«الغرف الصغيرة» حفاوة دمشقية بالمشاعر العدوانية

أكثر ما يلفت في النص المسرحي «غرف صغيرة»، للكاتب السوري وائل قدّور، أنه يشي بانهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمع السوري، بناءً على تمركز خصلة

 

الكذب والرياء في العاصمة دمشق، ومن ثم تشوّه البنية الأنثربولوجية لأناس هذه المدينة، وتأثيره في صفات المدن الأخرى، التي تتخفّف مع الأرياف من طقس ارتداء الأقنعة والفصام في التصرفات والمواقف. تدور الأحداث في العام 2010، في دمشق، وقد افتتحت المسرحية، برنامج «منمنمات: شهر سورية»، في مسرح «دوار الشمس» في بيروت، وأخرج قدور نصه، بينما أنجزه دراماتورجياً عبد الله الكفري. وسيوقع، في 19 نيسان (أبريل) الحالي، الكاتب السوري الفارس الذهبي، نصه المسرحي «زفرة السوري الأخيرة»، فيما تعرض مشاهد مسرحية، عنوانها «الآن، هناك»، في 4 أيار (مايو) القادم، تليها قراءة لمسرحية «حكايات سورية من لبنان» لحنان حاج علي ونبراس شحيد، ويعيد يامن محمد، ضمن الشهر الثقافي السوري، عرض مسرحيته «المراقب»، بعد عرضها في دمشق، الخريف الماضي، وتقدم فرقة «سما» عرضها الراقص «سيلوفان»، إضافة إلى حفلات موسيقية عدة، ومعرض فني.

وعلى العكس مما تبدو عليه صَبا (الممثلة فاتنة ليلى) الفتاة الجامعية التقليدية البسيطة، التي تعتني بأبيها الغائب عن الوعي، مدة ثماني سنوات، فهي تحرك الشخوص حولها بتمرّدها المُبطّن، وتتلاعب بشكل العلاقات حولها، وفي العلن تتحدّى المجتمع والجيران حين تسمح لصاحب الدكّان سعد (الممثل شادي علي) بالتردّد إلى منزلها والبقاء عندها ساعات، لتقيم معه علاقة لا يتقبّلها عادةً المجتمع الدمشقي بسهولة؛ ورغم أن الشخصية الذكورية الثانية الطبيب عمّار (الممثل وائل معوض)، تبدو طوال المشاهد ملتزمةً بمهمة مهنية في علاج الأب، ومرتبطة بصداقة اجتماعية تفاعلية مع الفتاة، إلا أن النصّ يكشف عن علاقة بين صَبا وسعد، كل هذا في الخفاء، وفي غرف صغيرة، من شقّة في دمشق.

إن الفتاة تريد مُخلّصاً لها من حبسها الطويل، وهي تُسخِّر لذلك مقدراتها، لتصل إلى طريقة ناجعة من أجل الهرب، رغم استكانتها الشكلانية وخفوتها الشخصاني، الأخ (كمال) الغائب عن النص، يُمثّل خوفها المستمرّ من انفضاح العلاقة الأكثر إشهاراً مع سعد، بينما يحضر الطبيب كل سبت، بطريقة شرعية، وهي تبدي معه صراعات نفسية حادة، تظهر في تعاملها مع قطة أحضرها لها الزائر الأسبوعي إلى منزلها، إذ تعترف في أحد المشاهد بأنها تضرب القطة على رأسها، بعد أن خدشتها بمخالبها، لتجهز عليها لاحقاً، بناءً على كونها كائناً ضعيفاً، وهي هنا تتقمّص براءة القطة، أي أنها تقتلها كما لو أنها تقتل ذاتها، ممارسة القتل الذي يمارسه المجتمع عليها، من خلال حجزها كل يوم مع والدها المريض، فهي الضحية والقاتل معاً، وتتطوّر الرغبة في القتل، لتنضج رغبتها في قتل الأب، للتملّص من الدائرة العائلية، لتتزوّج وتعمل، وتعيش حريةً يوميةً، قد تكون رتيبةً، لكنها ممنوعة عنها.

تتصاعد وتيرة فوبيا الذنب، فمرةً تريد الهروب مع سعد، ومرة تقنعه بأنها تختبر حبه فقط، وأنها لن تتخلى عن أبيها، وهنا يأتي فعل الانتحار كمعادل، للتشويش الواقعي الهائل الذي تتعرض له الشخصية، بناءً على أعمال منزلية إجبارية، سواء غسيل الملابس، أو تنظيف حفاضات الأب. يستخدم قدور صوت غسّالة تعمل.

سينوغراف (مهيار الجراح) البسيط في منتصف المسرح، يبدو معيقاً لحضور صبا في المشاهد الأولى، كممثلة وكشخصية تتحدث عن ذاتها، إذ توضع كنبة صبا بطريقة جانبية بحيث لا نرى وجه الممثلة في أهم تعبيراتها الأولى، ومن ثم، يبدو أداء الممثلة ضعيفاً، وأشبه بهمس إلى الذات وإلى الطبيب على الأريكة الأخرى الأكبر، همس غير مسموع، أخرج الأداء في بعض الأحيان إلى مساحات من الحرج والتلكّؤ التمثيلي، مع السرد والجمل الحوارية الطويلة، لكنّ الممثلة تتدارك الخلل في المشاهد اللاحقة، فتقف على المسرح مقابلة بوجهها الجمهور، أو مستعدة لفتح الباب للضيفين، سعد وعمار، وتوجيه جمل لاذعة بصوت قوي.

الحبيبان السرّيان، ما هما سوى معادل للأب المريض والأخ المتحكّم، تهرب من أحدهما لتلحق الآخر، إذ تعيش الشخصية كما لو أنها طفلة مدللة بينهما، أي أنها ترفض خروجها إلى المجتمع ونضوجها، ومن ثم تحمُّلها المسؤولية، وهي لا تدخل غرفة الأب، أحياناً، مدة يومين، أي تعيش مع جثة هامدة، وترغب يومياً في أن تموت هذه الجثة، لأنها لا ترمز إلى الأب، بعد تموّتها، إنما هي عائق بشريّ أمام الحرية.

هناك ما يُؤكِّد النزعة العدوانية عند صبا وعمار، إذ يشتركان كلاهما في أفكار قتل الأب، وطرح أفكار حول السيناريوهات المحتملة، وردّ فعل الأخ، ثم تقريره مصيرَ أخته، وفي الأحوال كافة، يُطرَح سؤالٌ أكثر توسّعاً، لِمَ لا يتوافر مركز طبيّ يستقبل مثل حالة الأب الصحية في المدينة؟ أو لِمَ لا تهرب صبا؟ هل هذا المجتمع هو مُتفرّج رديء على آلام الضعفاء؟

هناك في مكان المسرحية (مدتها 95 د) ما يقود إلى الجنون، إن دمشق تحت وطأة الترسّــــبات الطــويلة من القمع، بحيث لا تستطيع الشخصيات القرار، وبحيث أن لا امتلاء داخلياً هناك يُمكّن من الاستقلالية والفردانية، إنه مجتمع يجيد تمثيل أنّ كل شيء على ما يُرام، مجتمع تُعلّم فيه الفتاة منذ صغرها التصنّع، لتتكوّن كما لو أنها أشبه بدمية بلاستيكية، تقول: نعم، في حين يجب عليها أنْ تقول: لا، وتتعجّب من جمال ما حولها، في حين وجب عليها أن تقول بصوت عالٍ: ما أقبح ما يجري حولي!

 

رنا زيدhttp://alhayat.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *