التقنيــات الرقميــة وفرضيــات الهيمنـــة على المســـرح المعاصـــر

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن خاصية التلقي في المسرح مغايرة تماماً عن خاصية التلقي في (الميديا) حتى وإن كانت المادة المقدمة هي نفسها ، وفي إشارة إلى

 

التشارك بين مستويات التلقي يذكر المؤلف” ان المحاولات القليلة التي تمت في الماضي لكي يتم التقارب بين المسرح والإعلام إنما هي عبارة عن بحث استعاري يهدف إلى وصف ما يدور في ميدان إنتاج المعنى”  ، ومع أن المؤلف يجنح نحو إثبات نظريته المليئة بالغموض المتأتي عن سوء في الترجمة أو عن تقديم فرضيات لمسرح جديد يتخلى فيه عن الممثل والمخرج والمؤلف ومصمم السينوغرافيا ، لصالح التقنيات الرقمية الناتجة عن نظم الحاسوب والأنترنت والاتصالات ، إلا أنه يعود للكشف عن معطيات بديهية وقارة في أهمية العرض المسرحي (التقليدي) ومفردة التقليدي تختلف هنا عن تلك التي كانت ترد في الإشارة إلى المسرح التقليدي ولكننا ارتأينا هنا الإشارة إليها من اجل المقارنة بين المسرح بوصفه مجموعة من الافعال التي يقوم بها عدد من الافراد من اجل إنتاج معان متعددة يقع على عاتق المتلقي التفاعل معها .


إلا اننا في هذا الكتاب امام مسرح (غير تقليدي) لأنه يقصي خصوصية الفن المسرحي ؛ وعوداً على بدء فأن المؤلف يذكرنا بفاعلية المسرح مؤكدا “ان المسرح لايكتفي ،بتقديم عرض شديد الواقعية ؛ وإنما يرتكز على الرمز الذي يغذي الخيال ، ولكن لو أن المشاهد لم يكن معتاداً على تفسير كلمات أو حركة ممثلين أو إن لم يكن يستطيع فهم اللغة، فلن يكون هناك أي تأويل رمزي” ، أي ان المؤلف يسعى إلى البحث عن مسرح من نوع مختلف ، وهنا نتساءل هل يمكن ان نطلق على هذا الشكل الجديد (مسرحاً) وفي اعتقادنا ، ربما يمكن ان يكون أي شيء اخر متطورا وحديثا وذا قيمة علمية عالية ، إلا انه ليس مسرحاً بالمعنى الذي تأسس عليه المسرح على وفق نظريات المسرح واشتراطاته الأساسية.
أن المسرح الذي يقدمه هذا الكتاب يخلط بين المفاهيم المسرحية ” يمنح المؤلف لعين المشاهد مجموعة من العناصر (البرامج التخصصية) والمواقف التي تبهره وتثير اهتمامه ” وكما هو معروف في المسرح (التقليدي) أن ارتباط الدهشة البصرية تعود على اشتغال المخرج في حدود الرؤية الإخراجية ، أما في (المسرح التقني / الرقمي) فإن وظيفة المخرج قد تلاشت ، وحتى وظيفة المؤلف التي تحولت إلى وظيفة (مبرمج الحاسوب) الذي تقع عليه مسؤولية وضع برامج تثير دهشة المتفرج .
ويقدم لنا المؤلف توضيحاً وافياً للمكان المسرحي (خشبة المسرح) ويعقد مقارنة بين تلك التي كان عليها المسرح قبل دخول التقنيات الحديثة عليه وما آلت إليه بعدها ” أن خشبة المسرح هي قبل كل شيء، مكان اللقاء الذي يتم بين العمل الفني وبين المشاهدين ، وإن شئنا الدقة هي تفسير العمل الفني بالمعنى التحولي الذي يفسره ( Nelson Goodman) بوصفه “بناء المعاني، فالمسرح الذي قد يتعلق به الامر يختلف تماماً عن خشبة المسرح المتعارف عليها، فمن ناحية ، ليس هناك سوى شخص واحد في أغلب الأحوال وهو الشخص الذي يتعامل مع الجهاز، وهو المتلقي في الوقت ذاته ، ومن ناحية اخرى فإنه فيما عدا إمكانية المشاركة بالحديث والتفاعل ، فإن العمل المقدم عبر الوسائل المسموعة والمرئية التي تستند إلى الرؤية بواسطة (DVD-ROM  ، CD-ROM  ) والاتصال بشبكة الانترنت يتطلبان وجود اجهزة تتيح إظهار الصورة مملوكة للمتلقي ” .
يقدم المسرح التقني مسرحاً يعتمد على المواد التي تتوافر في الاقراص المدمجة ، والمصنعة في الحاسوب ، وتكون طريقة المشاهدة عالمية بمعنى ان وجود صالة العرض المسرحي لم يعد بها حاجة ، مادمنا نستطيع مشاهدة العروض المسرحية ونحن في غرفة نومنا ..
ويعود المؤلف إلى مناقشة ( الجسد بين الفن و الفن المصنوع) طارحا العديد من التساؤلات حول حضور الجسد في المسرح التقني ” أن الجسد في آن واحد أساس أي مسرح وهو الذي أثرت وسوف تؤثر فيه التقنيات، هل معنى ذلك ان ظهور وسطوة التقنيات الحديثة من حيث مهاجمتها لجوهر المسرح والمسرحة بشكل عام ، يعنيان النهاية الفعلية للمسرح” .
إن الإشارة إلى أهمية الجسد في المسرح لم تمنع المسرح التقني من إقصائه عن العرض المسرحي والاستعاضة عنه ببرنامج افتراضي يكون بديلا عن الممثل والشخصية التي يجسدها ، إلا أن ذلك لم يمنع المؤلف من الوقوع في التناقض المتمثل في ضرورة الفن الذي يتأسس على إثارة الأسئلة عند المتفرج ، ” إن أنتشار التساؤلات قد شكل الحركة الفنية ذاتها وأن الفن لايستمر ويعيش إلا بصراعه مع ذاته وباندماجه مع هدفه ” ، الأمر الذي جعل من طروحات المسرح التقني ضعيفة أمام حضور الجسد في المسرح فضلا عن ذلك فإن المؤلف يعترف بضرورة وجود اللحم والعظم بحسب تعبيره ، وهي من خصائص المسرح ، ” إلا انها تصطدم بثلاث خصائص مرتبطة بالتقنيات الحديثة وهي :
– إلغاء المسافة : من الممكن الآن أن نتواصل ويستمع احدنا إلى الآخر، ان نتبادل ونعمل ونتثقف ونبيع ونستمتع عن بعد.
– الفصل بين الاجساد: وهو ينتج عن الخاصية السابقة تحت تأثير الإعلاء من قيمة التكنولوجيا ، فإن الجسد ككيان ملموس يصبح مجرد إكسسوار. 
– شيوع الضمائر : ألسنا ذاهبين باتجاه شكل جديد، غريب وغير منتظم، الى شيوع معياري مرتبط بقيود الاساليب الاعلامية التي تدعو الى الانتشار ” .
ويقدم المؤلف في مفصل آخر من الكتاب بحثا عن (المسرح الإذاعي ) بوصفه بديلاً تقنياً عن (المسرح التقليدي) ، يكون أكثر انسجاما مع التقنية الرقمية  والميديا، ذلك ” أن المسرحيات الإذاعية حتى وإن كانت تحمل أثاراً مكتوبة فإنها ليست مخصصة للنشر ولا للقراءة والتقاؤها بالجمهور لايتم إلا عبر الموجات الإذاعية وهو مايختلف عن المسرح والوسيط التقني يشكل جزءاً لا يتجزأ من المسرح الإذاعي” ، وبالرغم من ان شكل المسرح الإذاعي لم يكن بعيدا عن المسرح إذا ما تمت مقارنته بما كان يعرف بـ (المسرحيات القرائية) وهي المسرحيات التي كانت تقدم للجمهور من دون  تمثيل، ” ولأن المسرح الإذاعي قد تخلص من البصر فقد اختفت مع البصر عناصر مسرحية اخرى، (…) نجد ان التناقض التام بين الرؤية والاستماع عدّ مبدأ إذاعياً بل ربما اعتبرناها رؤية جمالية للمؤلف وهو الخيال”  ولاتقتصر فاعلية الخيال في المسرح الاذاعي على النص فحسب وإنما تتجه الإحالة إلى المستمع الذي ” يظل مشدوداً لذلك فإن المؤلف يجمع بين الوسائل المسرحية والوسائل التقنية، جاعلاً من نفسه مخرج مسرح ومخرج أصوات، فالمسرح الاذاعي يشجع الصوت بكل أشكاله – مسرح الهواء ، ديكور مسموع يأخذ مكان الديكور المرئي” .
ويورد المؤلف في أقسام أخر من الكتاب العديد من التجارب التطبيقية التي تتنوع بين المسرح الاذاعي والمسرح البصري الرقمي الذي تكون فيه الاجهزة هي المتحكم بالفعل بديلا عن الممثلين والمتفرجين .

 

(2-2)

صميم حسب الله

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *