نورييف.. عودة الأسطورة

 

 

 عبد الله حبه  – المدى – مجلة الفنون المسرحية 

 

لا يماري أحد في أن روسيا تبقى بصفتها البلاد الرائدة في مجال فن الباليه . والعرض الأخير “نورييف” الذي قدم في مسرح البولشوي منذ أيام يؤكد أن المسارح الاوروبية وغيرها لم تصل الى المستوى الذي بلغته فرقة البولشوي. علماً أن هذه الفرقة وفرق المسارح الروسية الأخرى التي تجوب بلدان العالم ، بالرغم من توتر العلاقات السياسية مع بعضها ،تلقى دوما أهتماماً لدى الجمهور. وأذكر أنني زرت لندن منذ أعوام وشاهدت الطوابير الطويلة عند شباك التذاكر في كوفنت جاردن حيث قدمت عروض باليه البولشوي . كما وجدت أن الراقصة الأولى في المسرح البريطاني آنذاك هي روسية أيضا .

إن العرض المسرحي الحالي في البولشوي هو عرض “هجين” حيث يتضمن الباليه والغناء الاوبرالي والدراما. وبهذا قدم المسرح للجمهور بمشاركة 200 راقص ومغنٍ وممثل صنفاً جديداً من العروض المسرحية. ويشير النقاد الى أن الفضل في تقديم العرض يعود الى مدير المسرح الجديد فلاديمير أورين الذي قرر تأجيل تقديم عرض باليه ” آنا كارينينا”لجون نويماير وتقديم هذا العرض الفريد من نوعه المكرس الى راقص الباليه التتري الشهير رودولف حميد أوغلي نورييف الذي قرر البقاء في باريس في عام 1961 حينما كان ضمن فرقة مسرح الاوبرا والباليه اللينينغرادي . علماً إن نورييف ولد في عام 1938 في القطار المتجه الى فلاديفستوك ، وإرتبطت حياته لاحقا بالسفر المتواصل . وأعتبرت السلطات السوفيتية قراره بالبقاء في باريس ” خيانة للوطن ” وكان بقاؤه يمثل سابقة لم يعرفها الاتحاد السوفيتي تكررت عدة مرات لاحقاً . ولمع نجم نورييف في أوروبا وامريكا لاحقاً وإستحدث مدرسة خاصة به أثرت كثيراً في فن الباليه في بلدان أوروبا حيث نقل إليها خبرة مدرسة باليه فاغانوفا الذائعة الصيت التي تعلم فيها كثير من كبار فناني الباليه مثل بافلوفا واولانوفا. علما أن الفنانين والموسيقيين الروس يتمتعون اليوم بالحرية التامة في السفر الى أي مكان للعمل هناك ، ويمكن أن نجدهم في المسارح وفرق الاوركسترا في أوروبا وامريكا واليابان ولا يعتبر ذلك ” خيانة للوطن”.

لقد أثار عرض “نورييف” جدلاً كبيراً في الأوساط الاجتماعية الروسية قبل تقديمه الى الجمهور. وفي العرض الخاص لرجال الثقافة والصحافة في حزيران الماضي قرر مدير المسرح البولشوي تأجيل العرض الى كانون الأول 2017 لأن العرض لم يكن – حسب رأيه – جاهزاً لتقديمه الى الجمهور. زد على ذلك إستنكر المحافظون للغاية عرض صورة كبيرة لنورييف على امتداد خشبة المسرح يظهر فيها الراقص عارياً. وقيل إن ادارة المسرح إشترت الصورة من مصور فوتوغرافي فرنسي بمبلغ كبير دفع ثمنه الملياردير الروسي رومان ابراموفتش صاحب فريق ” تشيلسي” لكرة القدم وهو أحد ممولي مشروع الباليه الحالي. ورأى النقاد أن هذا قد يمثل إستفزازا للمشاهد ، ولو أن المسارح في موسكو بدأت تقلد المسارح الاوروبية في عرض الممثلين عراة كما ولدتهم أمهاتهم ، وأصبح ذلك شيئا مألوفا ، ولو أنه غير مبرر من ناحية الإبداع الفني . لكنها الموضة وولع بعض المخرجين في تقليد ما يقدم في المسارح الألمانية والانجليزية والفرنسية بإعتبار ذلك تجسيدا للتطور الفني والذوق الرفيع .ولهذا لم تقدم الصورة كاملة في العرض الحالي. وبرر مدير المسرح تأجيل العرض بأنه لا يوجد إنسجام بعد بين أقسامه من باليه وغناء ودراما، وينبغي عمل المزيد من البروفات.

كما إرتبط تأجيل العرض لمدة خمسة أشهر بدخول المخرج كيريل سيريبريكوف السجن بتهمة إختلاس أموال الدولة ضمن الحملة التي يجريها بوتين خلال العامين الأخيرين في مكافحة الفساد. ولهذا تعالت الهتافات في العرض تطالب بإطلاق سراحه ، كما خرج بعض الممثلين في نهاية العرض وهم يرتدون قمصانا تحمل إسمه. وسيريبريكوف شخصية فنية معروفة في روسيا وخارجها ويدير مسرح غوغول الذي يقدم عروضاً مسرحية متميزة بجرأة التعامل مع النص المسرحي. ولكنه لسبب مجهول أصبح مطلوبا للعدالة ويستمر التحقيق معه في مصير ملايين الروبلات التي قدمتها الدولة إليه لتطوير مسرحه.وكان قد أخرج في البولشوي سابقاً باليه ” بطل من هذا الزمان ” المقتبس من رواية ليرمنتوف المعروفة وحقق نجاحاً باهرا. وأعد موسيقى العرض موسيقار معروف أيضا هو ايليا ديموتسكي ، وتولى إخراج الرقصات يوري بوسوخوف كبير مخرجي الباليه في البولشوي.

إن تخليد ذكرى الفنانين في عروض الباليه ليس بالشيء الجديد في المسارح الروسية فقد قدم مخرج الباليه بوريس ايفمان في بطرسبورج وموسكو عروض باليه مكرسة الى موليير وتشايكوفسكي وبالانشين ورودان. كما أخرجت عروض باليه مستوحاة من أعمال الكتاب الروس مثل “آنا كارينينيا” لتولستوي و”السيدة والكلب” و”آنوتشكا” لتشيخوف و” بطل من هذا الزمان” لليرمنتوف و” الأرق” لبوشكين”. بينما أثار باليه ” راسبوتين ” في عام 2005احتجاجات الرأي العام الارثوذكسي لكونه أظهر القيصر بالملابس الداخلية على المسرح. وسرعان ما ألغيت عروض هذا الباليه.

لكن عرض “نورييف” في مسرح البولشوي يختلف عن جميع العروض في الجمع بين ثلاثة عناصر من الابداع الفني هي : الباليه والاوبرا والدراما. ويتم فيه استعراض سيرة حياة نورييف منذ أيام طفولته في بشكيريا ثم دخوله مدرسة باليه فاغانوفا في ليننيغراد(بطرسبورغ حاليا) وحياته في عالم الباليه لاحقاً. وحسب قول مخرج العرض سيريبريكوف فإنه أراد التركيز على كون نورييف من المثليين وعلاقته براقص الباليه ايريك برون . لكن بوسوخوف مخرج رقصات الباليه كان له موقف آخر في التركيز على الحياة الابداعية فقط للفنان الذائع الصيت. ولهذا تضمن العرض قراءة مقتطفات من رسائل نورييف الى تلاميذه والعروض التي شارك فيها في باريس ونيويورك وكذلك تقارير جهاز الأمن السوفيتي (كي. جي . بي) عن تحركاته يلقيها الممثل عريف العرض. لكن سيطر على العرض تقديم الرقصات الرائع من قبل فناني البولشوي لأهم الأدوار التي شارك فيها نورييف. ولهذا يبقى الباليه الكلاسيكي أهم ما جذب الجمهور الذي واصل التصفيق لفناني البولشوي في نهاية العرض لمدة 15 دقيقية.

إن رودولف نورييف الذي يرقد ثراه في المقبرة الروسية بضواحي باريس تحت بساط مزخرف تتري صنع من الموزاييك قد أصبح إسطورة قبل أن يهاجر الى الغرب . فإن جميع العروض التي شارك فيها بمسرح مارينسكي (في بطرسبورج حاليا) مثل “روميو وجولييت” و” بحيرة البجع ” وغيرها ، وكذلك عروضه في خارج روسيا ولا سيما مع الراقصة الانكايزية مارجو فونتين تعتبر تجسيدا لإسلوبه في الرقص الذي أصبح مدرسة في باريس التي قضى فيها آخر سنوات عمره قبل وفاته لدى اصابته بمرص فقدان المناعة المكتسبة ( الايدز) في عام 1993.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *