هل تمكن مسرحة الروح؟ابراهيم محمود

 

 

المصدر/ضفة ثانية/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

إنه لكتاب طروب، هذا  الموسوم بـ “الإخراج وفن المسرح: الطليعية الأولى في الإخراج المسرحي في أوروبا “، لمؤلفه الباحث والمخرج العراقي المعروف، الدكتور قاسم بياتلي، والصادر حديثاً، عن شركة دار “الأكاديميون”، عمان/ الأردن، 2017 ، في غلاف أنيق، وفي 332 صفحة من القطع الكبير، حيث يتضمن في الأخير 26 صفحة من الصور التوضيحية، إلى جانب الملاحظات التوضيحية، ومن ثم الإحالة على المصادر، وأكثرها بالإيطالية، كونه تعمَّق في فن المسرح في إيطاليا وأمضى عقوداً من الزمن هناك، ليتكلم ويكتب بالإيطالية كأهلها.

وعنيت بالطرب، كما هو محتواه اللغوي الدال: المؤالفة بين الفرح والحزن، بين ما يشعل القلب ناراً، ويحيل النار برداً عليه في آن، ولا بد أن قارىء كتابه لحظة الانفتاح عليه، سيستشعر طرباً من نوع خاص: طرب بنسبه المسرحي.
ثمة سؤال ربما يستحق طرحه هنا، وهو: ما الذي دفع بي إلى التعريف بهذا الكتاب، وبيني وبين المسرح مسافة فاصلة ما؟
إنها علاقتي الشخصية المباشرة بالمؤلف والمخرج الصديق والذي شدنا التعارف قبل سنتين، إلى الميدان الفسيح والصعب في آن لما هو معرفي، هنا في دهوك، حيث يدرّس في الجامعة، قسم المسرح وأنا بجواره، ليفصح عن شخصية بحثية لا تكتفي بالمسرح نصوصاً وإخراجاً، وإنما ما يتعداه في مجالات بحثية فكرية وأدبية مختلفة.
وعلي أن أنوّه إلى جانب آخر، ومهم جداً في بنية العلاقة هذه، وهي رهانه على العالم الداخلي: العقلي- الروحي للإنسان، وفي منطقتنا خصوصاً، وكيفية تحريك الماء الساكن، والسباحة نحو نهر الحياة. والتقينا في هذا المرتقى المشترك.
بياتلي مؤلف كتب عديدة بالعربية، وأخرى بالإيطالية، عدا عن إخراجه لنصوص مسرحية، وإشرافه على التدريب المسرحي، وتنقلاته بين المشرق والمغرب، ليغدو قامة فكرية وفنية وأدبية معاً.

قبل أوروبا – بعدها:

ما الذي يريده من الكتابة عن موضوع يمضي به إلى أوروبا؟ إنه السؤال ذاته، فيما لو طرح على باحث في الشأن الفلسفي: ما الذي تريده من الكتابة عن فرويد، سارتر، شتراوس، بارت، فوكو، تودوروف، عن الفلسفة والأدب الغربيين؟ لا تعود الكتابة تمضي بنا إلى هناك للإقامة “هناك” وإنما لتعود بنا إلى حيث انطلقنا، وقد ازددنا وعياً بالمفارقات، وزدنا تبصراً أكثر بما نحن فيه وعليه على الصعيد الثقافي، التربوي والفكري …إلخ.

بياتلي ينطلق من سؤال الذات في أعمق حضوراتها تمثيلاً لعالم واسع المدى، بغية تنوير الذات تلك. ولا بد أن لديه ما يُسوّغ هذا التوجُّه، أي ما يفجّر في الإنسان الذي يتكلم لغته الأم، والبيئة التي يعيش فيها، تلك الطاقة التي يختزنها داخله، ويغدو متحرراً مما كان، من ذاته المقولبة، إلى ذاته القادرة على الإبداع والانبناء الخلاق.

ونقطة البدء في المنعطف التاريخي الحرج أوروبياً ” منتصف القرن التاسع عشر ” وما بعد، أي تلك الحقبة التي شهدت انطلاقة الإنسان إلى الخارج، إلى المدينة الواسعة، فالصناعة هددت الحدود الضيقة لأوروبا فالعالم.

بالطريقة هذه، تصبح قراءة الطليعية الأولى، وقد مرَّت بمراحل، وهي إضافات متكاملة، انفجاراً للمكبوت النفسي أكثر، بحيث يتمكن الإنسان من رؤية أعمق أعماقه، ليزيد من حدة رؤيته لحقيقته، لتميزه في الحياة.

الحديث عن الطليعية يتطلب أبطالاً، رموزاً، قدرات فاعلة ومحفّزة لتحقيق هذه الوضعيات على خشبة المسرح، وقد انتقل الممثّل من خاصية المحكوم بلغة المؤلف، وطغيان تعاليم المخرج، إلى الممثّل المتفاعل مع النص بمرونة لافتة، والمخرج الذي يهيئه لحضور كهذا، ويتصرف بالنص تبعاً لرؤيته، وللمكان، وتقديره للظرف.

تكامل بين الظاهري والداخلي

هذا ما يمكن الحديث عنه من خلال ما بات يعرَف بالأشياء الجاري استخدامها في المسرح ” السينوغرافيا ” وهي متفاعلة مع الحركة الشخصية للممثّل وطريقة التعبير في مشهد ما ” الميزانسين “. إنه التكامل بين الظاهري هناك، والداخلي، وقد ارتسم في حركات وكلمات تميط اللثام عن العالم الداخلي للممثل هنا .

بياتلي يضع يده على جرح غائر، كتوم في ألمه، وتعتيم عليه، وجعل الموات حياة في الذات حباً بالمختلف.

إن قراءة هذه الأسماء: إميل زولا، ساكس ما يننغن، ستانسلافسكي، آدولف آبيا، غوردن كريغ، مايرخولد، وفاختنكوف، أي حيث تتلاقى ألسنة أوروبية من ألمانيا إلى روسيا، ومن روسيا إلى إنكلترا، ومن إنكلترا إلى فرنسا..إلخ، تأكيداً على وحدة حال، ولو بصور متفاوتة، كانت تشغل أوروبا الصناعة، وأوروبا إنسان الغد، وإنسان الفعل المركَّب والمنمّي للذات، بغض النظر عن المآلات السياسية لأوروبا طبعاً. فالمسرح الأوروبي، ومن خلال خاصية ” الطليعية الأولى” ربما كان مقاتلاً على طريقته، إنما لإنارة الإنسان بمواهبه وصونها.

لعل تأكيد المؤلف على محورية دور المخرج ينطلق من جهة الرد على كل من يجعل المؤلف الدرامي هو المرجع في كل شيء مسرحياً، كما في إشارته إلى ما توجه إليه الأكاديمي والمخرج الأميركي، ألكسندر دين، والذي يرى ( أن المؤلف الدرامي هو وحده الفنان المبدع الخلاق. ص 11 ).

أحسب، هنا، أن بياتلي يعلن ما أسمّيه بالنفير العام على كل من يقيّد المخرج رهاناً على المؤلف وحده، باعتباره إجراء تعسفياً ” المخرج المستبد ” لاحقاً، وكل من يتخذ من التصرف أداة لضبط الممثّل وإخضاعه لسلطة المخرج الصارمة، كما لو أن الممثّل أداة، وما يترتب على مسعى بياتلي من تنوير لماح لرجل المسرح في تكامل عناصره، لا بل وإعطاء الممثّل مكانة لافتة، طالما أنه ” عصا توازن ” المخرج ودليل نجاحه.

مسرح الإخراج

يرى المؤلف جانب المقاومة في مسيرة المسرح من حالة “ما قبل الإخراج” إلى “مسرح الإخراج “، بتضافر مجموعة أسباب في أوروبا، ص 28، ولا بد أنها قراءة تاريخية وثقافية في آن.

فالبدء بالحديث لاحقاً عن “الإخراج والتيار الطبيعي” حيث تجسيد الطبيعة (على خشبة المسرح بشكل بارز ومكثف ، أكثر من تجسيدها في النص الدرامي. ص 43)، وعبر الإشارة إلى الفرنسي إميل زولا، ربما يمثّل لحظة التحضير لما يلي، والتحرر مما هو موجَّه برجوازياً. ولعل المخرج الألماني ما يننغن، يمثُل أمامنا وهو بصرامته ( بميوله العسكرية. ص 49 )، رغبة في السيطرة على المسرح بمن فيه، ص 55 .

لكن يظهر أن هذا الإخراج المستبد مثّل قابلة تاريخية للتحول إلى الخارج، حيث الرحابة، وهي في ذات الممثل، ليكون الروسي، ستانسلافسكي، متلقف هذه الصورة ومحْييها في نفوس ممثليه مسرحياً، ويراهن على الميزانسين ( كان يبحث ليس فقط عن ” وضع ميزانسين ” لنص درامي، بل يبحث عن العثور على ” نص درامي ليضع له ميزانسين . ص 64)، أي ما يجعل المخرج شريك المؤلف، وصانع الروح على المسرح، ومن خلال التوغل إلى الداخل، كما في تعامله مع دراما تشيخوف، لما فيها من حياة داخلية هائلة وعميقة، ص 76 .

الاضاءة والحياة

يتعمق مفهوم الميزانسين مع آدولف آبيا، حيث يفهَم مما كتبه بياتلي حالة المزاوجة بين العنصر السينوغرافي، حيث يمثل فضاء المسرح، والعنصر الميزانسي المخاطب للأعماق ومفجرها، فـ (الإضاءة بالنسبة للفضاء هي مثل  الأصوات بالنسبة للزمن، إنها التعبير الكامل للحياة .ص 114 )، وليكون الممثل مدروساً بالشكل الذي يلائم رؤيته .ص 131 “.

ولتزداد الطليعية تعمقاً وتوسعاً وثراء قيم مع ” فن المسرح وفن الإخراج “، ومن خلال نموذج الإنكليزي غوردن كريغ، كما لو أن الممثل عجينة، ورهانه الأكبر ( وكان يهدف من ذلك إلى رفع مستوى الممثل إلى فنان قادر على الخلق والإبداع…ص 155 )، وليمثل هذا المخرج عبقرية اعترف بها ستانسلافسكي،  ص 177، وليكون الحديث عن ” الثورة المسرحية ” تجاوزاً لكل الحدود التي تقف في وجه قدرات المرء، ومن خلال نموذج المخرج المسرحي مايرخولد، وهو يشدد على ( استقلالية فن المخرج عن عمل وإبداع المؤلف، وفي نفس الوقت، استقلالية ذلك عن العمل الإبداعي للممثل. ص 188 )، إلى درجة رفع سقف امتيازات المخرج، ليكون ( هو مؤلف العرض . ص 217 )، ومن ثم ليكون لقاء ” مخرج المشهد المفتوح “، وعبر الروسي، فاختنكوف، الذي شهد له مطلع القرن العشرين بولادة نجم مسرحي إخراجياً، وجعل العمق النفسي أكثر عمقاً، منمّياً مسلك ستانسلافسكي، وماضياً في ” تجديد تعاليمه . ص 251 “، وما يعنيه هذا الرهان، جهة استثمار المعرفة القائمة في محيطه، ومكاشفة ما في النفس ( وبذلك، طبق فاختانكوف المبدأ الأساسي في ” المنهج “: أي ” الولوج إلى العقل الباطني من خلال التقنيات السيكولوجية الواعية ..ص254 )، أي حيث ( يكون المخرج هو مؤلف العرض .ص260).

تلك محاولة ليس لتقديم الكتاب، أو خلاصته، وإنما قراءة شديدة الإيجاز لكتاب لا يتركز على المسرح حرفياً، إنما على الدور الفاعل للمسرح في مجتمع يتستر على نفسه، ويخشى من التصريح بما يعتمل داخله من مشاعر، عدا عن هدر الطاقات، وضياع العمر في سلوكيات تزيد في بنية التخلف، وتنمية عنف داخلي، وليس تبديده صوب قوى حيّة لصالح الإنسان والمجتمع، أي ما يحفّز على الاهتمام بالمسرح، لأنه يشغلنا دون أن ندري، وهو يخاطبنا، ويقيّمنا ليل نهار. إن مسرحة العقل، والروح، هي رهان الصديق الباحث والمخرج العراقي الكبير، قاسم بياتلين على المسرح، حيث لا يعود مجرد نص، ولا خشبة، وإنما نظير حياة عميقة يتم تجاهلها.

بالطريقة هذه تغدو الكتابة عن الإخراج وفن المسرح في الإشارة إلى أوروبا، تعرية لأوهام الذات في منطقتنا، ولانجراحاتها، وقرع الجرس الكبير لمجتمع، ربما لما يزل في حدود ” المخرج المستبد ” نظير السيد المستبد، والعبد المستبَد به، وفي الوقت الذي يشجَّع على التعلم والتنوير العقلي، ولزوم مواكبة العصر هنا وهناك.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *