المثقف ” التوي ” بين بائع آراء وغاسل أدمغة ..!

” برتولت بريخت ” كاتب ألماني يعّد من أعظم كتاب المسرح في القرن العشرين وهو طريدة غير مناسبة للباحثين عما هو خارج الفكر فهو يفكّر في كل شيء ونقيضه .. كما إن لسانه لا يزّلُ بل هو ينتقد من طرف خفي لا على غرار الخبيث – الساخر – الذي يقف مع الحقيقة ونقيضها بوصفها ازدواجية لهذا ينطبق عليه تماما الحكم الذي تطلقه إحدى شخصياته على “هيغل”.

 

 


تطرح مسرحيات ” برتولت بريخت ” قضايا تمس الوطن والوعي وعلاقة الحكومة مع الشعب ؛ يطرح دلالاته بطريقة رمزية وعابرة ومعظم مسرحياته تطابق والوضع العربي الحالي بعد تفجر الربيع العربي وانطلاق الصوت الإنساني ..

في إحدى مسرحياته والتي بعنوان “الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة ” يعرض ” بريخت ” حكاية بلاد تمر بأزمة وقد سماها باسم خيالي” ياهو ” وتعيش فيه جماعتان .. جماعة الرؤوس المستديرة ” تشوك ” وجماعة الرؤوس المدببة ” التشيش ” وتعيش كلتا الجماعتين في وئام وسلام إلى أن تؤدي الألاعيب السياسية إلى زرع الشقاق والخلاف بينهما .. ولا يمكن أن تستمر فيها الأمور كما كانت فيما مضى إذ يجد الشعب نفسه أمام خيار صعب ومخيف : الاشتراكية أم البربرية..؟!

والحالة هذه تنطبق على معظم دول الربيع العربي ؛ حيث غدا ” الإختلاف ” تهمة وجريمة والكل يريد أن يُجرّ الآخرين إلى اختلافه ؛ كي ينشدوا التماثل المنشود متناسين أن الله تعالى خلقنا شعوبا وقبائلا ومختلفين ولو شاء لجعلها أمة واحدة ..!

يقول ” برتولت بريخت ” في موقف ما : ” هل بعت نفسي ؟ ويأتي الجواب عن هذا السؤال قاطعا: ” لا تأتي آرائي من كوني هنا وإنما أنا هنا لأن لدي هذه الآراء ..”

من هنـــا نسدل الستار على مسرحية” في غابة المدن” و” بريخت “المبدع الخلاق يخترع لفظة “التوي” ويعني المثقفين الرسميين الذين يبيـــعون الأفكار الجــاهزة ويتلاعبون مقابل المال بالكلام الأفكار والآراء..!

وهنا الصفقة تجري بين ثري يدعى ” شلينك ” وبين موظف في المكتبة يدعى ” غارغا ” حيث يطلب الثري من الموظف ” غارغا” أن يبيعه رأيه ؛ فصورة بائع الآراء بوصفها صِنْو الفنان المنتج وفساد الإنتاج في التبادل هو موضوع يعتبر هاجسا من هواجس ” بريخت ” منذ إقامته في هولندا حيث لا يتحدث المهاجرون الذين حققوا ثروة فيها إلا ” بالصكوك” وحيث الفنان التقدمي كما يرى ” بريخت ” أنه لا يمكنه أن يعيش إلا إذا صار بائع أكاذيب كما ينص : ” أقصد كل يوم ، لأكسب لقمة عيشي ، السوق التي تُشترى فيها الأكاذيب ..”

إن المثقف ” بائع الآراء ” هو من أطلق عليه ” بريخت ” اسم ” التوي ” وهو مشروع فكّر فيه ” بريخت ” طوال عشرين عاما كرواية يسميها ” التوي ” حيث أراد فيها عرض تلك الشخصيات التي راقبها في الغربة والتي يمثلها بصورة خاصة فلاسفة مدرسة فرانكفورت ..

إلا أنه لم يكتب العمل الوحيد المستكمل إلى حد ما والداخل ضمن هذا المشروع إلا في آخر حياته وفي ألمانيا الديمقراطية ويحمل عنوان ” توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة ” وهنا يظهر غموض شخصية ” التوي ” أفضل من أي مكان آخر ..

والحق أن ” بريخت ” يعطي لهذه الشخصية سمتين جوهريتين : فالتوي هو المثقف الذي يعتقد أن الفكر يحدد الواقع ولكنه أيضا الرجل الذي يتاجر بالآراء إلا أن التعريفين لا يتقاطعان؛ فالأول يحيل على الشكل التقليدي للوهم ” البرجوازي الصغير ” ويستدعي عمل الحقيقي الذي يكشف عن الوهم .. أما الثاني فلا يعود الحقيقي مجرد الوجه الآخر للوهم إنه موضوع اتجار يختفي فيه الفرق بينه وبين الوهم .. وتبشر تجارة الآراء هذه بعصر جديد لوظيفة الأيديولوجيا .. الوهم باطلا ..!

ما تريد المسرحية قوله هي أن الحقيقة سقطت إلى مستوى ” السلعة ” وذلك من خلال فصل الحقيقة عن الشعب وبيعها للسلطة ..!

وقد تطوّر مفهوم ” التوي ” إلى مفهوم ” غاسلي الأدمغة ” ويوظّف هذا التوي أو غاسلي الأدمغة من قبل الحكومة ؛ ليخدعوا الشعب ويشغلونهم بعيدا عن الحقيقة الكاملة ..!
نحن أمام أمرين : أمام مثقف يتكسب ببيع الآراء .. وأمام حكومة تشتري الآراء من المثقف ؛ لتخدع الشعب ..!

وهذين النموذجين شائعين في الوقت الحالي والتسمية استجدت مع الوقت وصارت ” بوق ” الحكومة أو ” مزمارها ” أو ” طبلها ” ..!

مع الإشارة أن المثقف من هذا النوع لا يبيع آراؤه فقط ، بل كذلك ضميره ويبيع نفسه ويبيع فكره المستقل ؛ ليكون فكراً موبوءاً وعبداً تابعاً ومتبوعاً للسلطة وحدها ..!
وما أكثر مثقفي ” التوي ” في أوطاننا بائعي الفكر والضمير لحفنة أوهام مؤقتة تهبّ عليهم من قصور الفناء ..!

 

ليلى البلوشي

http://www.alarab.co.uk

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *