعل، وكذلك فان الوقت المتاح لي لإنتاج العمل معهم ضيق حيث يريدون الانجاز بأسرع وقت – أنهم موظفون، الرغبة في إتمام المهمة أهم من الابتكار والتجديد. لعل من الأسباب الخفية لنجاح عملي مع الشباب والطلبة، الحيوية التي يتحلون بها والتلقائية التي ينقذون بها أدوارهم، وكان نجاح (كلكامش) مع الطلبة وليس مع المحترفين سببه تلك الحيوية وتلك التلقائية وكان ممثلو الفرقة القومية للتمثيل يستعرضون قدراتهم التعبيرية أكثر مما يؤدون أدوارهم بفهم وصدق، طبيعي هذا لا يشمل الجميع ولكن القلة تؤثر في الكثرة. في (ثورة الزنج) كان حماس الطلبة في تنفيذ العمل هو الذي حفزني على أن أضيف إبداعاً على إبداعهم، وكانت موسيقى والحان المبدع (طارق حسون فريد) الإضافة التي ساهمت في ذلك النجاح الباهر لتلك المسرحية.
في (عطيل في المطبخ) كان تقبل واندفاع الطلبة للتجريب عاملاً مساعداً في إنجاح العمل فلم اشعر يوماً أثناء التمارين التي دامت شهوراً بأن أحدا منهم أصابني بالملل، وكانت ابتكاراتهم تقوى ومقترحاتهم تتوالى، فهل كان ذلك ممكنا مع ممثلين محترفين موظفين في دائرة السينما والمسرح مثلاً. اشك في ذلك.
ومن الأسباب الخفية ربما تناقص الروح الإبداعية لديّ بعد أن تركت العمل مع الطلبة الذين كانوا يؤججونها ذلك بعد أن تناقص عدد الطلبة الموهوبين أو المتحمسين الذين ينتمون إلى قسم الفنون المسرحية في الأكاديمية.
المفروض بالممثل المحترف أن يكون أكثر عطاءً وأكثر مرونة وأكثر ابتكاراً ولكن الوظيفة تكتم الإبداع، ومع هذا كانت لدي بعض النجاحات مع ممثلين محترفين كما حدث في مسرحية لطفية الدليمي (الليالي السومرية) المقتبسة من (كلكامش).

* لا بد من سؤال عن إشكالية التسمية والتوصيف لما يسمى بمسرح جاد وآخر تجاري.. ما الذي تقوله عن ذلك؟
– ما زلنا وسنظل نختلف على (التسميات) و(المصطلحات) على وفق قراءاتنا ومدى عمقها وعلى وفق معرفتنا ومدى اتساعها.
لا اعتقد أن مصطلح (مسرح جاد) هو من الدقة بمكان، إذ هل يقصد به المسرحيات المأساوية فقط مع علمنا أن هناك مسرحيات كوميدية ذات قيمة فكرية وفنية عالية مثل مسرحيات مولير وشريدان كما أن تصنيف المسرح على انه (جاد) و(تجاري) أيضاً غير دقيق، فهناك في بعض البلدان المتقدمة مسرحياً مسرحيات جادة كثيرة ولكنها تجارية كما يحصل في (برودوي) في نيويورك وفي (ويست اند) في لندن.
ويخطئ من يقول إن المسرح كله تجاري ما دام هناك بيع وشراء للتذاكر، لا يا سادة (المسرح التجاري) ليس في البيع والشراء وان كانت هذه الظاهرة إحدى خواصه، يصبح المسرح تجارياً إذا كانت الوسيلة والهدف منه تجاريين – الاستثمار وسيلة والربح المادي هدف ولا يهم المستوى الفني للأعمال التي لا ينتجونها، المهم جذب اكثر الجماهير لمشاهدتها.
لا يمكن أن تكون فرق الدولة – المسرح الوطني مسارح تجارية إلا إذا اتصفت إنتاجاتها بمواصفات إنتاجات المسرح التجاري، ومن مواصفاته العروض الطويلة الأمد، والاعتماد على نجوم السينما والتلفزيون وليس نجوم المسرح، وتقديم كل ما هو مسلٍ ومضحك بغض النظر عن قيمته الفكرية أو الفنية، ومع هذا فان إنتاجات المسرح التجاري في أميركا مثلاً ذات مستوى عال ولكن يدخله الدارسون في هذا الصف ويميزونه عن المسرح غير التجاري، إذ هناك مسرح المجتمع وهو مسرح الفرق الخاصة وهناك المسرح الجامعي، وهناك المسرح التجريبي.
ليس هناك كتاب متخصص في فن المسرح، إلا ويشير إلى (المسرح التجاري)  وربما يدينون لا لشيء لأنه بحجم ذائقة الجمهور. تعرّف (ماري الياس ونجاة قصاب حسن) المسرح التجاري بكونه المسرح المحترف الذي يهدف إلى الربح التجاري قبل كل شيء من خلال جذب اكبر عدد من المتفرجين وإرضائهم بوسائل عديدة منها وجود النجم والحبكة المعقدة والاستعراض المبهر بما فيه من رقص وغناء.
في كتابه (المكان الخالي) يذكر المخرج الانكليزي الكبير (بيتر بروك) أن المسرح الميت مسرح رديء فهو كثيراً ما يرتبط بالمسرح التجاري الذي نحتقره كثيراً.
إذن التصنيف الصحيح هو (مسرح تجاري) و(مسرح غير تجاري)، أما المواصفات التي يطلقها البعض عندنا حول مسرحهم كونه (جماهيريا) أو (شعبيا) أو (كوميديا) فهي مواصفات صحيحة ولكنها كلمات حق يراد باطل، صحيح أن مسرحهم جماهيري لأنه يجتذب جمهوراً واسعاً ولكن تشده ذائقة ذلك الجمهور بتقديم ما هو متدني ومسف، وهنا أكرر قولي إن (فن المسرح) لا يمكن أن يكون للجماهير بل للجمهور لأنه إن توجه لأوسع الجماهير فسيضطر إلى النزول عند رغباتهم العابرة أو الساذجة أو البسيطة (الجمهور عاوز كده) وهكذا يهبط مستواه الفني والفكري، وهذا المسرح هو فعلاً (كوميدي) ولكن أي نوع من الكوميديا، أقول أردأ أنواع الكوميديا وأخطرها – أن يقترب إلى ما يسمى (الفارس) أو إلى (البورلسك) وهو فعلاً (شعبي) لا لكون ينطق باللغة العامية وحسب بل لأنه يتوجه للبسطاء من أبناء الشعب.

* ما هو تقييمك لما يقدم الآن.. وهل المسرح العراقي في أزمة..؟
– لا أستطيع أن أقيم بدقة ما يعرض هذه الأيام من مسرحيات وكلها من إنتاج دائرة السينما والمسرح وذلك لاختلال المعايير لدى العاملين وعدم توافقها مع المعايير التي اعتمدها، ولكن بالمقارنة مع إنتاجات مراحل سابقة فان مستواها أدنى بلا شك ولذلك أسباب عديدة منها:
أولاً، أن قدرات المخرجين الحاليين ومعرفتهم لا تصل إلى قدرات ومعرفة مخرجين بارزين أمثال (إبراهيم جلال) و(جاسم العبودي) و(قاسم محمد) و(عوني كرومي) و(بدري حسون فريد) و(فاضل خليل) و(صلاح القصب).
ثانياً، أن حماسة العاملين في المسرحيات هذه الأيام ليست كما كانت في مسرحيات الماضي القريب، ثالثاً، أن قدرات معظم الممثلين لم تصل إلى مستوى قدرات الممثلين السابقين في العطاء والتعبير في والتجسيد، رابعاً، هناك عشوائية في اختيار النصوص وفي معالجتها، خامساً، أن ثقافة معظم المخرجين الحاضرين فقيرة سواء على المستوى العام أم على مستوى التخصص، سادساً، الاستعجال في الإنتاج والتفكير فقط في المشاركة في مهرجان خارج البلاد، سادساً، الاعتماد على نصوص مسرحية مهلهلة أو غير ناضجة، سابعاً، غياب الفرق الخاصة (الأهلية) ومنافستها لفرقة الدولة.

 

حاوره/ علاء المفرجي

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *