هذا ما غنمناه من غنام / محمود الماجري

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

لم يكن عرض سأموت في المنفى مميتا، بل كان أكثر من ذلك. الموت أرحم. كان العرض سكينا يدخل جسد المتلقي ليبقى فيه ولن يخرج منه. سكين لو أخرجته من بين ضلوعك لغادرك إحساسك بذاتك وبالعالم من حولك ولما قدرت على استمرار المتعة وأنت تشاهد تواتر أحداث العرض لحظة بلحظة. العالم، كل العالم، في هذا العرض المسرحي هو فلسطين. فلسطين قبل أكثر من 5000 سنة بزيتونتها المعمرة وبحجارتها وقد سرقها المحتل من حقيبة المسافر حتى لا يهرّبها أهلها كي تكون أيقونة حيث هم في بلاد العُرب الضيقة التي ذاقوا فيها مرارات البوليس فضاقوا بها ذرعا.  فلسطين في سأموت في المنفى هي الأمس القريب والراهن والمستقبل. فلسطين الإصرار والتخاذل والانتصار.

كان في ظن المتلقي أن العرض سيتناول تغريبة التهجير والترحال الأبدي الذي ما انفك يعيشه الفلسطيني منذ نكبة 1948 إلا أنه كان سفرا في تفاصيل الذات والبلد. طفولة الأب وقد كبر قبل سنه ليتحمل مسؤوليات جسام تتجاوز قدراته، طفولة الابن وهو ينمو على حكايات الزمن المتوقف عند أمل العودة. زمن يتجلى في غناء الجدة وغناء الأم وفي صورة الوطن كما بقي محفورا في الذاكرة بتفاصيله الكثيرة، ومنها صعود المدارج المؤدية إلى داخل البيت والقفز منها بفرحة الطفل. تاريخ قوامه صعود ونزول أبدي. لم يكبر غنام منذ طفولته في أريحا. بقي مسكونا بأحاسيس الصبا، تسافر معه حيثما انتقل. في رحلة بحثه عن ذاته السليبة كان سرده يتطور وفق منطق تداعيات قائم على استرجاع تلك التفاصيل التي تدلي بها ذاكرته إلى أن تخيل موته وموكب جنازته قارئا الفاتحة وعلى كتفيه الكوفية الرمز وفيها خارطة البلد ليتساءل في آخر العرض عن حقيقة الكائن الذي سيتم دفنه. هل هي الذات الأصلية والأصيلة التي ولدت هناك ولم يعد يُعترف بها أم قرينتها كما تشكلت في المنافي. بين النسخة الأصلية والنسخة المطابقة للأصل هوّة تتسع للذاكرة والتاريخ لكنها لن تُردم باعتراف يقوم على شهادة تثبت الضياع.

هل غنمنا من غنام ما تقاسمناه معا من بؤس العالم وقد اجتمعنا فيه رغما عنا، عالم ما زال يمعن في طردنا من عوالمه رغم إصرارنا على البقاء فيه. قد نكون غنمنا من غنام في عرض الليلة بمسرح نجمة الشمال: يا مطرودي العالم العربي اتحدوا.

وبينما قطة المسرح تضفي واقعية على دراما الفعل بعبورها فضاء اللعب قال لي حسان كما همست لي فوزية وهما العائدان على التوّ من عاصمة الجنوب: شكرا على منعنا من الخلود إلى الراحة بإلحاحك على حضورنا اليوم. لقد فتّح العرض عيوننا على  قدرة أخرى لم نكن نعرفها لدى غنام، لكأننا لم نقض خمس ساعات داخل تاكسي جماعي يدبّ بنا دبيبا في ما زُعم أنه طريق سريعة.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *