مسرح الفرجة في الأردن: تجربة خالد الطريفي وغنام وغنام

نشأ مسرح الفرجة في الأردن في أواسط ثمانينات القرن الماضي في سياق ثقافي عربي، كما في خضم البحث الإبداعي عن هوية أو جذور عربية للمسرح ، والسعي لتمكين الفن المسرحي من أداء دور ملموس أمام التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية، وتفاعلاً مع موجة عالمية سابقة تمثلت في اتجاهات المسرح البريختي ،

وأنماط أخرى مسماة بالمسرح الفقير ومسرح الشارع وسواها.

 

نستخدم تعبير “مسرح الفرجة” كتسمية شائعة ارتضاها نقاد ومتخصصون- وكاتب هذه الورقة ليس أحدهم- لنَسَقٍ من العروض المسرحية يستخدم فضاءات مفتوحة أوشبه مفتوحة كالحلقة والشكل الدائري أساساً، ويعتمد على القول والسرد والأغاني والأزياء الشعبية والرقص وخيال الظل والأراجوز والتشخيص، ويقيم تفاعلاً آنياً مفتوحا مع الجمهور، ويستخدم اللهجات المحلية أو خليطاً منها ومن الفصحى.

ينطلق مسرح الفرجة عند خالد الطريفي وغنام غنام من منطلقات متقاربة، وقد ساعد على ذلك أنهما عملا معاً في محطات عديدة من مسيرتهما الفنية، والحديث هنا عن مسرحيين شابين، شقا طريقهما الشائكة في بلد يمتلك تجربة مسرحية حديثة العهد نسبياً.

لغنام وخالد شغف كبير بمسرح الفرجة. وهما من وضعا أسسه وتطبيقاته في الحياة المسرحية في الأردن، وقد أفادا بطبيعة الحال من التجارب المسرحية والتنظيرات النقدية العربية من توفيق الحكيم ويوسف ادريس الى علي الراعي الى عبدالكريم برشيد وعبدالقادر علولة والطيب الصديقي وسوى هؤلاء من الرواد، وبموازاة ذلك فإن الهاجس السياسي لعب دوره لديهما، ليس في الإقبال على مسرح “خطابي ملتزم”، بل على مسرح “لكل الناس” بسوية فنية عالية.

وقد نشط الاثنان في الترويج لمسرح الفرجة في كتابات وتصريحات ومقابلات متواترة ومتفرقة.

خالد الطريفي

الفنان الشامل خالد الطريفي (56 عاماً)، مؤلفاً ومعداً وممثلاً ومخرجاً، من المتحمسين والمؤمنين بتوظيف التعبير الشعبي والتراثي في المسرح، وهو من اوائل من اعتمدوا هذا اللون من التوظيف رغم تحفظات حالية له على التسمية. ففي عام 1983 شارك مع نادر عمران وعامر ماضي في تأسيس فرقة “الفوانيس”، وأصدرت الفرقة بياناً تنظيرياً لاحقاً استنادا الى أن التراث يشكل مرجعية، وليس المقصود هنا بتراث مسرحي بل تراث الفنون الشعبية والحكايات والأزياء والاحتفالات من أعراس وليالي حصاد وحفلات طهور وبيوت عزاء.

في لقاء شخصي معه جرى في سبتمبر 2011 ذكر المخرج أن الذهاب من مدينة الزرقاء عام 1966 الى قرية دير عمار قرب رام الله، والتي كانت تحت الحكم الأردني، لزيارة اقارب، وهناك اتيح له وهو ابن الحادية عشرة من عمره الوقوف على مشهدية عرس يتواصل سبعة ايام بلياليها ومايشتمل عليه من فنون تمثلية كمشهد رجل يرتدي ثوبا نسائيا، ومشهد رجل يضع بقايا فنجان القهوة على مواضع مختلفة من وجهه، بما فتح عينيه ومداركه الاولى على ما يختزن التراث الشعبي من فنون تمثيلية. ويضيف إنه في العام التالي عام 1967، وعلى اثر هزيمة حزيران، نزح بعض اهالي قرية دير عمار الى الزرقاء، وهكذا امتزج لديه التأثر بالفن الشعبي في سن الفتوة مع التأثر السياسي بالهزيمة.

كتب خالد الطريفي وأخرج ومثل ثلاثة وثلاثين مسرحية ابتداءً من عام 1974 حتى الآن، وفيما يأتي أبرز تلك المسرحيات:

– “لعبة دُم دُم تاك “كانت أول مسرحية يخرجها لفرقة الفوانيس في العام 1983. وأردفها قبل نهاية العام نفسه بمسرحية “حلم طوط طاط طيط” مُخرجاً ومُعِداً وممثلاً.

– في العام 1984 شارك بمسرحية “فرقة مسرحية وجدت مسرحا فمسرحت هملت” في مهرجان المسرح العربي المتنقل في الرباط، في دورة واحدة لم تتكرر للمهرجان. هناك التقى خالد الطريفي بعبد الكريم بن رشيد وعبد الرحمن بن زيدان، اللذين كانا يناديان بالمسرح الاحتفالي، وأصدرت جماعته (مسرح الفوانيس) معهما بيانا مشتركا يشير الى أهمية مسرح الفرجة والمسرح الاحتفالي.

– 1985 أخرج لمسرح الفوانيس أيضاً مسرحية “رحلة حرحش”، تأليف نادر عمران، ومثل فيها دور رئيس جوقة وحكواتي.

– 1986 أعد وأخرج، بعد انفصاله عن فرقة الفوانيس، خريفة شعبية اسمها “تعليلة كان يا مكان”، مثّل فيها غنام غنام.

– في العام نفسه أعد وأخرج مسرحية “راوي مرسحي يمرسح اوديب”، التي عرضت في الدورة العاشرة لمهرجان دمشق للفنون المسرحية، وهي فرجة شعبية.

– 1987 أخرج توليفة مسرحية بين نصي “حلم منتصف ليلة صيف” و”روميو وجوليت” لشكسبير بعنوان “حان وقت الفانتازيا”، وعرضت في مهرجان قرطاج في تونس ونالت جائزة. وقد حملت مقاربته الإخراجية حساً كوميدياً بمستوياته السوداء والبيضاء، حسب تعبير بول شاؤول، قام على التخييل الحر، أو الفانتازيا، فبدا العرض ذا مناخ سريالي تسود فيه المخيلة سيادةً مطلقةً. ولإضفاء طابع محلي على هذه التجربة استخدم الطريفي عناصر شرقية: البخور، الدربكة، الدف، الأقنعة، الأغاني، الوصلات، الطرابيش، إضافة إلى الكراكوز، الطقوس الدينية، الأناشيد، خيال الظل، وعناصر مختلفة من التراث الشعبي(1).

التعاون الثنائي

في العام 1991 بدأ التعاون بين خالد الطريفي وغنام غنام من خلال مسرحية “عرس الأعراس”، التي أعدها الطريفي وأخرجها عن نص “عرس الدم”، ومثّل فيها غنام غنام إلى جانب سهير فهد، وفي العام 2007، مثّل غنام غنام أيضا في عرض “ملحمة فرج الله”، تاليف واخراج خالد الطريفي، وعرض في مهرجان المسرح الأردني الرابع عشر “الدورة العربية السادسة” .

يوظف هذا العرض الموروث شبه المسرحي المعروف بـ “خيال الظل”، بأسلوب ساخر يمزج بين الأداء التمثيلي والغناء والرقص، للكشف عن الصراع بين سلطة مستبدة يمثلها سلطان عثماني وثلاث شخصيات خيرة من أبناء الشعب أولها شخصية “فرج الله”. وفي العام 2007، مثل الطريفي بطولة مونودراما “انا لحبيبي” التي كتبها وأخرجها غنام غنام، وتدور أحداثها حول الممثل (علي المفارق) الذي يعيش مع ابنته الوحيدة دزدمونة، التي تفضل دوما البقاء متخفية تحت الطاولة. وخلال ثمانية مشاهد قصيرة نعيش مع هذا الممثل تفاصيل حياته الشخصية والفنية والاجتماعية: لماذا هو وحيد مع ابنته، وكيف تركته زوجته مخلفة له طفلة، وكيف خبأها ذات يوم تحت الطاولة حتى لاياخذها احد منه، وصار هذا المكان هو الاكثر أمناً حتى صار من الصعب إخراجها من مخبئها هذا. كما نتعرف على تفاصيل حياته العملية ومعاناته في الحصول على ادواره الخاصة، دور عطيل الذي يشغل حياته، ومعاناته بسبب عدم حصوله على اجر جيد، وكذلك اكتشافه انه لم يحصل على جائزة التمثيل، رغم أنه ابلغ بحصوله عليها.(2)

– 1994 اعد خالد الطريفي وأخرج مسرحية “انت مش انت” عن نص “انا لست حيا” للكاتب التركي عزيز نيسين.

– 1995 كتب وأخرج مسرحية “يا سامعين الصوت”.

– 1996 كتب وأخرج مسرحية “سوبرماركت رمضان”، وعرضت في الدورة الرابعة لمهرجان المسرح الاردني: وهي ارتجال تشخيص مسرح داخل المسرح، يتضمن أشكالاً فرجوية مختلفة (رقص وغناء شعبي) وينتمي إلى المسرح الانعكاسي (ميتاثياتر) حيث لا مجال للايهام.

– 2009، أعد وأخرج مسرحية “حلم اسمه ليلة حب”، عن نص شكسبير “حلم منتصف ليلة صيف” 2009.

وقد هجّن الطريفي في هذه المسرحية الحوار الشكسبيري بلهجات أردنية، مصرية، وبدوية، وقدّم مشاهد المسرحية في فضاء واحد على شكل حلقة، ، من دون كواليس، ملأها بمقاعد صغيرة يستخدمها الممثلون في جلوسهم، وتبديل ملابسهم على مرأى من المتلقين، ويغيرون مواقعها حسب مقتضيات كل مشهد، في سياق تمثّله لجماليات الفرجة وتقاليد مسرح الحلقة التي تبرز الطابع “اللعبي” والاحتفالي للعرض،

كما زاوج بين الجد والهزل، وعمد إلى الكشف عن اللعبة المسرحية وآلياتها، ووظف الأغاني والرقصات والموسيقى الشعبية، ومزج بين الأزياء الفولكلورية والحديثة، قرّب بين العالم الخيالي والعالم اليومي.

– أخيرا كتب وأخرج ومثل الطريفي عام 2010 مسرحية “كاسات الحب”. وهي ملهاة تحكي باللهجة المحلية الأردنية قصة زواج الكوميديا من التراجيديا، ونشوب صراع بين أهل الكوميديا والتراجيديا نتيجة لهذا الزواج. ويرمز هذا الصراع إلى صراعات كثيرة شهدتها البشرية منذ وجودها.

غنام غنام

يرتبط اسم غنام غنام (55 عاماً) بنشوء فرقة “موال” عام 1986، التي اسسها مع الكاتب والمخرج جبريل الشيخ وآخرين من بينهم يوسف أبو العز، حكيم حرب، سماح قسوس، ناصر عمر، ونبيل الكوني. وكانت باكورة اعمالها مسرحية “اللهم اجعله خير” تأليف غنام واخراج جبريل الشيخ، ثم غيرت الفرقة اسمها الى “مختبر موال” في العام 1990، ومنذ ذلك التاريخ بدأت تنشط في اتجاه ارساء مسرح الفرجة وبجهود دؤوبة لغنام غنام.

تحت اسمها الجديد “مختبر موال”، وبعد مغادرة الأعضاء السابقين، باستثناء غنام، اصدرت الفرقة بيانا خاصا بمسرح الفرجة في العام 1992، أتبعته بعد عامين بوثيقة ثانية تعتبر بمثابة وثيقة رؤيوية لعمل “مختبر موال” الساعي إلى مسرح لكل الناس، ومن أبرز ما ورد فيه:

– بناء العمل بالدلالة المتعددة التأويل في اتجاه واحد تبعا لثقافة المتلقي.

– القراءة المعاصرة المنفتحة للموروث الدرامي العربي، واستنباط خصوصياته الروائية والحكائية الساخرة الحساسة، واعتمادها على الكلمة والقول والنقل الشفهي.

–  دراسة أنماط الأداء في الفنون الشعبية، الأمر الذي يؤكد جرأة هذه الفنون في اعتماد التشخيص والايحاء بالتمثيل كأبرز انماط الأداء الدرامي، الى جانب فنون الموسيقى والرقص والغناء والحداء والارتجال.

– اعتماد الشكل الدائري (الحلقة) كحيز للفعل المسرحي، كون الحلقة هي الشكل الاساسي للاحتفالات الشعبية بمختلف أهدافها، كما أن الدائرة هي اكمل الاشكال الهندسية.

– اختزال التقنيات المساعدة والخروج على شكل المسرح الاغريقي والعلبة الايطالية وتفجير طاقة المؤدي لأعلى حد وكذلك خيال المتلقي.

– المتلقي المتفرج جزء عضوي من العرض الذي نعمل من خلاله على تفكيك المعرفة واعادة تركيبها.

صدر هذا البيان بعد أربعة عروض اولها “الجاروشة” عام 1991، وهو عرض مشبع بروح التراث وبأصداء الانتفاضة الفلسطينية، لكن على علبة ايطالية، والديكور يحتل مساحة واسعة كما يقول مخرجه غنام غنام في شهادة ابداعية له.

– العرض الثاني كان بعنوان “من هناك” لوليم سوريان، وقد جرت صياغته بروح عربية، وقدم في الهواء الطلق (ملعب كرة سلة)، وفي مطعم، وقاعة محاضرات. كما عُرض في القاهرة عام 1992 على هامش مهرجان المسرح التجريبي، واقتعد الجمهور على الخشبة وحول الصالة، وشكلوا حلقة.

– “عنتر زمانو والنمر ” في العام 1993 كان ثالث العروض بعد “الجاروشة” و”من هناك”. وهو ممن تأليف واخراج غنام، وفيه استحضار للمشخصاتية الشعبيين، وفي شهادة غانم عرض واف للتجربة التي قُدمت في العراق والمغرب. أما العرض الرابع فقد كان “الزير سالم” من تأليف وتمثيل غنام غنام وأخراج محمد الضمور. وقد نال جائزة الدولة التقديرية في الأردن لذلك العام. ثم كتب غنام غنام بعدئذ مسرحية “سهرة مع ابي ليلى المهلهل” كتكملة لـ “عنتر زمانو” واخرجها محمد الضمور أيضاً.

–  في العام 1994 أعد غنام وأخرج مسرحية “بدرانة” عن قصة للتركي بكر يلدز، وتنافست مع “ابي ليلى المهلهل”، وفازت الاخيرة عام 1995 بجائزة الدولة التشجيعية.

– في العام 1996 كتب وأخرج مسرحية “كأنك يا ابو زيد” وفازت بسبع جوائز في مهرجان المسرح الاردني. وقد كيّف غنام غنام في هذه الفرجة “السيرة الهلالية بجزأيها: السيرة والتغريبة، مستوعبا رحلة البطل الشعبي الراسخ في الوجدان “أبو زيد الهلالي” من الولادة القدرية إلى الموت القدري، هذه الرحلة التي تنطوي على أحداث عجيبة: صراعات وحروب وغزوات وحيل ومكائد وأطماع وأحلام بالتوسع والزعامة… ]ووظف غنام في العرض[ أنماطاً عديدة من التعبير الشفاهي والجسدي التي تحفل بها البيئة العربية ماضيا وحاضراً، كالتشخيص الارتجالي، والأداء الذي يعلن عن هويته المسرحية، واللعب، والمسخرة، والغناء والرقص والدبكات الشعبية، والحكواتي، والمبالغة، واساليب الشطار والعيارين في المنابزة والمناكفة، والتحطيب، مع الاستفادة الذكبة من تقنيات المسرح الحديث في السينوغرافيا”(3). لكن غناماً ترك الفرقة عقب هذه التجربة، وقال إن “للفوز متاعبه”.

– في العام 1997 ابتعد غنام عن مسرح الفرجة في عملين هما :”خمس دمى وامرأة”، و”البحث عن نوفان” نصاً وإخراجاً، واتجه في الأول الى مسرح اللا معقول وفي الثاني إلى نوع من الكباريه السياسي، ردا، كما يقول في شهادة له، على من يدعون بأن تهريجهم هو الكباريه السياسي. وقبل أن ينتهي العام نفسه أنجز غنام “منامة عبدالله البري”، وهي مسرحية للأطفال عاد فيها الى مسرح الفرجة نصاً وإخراجاً.

– في العام 1998 كتب وأخرج “ظلمة الامبراطور”، الذي حاز على جائزة التاليف في مهرجان المسرح الاردني. وفيه “يختزل حياة ثلاثة أجيال امبراطورية (الجد، الأب، والحفيد) في متوالية من الحكم والقهر والتآمر والخيانة. وتقوم المسرحية على سلسلة من الأفعال العنيفة الدموية، والإجراءات الانتقامية داخل مؤسسة الحكم الامبراطورية متكئة على الخيانة الزوجية والدسائس والمؤامرات. ويبدو أن المؤلف قد اقتبس المتن الحكائي للنص من الموروث العربي ليكشف عن فساد أنظمة الحكم، وانشغالها عن هموم شعوبها ومعاناتها بمشكلاتها الفردية(4).

– في العام 2000 عاد غنام غنام إلى مسرح الفرجة من خلال عرض كتب نصه وأخرجه بعنوان “ما قاله الراوي عن معروف الاسكافي”، إنتاج فرقة المسرح الحر التي أسسها مع عدد من الفنانين في الأردن، وهو قراءة جديدة لحكاية من حكايات الف ليلة وليلة، تنتمي إلى الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بداية الألفية الثالثة.

– في العام 2002 كتب واخرج نص “تجليات ضياء الروح”، وقد تحدث عنه قائلاً إنه “نص فرجوي بلغة صوفية لاثبات أن نصنا الفرجوي هو نصنا الكلاسيكي، ووصفه أيضاً بأنه “تعشيق الفرجة بتقنيات المسرح الكلاسيكي”.

قدّم غنام غنام في هذا العرض دراما متخيلة من أجواء التراث بطلها ملك شاب “ضياء الروح” يتوج حديثاً بعد وفاة والده، ويعلن زواجه من “فرط الرمان”، ابنة معلم وحكيم القصر “حكمة الزمان”، لكنه قبل زفافه يتعلق بطيف فتاة متخيلة اسمها “سر القمر”، فيصاب بنوع من الانشطار، ويذهب به الخيال إلى أبعد تصور لديه وهو اللحاق بسر القمر في نفس الليلة التي يكتمل فيها القمر، وتصادف ليلة زفافه، مما يخلق أزمة في القصر، وحين تتكرر المسألة تصاب “فرط الرمان” بالخيبة، فالملك الشاب لم يمنحها حقها الشرعي حتى الآن، وروحه ترفرف في مكان آخر. وهنا يذهب الظن بأبيها الحكيم إلى أن روحاً شريرة قد سكنت “ضياء الروح”، فيستخدم علمه ومعرفته لطرد هذه الروح، وتبقى النهاية مفتوحةً، وللمتلقي حرية رسم النهاية..(5).

– في العام 2003 كتب وأخرج نص “اخر منامات الوهراني”، وعرضه ضمن فعاليات مهرجان جرش، كما عرضه في الرباط والخرطوم. وهو يدور حول لقاء مفترض بين الشيخ إمام محمد عيسى صاحب الأغاني الملتزمة و الشيخ الوهراني الذي عاش في زمن الأيوبيين. وقد اشار غنام غنام في مقدمة النص إلى أنه ” عرض فرجوي مفتوح على التأويل ، مفتوح على الإغناء والإثراء، مفتوح على كل نوافذ الحلم و الحرية…”(6).

كتب غنام غنام في شهادة ابداعية له:

“من مسافات طويلة أقطعها حاجاً إلى سينما هشام و رمسيس و ريفولي سعياً إلى دهشة السينما التي كان يذيع أخبارها أبو زكية،حيث يجوب طرقات أريحا رافعاً لوحة الإعلان عن الفيلم على حمار فيما ينادي منغماً بمرافقة طبلته(شوف بطل للنهاية فريد شوقي و المليجي، و ماجستي يصارع هرقل..) من ألعاب ابي أمينة و حسن في أعراس اريحا، من صوت ابي زكر يبدأ الليلة بـ (كان عندي غزال) و يقفلها بـ (جفنه علم الغزل)، من خيال يطير مع ظلال (ستي عزيزة) حين نتحلق حول (لمبة الكاز) التي ترسم ظلالاً على الحائط أرى فيها الشاطر حسن و نص نصيص و الغولة،من رقص عباس من ساحة النافورة إلى حارتنا رجوعاً إلى الخلف وفاء بنذره على نفسه لو نجح في (المترك) و فعلها، من مساءات الشاي تحت شجرة البنسيان في بيت أبو العبد دومان، من الراديو الوحيد في الحارة وخديجة توقت للبرامج بعلامات ظل البيت، من موسم النبي موسى و كل ما يعتمل فيه من دروشة و تقرب و مجون،من شوارع أريحا تعمر بكرنفال البرتقال،و من تل العرايس الذي بناه هاني صنوبر في ساحة قصر هشام، من دور المعتصم يبكي على مسرح مدرسة شميدت في القدس ضمن مهرجان مدارس محافظة القدس و فوز (طفلي) إذ كنت في الحادية عشر من العمر بجائزة التمثيل، من كل هذا و ذاك، من ما ذكرت و لم أذكر، تكون الخيال والمخيال والذاكرة الأولى والصور الأولى.. من هناك عشقت ما لم أكن أعرف أنه مهنتي وحرفتي ومستقبلي ومصيري.. المسرح” وفي هذه الفقرة تبدو مقدمات اهتمامه بمسرح الفرجة.

ملاحظات

– يركز الطريفي في جل اعماله على القول والسرد المحكي ويأتي الحوار ليسند القول، كما في مفهوم عبدالقادر علولة الجزائري، بينما يتجه غنام الى الحوار المُطعّم بالسرد في عروضه.

_ يركز غنام على التراث الشفوي، والتراث الديني والشعري العربي. الطريفي يستفيد من التراث العالمي: شيكسبير، لوركا مع المحافظة في أغلبية اعماله على الاجواء الاحتفالية المحلية الاردنية والبدوية والفلسطينية والمصرية أحيانا، واللجوء شبه الدائم الى التشخيص، وكسر الايهام عبر الإيحاء للمتفرج أن ما يراه مجرد تمثيل، بما يجعله لصيقاً بمسرح الفرجة حتى لو كان العرض على الخشبة وليس في حلقة .

– مسرح غنام تثقيفي تأصيلي ومتنوع، بينما مسرح الطريفي احتفالي غنائي زاخر بالتهكم، ولا يخلو من “عبث” فلسفي.

_ يؤمن غنام بأن لمسرح الفرجة جذوراً في التراث العربي والاسلامي والوجدان الشعبي، وأن هذا المسرح يعكس ويجسد الهوية العربية الحضارية في مجال الفنون، بينما يعتبر الطريفي ان الفرجة تراث عربي وعالمي في الوقت نفسه، وأن المسرح الكلاسيكي يتضمن عناصر من الفرجة كما الجوقة في المسرح اليوناني وما يماثلها في مسرح شيكسبير ، وأن المطلوب استثمار هذه العناصر في أعمال لا تبتعد عن قواعد المسرح.

– تجدر الملاحظة هنا أن الحديث يجري هنا عن مسرح الفرجة من دون أن يكون ثمة مسرح قائم بذاته لفن الفرجة في الأردن. ليس هناك مقر دائم لهذا اللون المسرحي ولا لغيره، ولا فرقة متخصصة بهذا الفن، أو مؤلفين ومخرجين وممثلين يركزون جهودهم على هذا الفن أولاً رغم الجهود الخارقة والمشهودة التي بذلها كل من الطريفي وغنام. وليس هناك تبعاً لذلك جمهور يمكن احتسابه على أنه جمهور فرجة يبحث عن هذا الفن ويسعى اليه. وذلك على أية حال ليس ذنب رواد هذا الفن، بل هي مسؤولية الإدارة الثقافية الرسمية ، والمجتمع الثقافي المحلي الذي لا يوفر فرصة لتفرغ الفنانين ولإقامة مسرح دائم. وعليه يتجاور هذا النمط الفني جنباً الى جنب مع اشكال أخرى من المسرح “التقليدي”.

– يسجل لهذا الفن ومريديه، وهما في المقام الأول خالد الطريفي وغنام وغنام، انهما بعدما أطلقا مفاهيم مسرح الفرجة وطرائقه، فقد تسللت هذه المفاهيم والصيغ الى العروض المسرحية المختلفة، وما كان ذلك ليحدث لولا التأثير الذي لعبه هذا المسرح، وقد ساعد على ذلك ان كلا من الطريفي وغنام لم يدخر أحدهما جهداً في التبشير بهذا الفن ،وتوجيه الإضاءة إليه في المقالات والبيانات والمقابلات الصحفية التي أجريت مع كل منهما. فضلاً عن حضورهما كممثلين في مسرحيات لفنانين أردنيين آخرين.

_ هناك قدر ملحوظ من الاتفاق على تسمية هذا الفن المسرحي بـ “مسرج الفرجة” في الأردن، كما في غيره من الديار العربية. وهي تسمية تنسجم مع تطلعات أصحاب هذه التسمية، لمسرح يجمع بين الانطلاق من نواة نص الى الارتجال، بين القصدية في توجيهات المعد والمخرج وعفوية الممثلين وبداهتهم، ويستلهم حلقات القوالين والأسواق وتجمعات المناسبات الدينية والاجتماعية. ومن الواضح أن التسمية تتعلق بدور الجمهور الذي يتفرج على عرض تتخلق بعض أجزائه أمام ناظريه وعلى مسمع منه، وبالمادة المسرحية المرنة التي تجتذب اليها متفرجين فتكون فرجة.

يبدو لصاحب هذه الورقة أن التسمية موفقة كتسمية أولية لا أكثر، ففي مأثورنا الاجتماعي وسلوكيات الحياة اليومية، فإن الفرجة نشاط ساكن وسلبي يتم من بُعد ومن مسافة تقصُر أو تطول عن مسرح الحدث حسب الظروف.. ليست الفرجة نشاطاً تفاعلياً أو ايجابياً بالضرورة بل هو انفعالي غالباً، إذ يروم المتفرج المشاهدة والإصغاء لما هو مثير وغريب، فإن لم يصادف ما ينشده فسرعان ما ينصرف الى حال سبيله، خلافاً لهدف التشاركية المتوخاة بين الجمهور والقائمين على العرض، التي بشّر بها رواد هذا الفن في المشرق والمغرب.

ومادة الفرجة الى ذلك تحتمل السلب والإيجاب مع تغليب احتمالية السلب، ولهذا تشيع عبارات استنكارية مثل:” الى متى نقف متفرجين مكتوفي الأيدي..”، “من يعد العصي (متفرجاً) ليس كمن يأكل العصي”، ولهذا يجتذب المتفرجين حادث سير عنيف أو مشاجرة في عرض الطريق، كما أن أداء لاعبي السيرك أو الطريقة الغريبة لمناداة بائع على بضاعته في السوق الشعبي، ومثلها مباراة كرة قدم تجتذب متفرجين. وفي سائر هذه الحالات وما يشابهها، فإن المتفرج يكون في حال انفعال متفاوت الدرجة، لا في حالة تفاعل مع ما يشهده ويستمع اليه.

الفرجة حمالة أوجه في أجود الأحوال وقابلة لاحتمالات متضاربة، منها إضافة الى ما سبق أن ما يثير فضول الفرجة لدى شخص ما، فإنه قد لا يدفع شخصاً آخر للفرجة، بل يحمله على إشاحة البصر.

إننا لا ننعت العروض الدرامية التلفزيونية بأنها رؤية أو مرئيّة ، ولا الأعمال السينمائية بأنها مُشاهَدة، فلماذا نصف نمطاً مسرحياً بأنه فرجة؟ علماً بأن الأنماط المسرحية الأخرى المسماة بعروض العلبة الايطالية تستهوي متفرجين وهم في هذه الحالة جمهور يتفرج، وإلا ماذا يفعل هذا الجمهور الذي سبق أن سُمّي بالنظّارة ( مَنْ ينظرون) ولأي غرض قصد مكان العرض، إن لم يكن للفرجة على مادة أنتجت ويجري أداؤها بالفعل لغرض الفرجة؟.

لا أقترح إسما آخر لهذا المسرح، وأكتفي في هذا المقام بما تقدم من ملاحظات على التسمية.

– ثمة تساؤل تثيره التسمية ينطلق من كون المزج متاحاً بين المسرح التقليدي ومسرح الفرجة على الخشبة، وخاصة في المسارح الدائرية التي تحتمل اقامة عرض فرجوي.. وأعمال الطريفي وغنام تتراوح بين هذا وذاك.ويتبين من أعمالهما أن المسرح “التقليدي” او الكلاسيكي قابل بقدر من الخيال لاستيعاب عناصر من مسرح الفرجة، وأن الأمر ليس مرهونا بالحلقة أو الأداء في الهواء الطلق بل بالرؤية الاخراجية والمعالجة الدرامية. يتحدث الناقد عواد علي في كتابه “المماثلة والاحتمال: قراءات في تجارب مسرحية اردنية” عن معالجة خالد الطريفي التي تنحو نحو إضفاء نوع من الأسلبة، في بعض المشاهد، على أداء الممثلين بالمعنى الذي دعى إليه المخرج الروسي مايرخولد، أي إزاحة عنصر المماثلة أومحاكاة الواقع عن الأداء الحركي والإيمائي والصوتي للممثل، بإضفاء طابع مسرحي بحت عليه يدركه المتلقي على أساس أنه نوع من اللعب وتقديم الفضاء المسرحي بوصفه مقترحاً جمالياً أو إطاراً تعبيرياً مختزلاً بمفردات سينوغرافية بسيطة يحركها الممثلون، ويغيرون مواقعها ودلالاتها في سياق أدائهم المسرحي(7).

في ضوء ما تقدم يتبين أن ما يعرف بمسرح الفرجة قد ترك بصمات على الحركة المسرحية في الأردن، منذ ثمانينات القرن العشرين، ويعود لخالد الطريفي وغنام غنام فضل التعريف بهذا اللون المسرحي وتنفيذ عروض ترتبط به وتقدم تجسيدا له. مع تباين بينهما يقوم عند الطريفي على أن بذور مسرح الفرجة كامنة في تراثنا وفي التراث المسرحي العالمي على السواء، وأن هذا الفن من المرونة بمكان بحيث يمكن ترجمته على خشبة المسرح (الركح) كما في الهواء الطلق، بينما ينحو غنام غنام للاعتقاد بأن تراثنا فرجوي، وأن الأشكال والمظاهر المسرحية الأولى من مواسم ومناسبات دينية واجتماعية وفنون الحكواتي، هي بمثابة “كلاسيك المسرح العربي” ، وتكمن هويتنا المسرحية هناك منذ القدم، وأنه لا بد تبعاً لذلك من أن يخرج المسرح الى الشارع الى الناس، وأن لا يبقى حبيس الخشبة والمتفرجين المتسمرين على مقاعدهم. غير أن واقع الحال يفيد ان المقتضيات الفعلية للنشاط المسرحي كالمواسم والمهرجانات الدورية قلما منحت غنام الفرصة للعمل خارج الخشبة، فضلا عن لجوئه لإنتاج مسرحيات خارج مفهوم مسرح الفرجة ، وذلك تبعا للفرص المتاحة المتعلقة بعملية الإنتاج والتمويل الرسمي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

(1)  عواد علي، “شكسبير بثياب الفرجة: حلم اسمه ليلة حب”، جريدة الدستور الأردنية، 16/4/ 2009، وبول شاؤول، المسرح العربي الحديث، لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1989، ص 295.

(2)  د. حسين علي هارف، “قراءة في العروض العربية لمهرجان الفجيرة الدولي الثالث للمونودراما”، جريدة المدى (بغداد)، 12 كانون الثاني/ يناير 2008.

(3) عواد علي، المماثلة والاحتمال: قراءات في تجارب مسرحية أردنية، ص 24، 25، سلسلة كتاب الشهر، وزارة الثقافة الأردنية، 2011.

(4)  عواد علي، المرجع نفسه، ص 80.

(5)  عواد علي، المرجع نفسه، ص 83.

(6) يُنظر: الموقعين الالكترونيين:

www.al-masrah.com، www.alwarsha.com

(7) عواد علي، المرجع نفسه، ص 68.

* أديب من الأردن

محمود الريماوي*

 

http://www.qabaqaosayn.com


شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *