جنيد سري الدين قارئاً ابسن: مسرحة «السلطة»

 

«أليُسانة، تدريب على الطاعة» هو العرض الثاني والأخير الذي تقدمه فرقة «زقاق» على خشبة «مسرح مونو» ضمن فعاليات «بيروت في أعمال

 

 

 

إبسن» (الأخبار 5/1/2013). منذ أول أعمالها، اعتمدت «زقاق» (تأسست عام ٢٠٠٦) صيغة العمل الجماعي الذي يقوده في كل مرة أحد أعضاء الفرقة. هكذا أخرج عمر أبي عازار «هاملت ماكينه»، ومايا زبيب «خيط حرير». أما اليوم فتولى جنيد سري الدين «أليُسانة» عن نص «الإمبراطور والجليلي» للنروجي هنريك إبسن.

كتب إبسن «الإمبراطور والجليلي» عام ١٨٧٣، وقُدِّم للمرة الأولى على الخشبة عام ١٨٩٦ في ليبزيغ. يعتبره إبسن من أهم النصوص التي قدمها للمسرح. تقوم حبكته على قصة الإمبراطور «جوليان المرتد»، آخر حاكم للإمبراطورية الرومانية غير المسيحي، الذي أعاد إحياء الديانات الوثنية في الإمبراطورية قبل أن يقتل على أيدي جنوده. تتناول المسرحية ثيمات الحكم، والسلطة، والدين. هكذا تسلّمت «زقاق» نصاً كُتب في ١٨٧٣، لتقدمه عام ٢٠١٣ في بيروت. لقد امتلكت جرأة إجراء إعادة قراءة معمّقة لنص كلاسيكي لإبسن، وتقديمه، بل إعادة كتابته دراماتورجياً (عمر أبي عازار وجنيد سري الدين) وإخراجياً. نحن أمام اقتباس جدّي قائم على بحث فعلي في كيفية إعادة إحياء نص من أواخر القرن التاسع عشر. تقدم الفرقة العمل على أنه عرض يسائل النمط السلطوي الذي يحكم المجتمع والدين والمسرح. إنّها حكاية مجتمع أفراده على درجات من سلّم الحكم الذي يربط السماء بالأرض. إنّها قصة فرقة مسرحية منفية ومعزولة يتدرب أفرادها على الطاعة علّهم يتدجنون. هكذا أدخل سري الدين المسرح ضمن لعبة السلطة. على الخشبة، يجسد الشاب شخصياً دور المخرج المتسلط، والقامع لممثليه، والرافض لأي تأويل لأعماله، والمؤمن بحقيقة النص. إنّه السلطة الحاكمة، إنه الدين. على الخشبة، اللعبة المسرحية مفضوحة. الممثلون (لمياء أبي عازار، دانيا حمود، مايا زبيب، هاشم عدنان، علي شحرور) يؤدّون أدوارهم كما شخصيات نص إبسن في الوقت نفسه.
نتالي حرب (سينوغرافيا)، وغسان حلواني (مساعد سينوغرافيا)، وأحلام ديراني، يبدّلون عناصر الديكور ويساعدون في تلبيس الممثلين. خالد ياسين يعزف الإيقاعات، وجوزيف قاعي (مساعد المخرج) يعطي التعليمات المسرحية. الكل هنا مع أزيائهم (ريّا مرقس)، والديكورات، والأكسسوارات على خشبة المسرح المشرعة للجمهور، وتحت إضاءة كوباياشي الملقب بريكي. مسرح ضمن المسرح، وبريختية، وعبثية، وكوميديا سوداء، وتراجيديا، وواقعية… جميعها هنا تحت إشراف قائد الأوركسترا جنيد سري الدين. اللعب على مفهوم السلطة من زاوية المسرح، وعلاقة المخرج بالممثلين الذين سيثورون عليه ليقتلوه، ثم ليُقتل القاتل على أيدي رفاقه. تقاذف للأدوار بين شخصيات حبكة إبسن وشخصيات اللعبة المسرحية، ونقد صريح وفج للديانات. كلها عناصر قوية جداً في العرض. لكن العنصر الأقوى في «أليُسانة» يبقى تلك السيطرة على اللعبة المسرحية وعناصرها بفضل مخرج ذي رؤية وطرح. يمسك جنيد بخشبته، يوزع عناصرها بإتقان في الفضاء المسرحي. تكثر الأشياء على الركح، لكنها في مكانها. يعجّ العرض بالأساليب المسرحية ولكنها تنساب، بعضها مع بعض، لتؤلّف أسلوباً خاصاً. كل غرض، كل صوت، كل حركة، كل أغنية، كل إيقاع موظّف في مساحتها وزمانها لخدمة الكلّ. على مدى ساعة ونصف الساعة، نشاهد عرضاً موزون الإيقاع في دفقه وحدّته وليونته، يتحول رويداً إلى طقس مسرحي ساحر. يصبح المسرح مذبحاً تحرق على خشبته القيم والمفاهيم. لا يكمن العرض في تفاصيله، رغم الجمالية العالية لكل مشهد، لكنّه أشبه بسمفونية من بداية (prelude) وأربعة مشاهد. حتى المونولوجات لا تنسلخ عن الكل، علماً بأنّ هذا ما نشهده غالباً في المسرح اللبناني، إذ يفشل المخرج في السيطرة على تشبيك عناصر عرضه، فيشبعه بمونولوجات تلتقط المشاهد، لكنّها تفقده انسياب العرض. حتى إنّ الحوارات تصبح مونولوجات ثنائية. في «أليُسانة» جوقة أدائية، حتى الصولو فيها يتّكئ على صمت العناصر الباقية. أما خلف الاقتباس، فلا حكمة ولا أمثولة ولا رسالة ولا حتى عبرة، بل احتفالية بالموت. احتفالية طقوسية، عناصرها تشبه الموت بقسوته وفجاجته وعبثيته وسخريته من الحياة. الممثلون يرقصون، ويغنّون، ويتقاتلون، ويسخرون، ويصلّون، ويندبون، ويموتون. إنهم يمارسون الفعل وانعدامه. مجدداً، تنجح «زقاق» في تقديم عمل جديّ، يحترم النص الذي يرتكز عليه، فيجرؤ على تحدّيه، ويحترم المشاهد فيحاوره في ألمه.

 

روي ديب

http://www.al-akhbar.com

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *