منصة التجارب.. المبهرة

عقب حفل ختام النسخة الثالثة والعشرين من أيام الشارقة المسرحية التي أختتمت في السابع والعشرين من مارس الماضي، أطلق عضو المجلس الأعلى حاكم

الشارقة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، مبادرة «ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي»، وهو أمر ليس بجديد على الرجل، المهتم بثقافة المسرح، والمهتم أيضاً بتطوير مفهوم هذه الثقافة في العمق والهدف، وليس في الشكل، فهو كما نعلم صاحب أياد بيضاء على المسرح المحلي والعربي، على مستوى عديد المبادرات، وربما كان أحدها تشكيل (الهيئة العربية للمسرح) في شهر سبتمبر عام 2007، حينما أعلن ذلك عقب كلمته المهمة في يوم المسرح العالمي بباريس، مكلفا جمعية المسرحيين بالعمل على إنشاء هيئة عربية للمسرح، على غرار الهيئة الدولية للمسرح. واليوم نقف على عتبة مبادرة جديدة وكبيرة في حجمها ومعناها، ومهمة على صعيد القيمة الفنية والفكرية، وجمع شمل العاملين في حقل المسرح في دول مجلس التعاون، ملتقى سيكون بمثابة حلبة مسرحية ذات محتوى يستفيد من كل التجارب المهرجانية السابقة، لعرض إبداعاتهم وتجاربهم وأحلامهم في المسرح، فهل كانت المبادرة خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو مسرح خليجي، متنامي، مستدام، يواكب في منظومته التطور المتسارع الذي يشهده العالم، وبخاصة في مجال الفنون البصرية والحركية.

 

في الواقع أن خطوة صاحب السمو حاكم الشارقة، لم تأت صدفة، ولم تحدث من فراغ، فهي أولا صادرة من مثقف مهموم بالفعل الإبداعي، وكاتب مسرحي له باع طويل مع فن الكتابة بلغة جديدة، كما أنها جاءت بعد (معاينات دقيقة) للمشهد المسرحي الإماراتي، والمشهد المسرحي الخليجي، ولهذا فحينما نقول (ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي)، فنعني بذلك كل ما يتصل بهذا المسرح الكبير في إمتداده الجغرافي، والكبير في محتواه من تجارب ورواد، ورجال مسرح، وكل ما يتصل بهذا المسرح الذي يكاد يتقارب العاملون فيه في مناح كثيرة، أهمها (الحالة المسرحية) التي ينشد الجميع الوصول إليها في إطار تحقيق الهوية، وتأكيد مفهوم الشخصية الخليجية. لن نقول إن هذه المبادرة هي نتيجة شعور، بأن هناك أزمة فنية ما، بقدر ما نود القول إنها تحرك عام في مفهوم تطوير رسالة وخطاب المسرح، فإذا كان لدينا مهرجان للسينما الخليجية، فلماذا لا يكون لدينا، ملتقى أو مهرجان، للمسرح الخليجي يطمح إلى جمع أبناء هذا الفن العظيم في مكان واحد، في موسم محدد، للمساهمة في النهوض بالحراك الثقافي المسرحي في إطار مشروع ثقافي فكري، تحتضنه مدينة الشارقة التي اعتادت على الغوص في الشأن المسرحي بروح وثابة عالية؟

مبادرات سابقة

 

ربما يكون من المهم قبل الدخول إلى موضوعنا الرئيس، الإشارة إلى المهرجان المسرحي للفرق الأهلية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكانت العاصمة أبوظبي، قد احتضنت النسخة الثامنة منه في شهر ديسمبر عام 2003، وكانت هذه النسخة من المهرجان حافلة بالعروض المسرحية المميزة، وحضور نخبة من المسرحيين والمثقفين والمفكرين من أبناء دول مجلس التعاون، بمعنى أدق، كانت النسخة بمثابة احتفالية بالمسرح ورواده، وبالفرق التي لم نعد نسمع عنها الكثير، فكما نعلم أن الفرق المسرحية، سواء خليجيا أم عربيا، هي عرضة على الدوام للأزمات وبعثرة الجهود، والمعاناة من نقص الدعم المالي، الذي غالبا ما يكون عاملًا أساسياً في غياب بعض الفرق عن الحضور والتأثير في مسيرة الحركة المسرحية، فتذهب الأحلام أدراج الرياح، وربما يكون سمو حاكم الشارقة قد انتبه في كلمته التي ألقاها في ختام أيام الشارقة المسرحية الأخيرة إلى هذا المهرجان، حينما أشار بما معناه أنه ما زال بحاجة إلى إعادة النظر، والتقييم، ولهذا ولأشياء كثيرة، يمكن القول إن ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي سيكون بمثابة الطرقة المسرحية الجديدة، نحو النهوض بهذا المسرح من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث توفير قيادة مسؤولة عن تطوير مفهوم المسرح، في إطار منظومة فكرية، تحمل (صفة خاصة) للمسرح الخليجي على طريق استيعاب جمهور المسرح أولًا، وعلى طريق تنمية الذائقة، باتجاه المسرح الجاد الملتزم، بعد أن أفسدت الكثير من الفرق هذا الذوق الفني بأعمال مسرحية ليست بالمستوى الذي ننشده.

 

هذا الملتقى الجديد والطموح، هل سيعيد كل فرق المسرح، وكل المسارح في الخليج، إلى مرحلة جديدة من الانفتاح على مسرح معاصر، يليق بمسيرة هذا المسرح الممتدة منذ عقود؟ وهل يشكل طريقاً للخلاص؟

ليس لدينا بعد تفاصيل كثيرة عن المحتوى العام للملتقى الجديد، ولكن صاحب السمو حاكم الشارقة، صاحب المبادرة، ومن موقعه كمهتم بتطوير فن المسرح، حتى على المستوى العربي والدولي، قال في كلمته حول هذا الأمر: «سيكون ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي كبيراً، على قدر قامات ممثلي الخليج، ويعمل على تطوير المسرح، ومدّ جسور التبادل الفكري بين أبناء شعوب المنطقة، لا نلغي أيام الشارقة المسرحية، هذه لها برنامج محلي، ولكن سنقوم بعمل أكبر وأوسع، وعلى قدر قامات ممثلي الخليج، يكون حجم المهرجان المقبل». وهذا يعني ضمنا أننا سنكون أمام تظاهرة ومهرجان مسرحي، يضاهي في تنظيمه أيام الشارقة المسرحية، لأنه أولا سيجمع أبناء الخليج من المسرحين للعمل والتحاور في شأن تطوير هذا المسرح، ومن ثم التوجه نحو (تصويب الحالة المسرحية الخليجية)، ضمن خطة واضحة، في إطار مشروع رسمي، سيخصص له حتماً دعماً مالياً، يكفي لتحقيق الأهداف المرجوة من وراء تأسيس الملتقى بإحياء الحركة المسرحية في منطقة الخليج، وإثراءها بالإبداع والفكر الجديد، والرؤية المستقبلية للخطاب المسرحي، وإتاحة الفرصة للاحتكاك بالتجارب الإبداعية المختلفة ما بين أجيال مختلفة من المسرحيين، بما يحقق بالضرورة (حوار التجارب المسرحية) الذي ننشده، دون أن ننسى أن الدعم الرسمي الشامل الذي سيحظى به الملتقى الجديد، على مستوى التنظيم وإعداد اللوائح والقوانين والآليات والمواصفات، وغيرها من الشروط، سيوفر الكثير لبناء بيئة صالحة للإبداع المنتظر.

مشاهد مشرقة

في ظل ما ذكرناه ونتمناه، وفي ظل المشهد المسرحي المعاصر في الإمارات، وفي بعض دول مجلس التعاون مثل الكويت وقطر والبحرين، حيث المشهد مختلف في مناح عديدة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يأتينا ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي، متخفيا في زي قديم من التجربة المتذبذبة لمهرجان الفرق الأهلية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي يبدو أنه يكرر تجربة غياب اتحاد المسرحيين العرب، وعلى ذلك فهناك مسؤولية ضخمة تقع على عاتق المسرحيين في الإمارات أولا، فهم أصحاب المبادرة والمكان، ومن ثم على فناني مسرح الخليج، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من المشروع، بل أنه أقيم كما يبدو من كلمة صاحب السمو حاكم الشارقة، لهم، ولن ينجح بغير جهودهم، ومحاولاتهم وتجاربهم الناجحة، وبخاصة في مسرح الكويت، الذي يمتلك معهداً للفنون المسرحية، ويصدر لنا جملة من المهرجانات المسرحية، ربما يكون أهمها آخر مهرجان انطلق قبل نحو عامين تحت عنوان (المهرجان الأكاديمي للمسرح)، والذي يرصد قضايا وتقنيات المسرح المعاصر، ويقام المهرجان كل عام مرة بمناسبة انطلاق الاحتفالات باليوم العالمي للمسرح في السابع والعشرين من مارس من كل عام. ولاننسى في السياق جملة المهرجانات المسرحية التي تنظمها دول المجلس، مثل مهرجان قطر المسرحي، الذي ينظمه المجلس الوطني للتراث والثقافة، وكذلك مهرجان مسرح أوال في مملكة البحرين، وفي المملكة العربية السعودية نتابع مهرجان الإحساء المسرحي، الذي قطع حتى وقتنا هذا نحو أربع دورات ناجحة، مضافا إلى كل ذلك سلسلة المهرجانات المسرحية التي تنظمها بقية دول مجلس التعاون، ومشاركة المسرحيين في هذه البلدان في معظم مهرجانات المسرح العربية، وعدد من مهرجانات المسرح العالمية، بما يشي بأن هؤلاء يحملون تجربة مسرحية ذات صلة بالإبداع المتنوع، وان ملتقى الشارقة الجديد، سيستفيد من تجارهم، كما أنه سيعمق رؤيته المستقبلية للمسرح الجاد، من خلال النظر بجدية ووضوح في قضية قطبي التجربة المسرحية العرض والجمهور.

في تقديري أن (ملتقى الشارقة للمسرح الخليجي) في أول انطلاقة له، سيكون منصة ونافذة حقيقية لتسليط الضوء على أهم ما يعاني منه الفنان المسرحي الخليجي، سواء على مستوى الفكر، أو على مستويات التقنية واللغة والنص المسرحي المحكم ذات الصبغة المعاصرة، والشكل المسرحي الأصيل، ومن ثم على مستوى تقدير واحترام المهنة، وإشاعة روح النقد المسرحي الموضوعي المتخصص، حتى نصل إلى مفهوم جملة الكاتب الروسي الشهير رائد فن التشخيص والتقمص قسطنطين ستانسلافسكي، الذي أطلق يوما مقولته الشهيرة: «أعطني مسرحاً، أعطيك شعباً عظيماً».

العباءة الخليجية

وفي السياق يمكن القول إن هذا الحدث سيكشف لنا الكثير مما هو حقيقي ومختبئ في عباءة المبدعين الخليجيين، من ممثلين وكتاب ومخرجين ومفكرين وعاملين في مجالات لواحق العرض المسرحي (الإضاءة، الصوت، الديكور، الموسيقى، فن السينوغرافيا، الكتّاب، الموسيقى)، وأن هذه الحالة المسرحية، ستكشف بلا شك عن صفوف جديدة من الموهوبين في مناخ للتعلم من تجارب الآخرين، هذا فضلا عن إنعاش حركة التواصل بين المسرحيين، والتي بدورها تسهم في فتح الأفق الفكري، والبعد الفني للمسرح من خلال تبادل الأفكار، وتضارب الآراء، أو توافقها حول مقومات المسرح، وحول قيمة العرض المسرحي.

ولا ننسى في هذا السياق أن إمارة الشارقة ستقدم نفسها بصورة جديدة من خلال الملتقى المنتظر، ستقدم صورة وجملة إضافية عن نهضتها المسرحية والثقافية، وعن رؤيتها الشاملة للإبداع النظيف، والشارقة بذلك لا تنفصل عن رؤية الدولة للمبدع والإبداع الحقيقي الملتزم في فضاء واحد.

ثمة رؤية طموحة تأتينا من خلال الملتقى، ليس فقط على صعيد تجمع المسرحيين الخليجيين في الإمارات، ولكن على صعيد أهم من ذلك بكثير، فكما نعلم من التجربة أنه من العسير أن يتطور المسرح ويرتقي بدوره ورسالته دون أن يكون هناك تجمع حقيقي للفكر المسرحي، الذي نجده بين أيدينا من خلال هذه التظاهرة وغيرها، بل إن التجربة التاريخية للمسرح منذ بداياته في عهد الإغريق، تؤكد أن المهرجانات الدينية (أعياد ديونيسيوس)، والمواسم، ومناسبات الأعياد، هي التي أنتجت هذا الفن العظيم، الذي استقت منه كافة مسارح العالم الشكل والرؤية والمضمون، وعموما ينظر دوما إلى المهرجانات بأهمية بالغة، إذ تجتمع فيها الفرق المسرحية بطواقمها المختلفة، وتحضر الكلمة النقدية متسيدة المشهد كله، ما يعني أن هذه المبادرة الشارقية، هي نسخة جديدة للحوار الجاد العميق، وتنويع الثقافة، لبناء جيل جديد من المسرحيين، لمواصلة المشوار، والتألق في عالم أبي الفنون، بعيدا عن تكرار الوجوه والأفكار.

انطلقت مبادرة حاكم الشارقة، وأصبح الأمر واقعا، لا يتطلب سوى وضع النقاط على الحروف، وبوسع المراقب للحراك الثقافي والمسرحي في إمارة الشارقة، أن يلاحظ أن هناك جهودا نوعية وصادقة مبذولة للارتقاء بالذوق والشأن المسرحي العام. صحيح أن ليس كل شيء مكتمل، فالدورة الأخيرة من أيام الشارقة المسرحية، حملت إشكاليات وبعض علامات الاستفهام على مستوى بعض العروض والجانب الإعلامي، كما ورد في توصيات لجنة التحكيم، إلا أن هذا لا يعني أن نقف عند هذه الحدود، فالمسرح كما نعلم فن يتطور كل فترة، ولهذا فإن الاستجابة السريعة لهذه المبادرة وبلورتها في إطار مهرجاني، يحتاج منّا إلى الالتفات إلى أمر مهم ويتمثل في ضرورة عدم إغفال الجانب الفكري في الاحتفالية، وأن يكون النص المسرحي المتميز والجديد والمعاصر فكراً وشكلًا ومضموناً، والجمهور، والناقد الشرعي، هم الشعار الأساس في خريطة الحدث، وهنا من الواجب الاهتمام بخلق الحالة المسرحية التي تفضي إلى تحقيق (عادة المسرح) بمعنى أن يصبح للملتقى جمهور مسرحي ثابت، مكتسبا بجدارة لعادة دخول المسرح، جمهور نبنيه نحن، حتى يصبح مع الوقت قادرا على تعلم كيف يفرق بين (الفن الجيد) و(الفن الهابط) أو (بين الفن واللافن). نأمل أن يعدّ جيدا لهذا الحدث المسرحي الكبير المنتظر، وأن تكون هناك مائدة مستديرة مسبقة لتدارس كل ما يتعلق بهذا الإنجاز الذي نعتز به جميعا.

أحمد علي البحيري

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *