نهاية المسرح السعودي – #السعودية

 

وهج المسرح تلاشى بصورة دراماتيكية حين تسرب نجومه على طريقة القفز العالي من مواقعهم على الخشبة إلى سحر الشاشة السينمائية.

في الوقت الذي بدأ المسرح يخرج من المضمار تاركا المجال لفنون أدائية أخرى أكثر معاصرة منه، كان المشهد الثقافي يعيش جدلا حول من هو عرّاب المسرح السعودي المعاصر، وهذا يمثل مفارقة فعلا.

على الرغم من اتساع الفتق على الراتق إلا أن المسرح السعودي لا يزال يسكنه أمل كبير في إيقاظ جثته بعد عمليات الإنعاش التي دارت دوائرها عليه منذ أن بدأت ملامح الأفلام السعودية تظهر على السطح عام 2008، ساعتها تماما كانت ذروة عطاء المسرح، وحضوره الجماهيري، واكتساحه للمشهد بوصفه أبًا للفنون، وبوصفه البطل الأسطوري القادر بسحره الخاص على جلب الشعراء والروائيين والموسيقيين على خشبته جنبا إلى جنب مع المسرحيين. فكان له الحضور والحظوة في تنافس جمعيات الثقافة والفنون في مناطق المملكة على تدشين مهرجاناتها بين حين وآخر معرّفة بكاتب جديد، أو ممثل قدير، أو مخرج عبقري.

لم تدم هذه السيادة كثيرا، إذ سرعان ما بدأ وهج المسرح في التلاشي بصورة دراماتيكية حين تسرب نجومه على طريقة القفز العالي من مواقعهم على الخشبة إلى سحر الشاشة السينمائية، فوجدنا كتّابه فجأة تحولوا إلى سيناريست، وفنانيه إلى صانعي محتوى، ومخرجيه إلى نجوم “رد كاربت”، بعد أن كانوا في كواليس الظلمات، يعيشون في الظل، مثلهم مثل الملقّنين في نصوص مسرحية منسية. وعلينا ألّا ننسى أن معظم هؤلاء المسرحيين من جيل الشباب الذين لم تكبر تجربتهم المسرحية وتنضج حتى وجدوا أنفسهم يجرّبون صناعة الأفلام القصيرة تحت مظلة السينما الجديدة.

في الواقع، وللتاريخ، لقد اعتمد المسرحيون القدامى طوال عقود قليلة من عمر المسرح السعودي على أنفسهم، وحاولوا أن يطوّروا من إمكانياتهم البسيطة عبر الاستعانة بما يصلهم من مسرحيات مسجلة في أشرطة الفيديو، ومن كتب شحيحة بفعل الظرف الاجتماعي من جهة، واستحكام جماعة الصحوة من جهة ثانية.

في ظل ذلك، قاتلوا ببسالة، غير أنهم خرجوا إلى العالم بنتائج متواضعة للغاية، ولربما أثناءها رفع المسرحَ بعضُ النصوص المسرحية، لكنه سرعان ما سقط سقوطا مدويا حين تلقفته أيادي المخرجين السطحيين، أو الممثلين غير المتمكنين من إلقاء جملة عربية فصيحة دون أن يلحنوا في ثلاثة أرباعها.

اليوم، يستمر حضور المسرح مع مجموعة من الجنود القدامى المخلصين له، والمؤمنين به رغم غياب الجمهور

اليوم، يستمر حضور المسرح مع مجموعة من الجنود القدامى المخلصين له، والمؤمنين به، والمراهنين عليه، فقد غابت الجماهير العادية التي كانت تأتيه من خارج شلّة المسرح، ولم يعد يحضره، ويهتم به، ويغذيه، إلا جمهور صغير هو نفسه فريق مسرحي لجمهور آخر ينتظر دوره على الخشبة.

فلو قدّر لأحدنا حضور مهرجان تشارك فيه عشر فرق مسرحية مثلا، فلربما نجد مئة مشاهد هم أنفسهم من يترددون على الخشبة كل ليلة، مع تبديل أدوارهم وملابسهم بصورة تدعو إلى الشفقة عليهم وإلى التساؤل عن قيمة وأهمية ما يفعلونه بإخلاص أمام ضيق ذات اليد؛ فلا مصادرَ مالية، ولا شباك تذاكر، ولا دعمَ وزاريا يمكن أن يعوّضهم -ولو بصورة نسبية- مصروفاتهم على “اللوجستك والبروفات والديكور والمكياج والملابس”، التي -في الغالب- لملموها إما من جيوبهم الخاصة، وإما تسوّلوها من مؤسسة تجارية تحرص على أن تحسّن صورتها، وتظهر -ضمن شراكاتها المجتمعية- بصورة لائقة.

رغم تشاؤمي، لكن، عليّ الاعتراف بأن المسرحيين لا يزال بعضهم يخرج نصوصا جيدة، وإن كان معظمها من دون كروموسومات خاصة، تتقمّصها أحيانا ملامح بيكتيّة أو ونّوسيّة أو ماغوطية، وما زال بعضهم يكتب نصوصا تحاول أن تقفز من صندوقها لتشمّر عن سواعدها حاملة همومها المحلية، وأسئلتها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية الحرة. لكنها أشبه بصرخة عالية في صحراء الربع الخالي، حيث لا أحد سيستدل عليها سواها.

مؤخرا، أطلقت وزارة الثقافة السعودية بعد تدشينها في مارس الماضي مجموعة من مبادرات اهتمت بقضايا ثقافية مختلفة، على الصعيد الإبداعي والفني والترفيهي والأدائي، وامتدت لتلامس الفنون والموسيقى والتفرغ الثقافي والإقامة الإبداعية، بالإضافة إلى سلسلة مبادرات متعلقة بتأسيسها لقطاعات مرتبطة بالمسرح والموسيقى والفن التشكيلي.

وتم على إثرها تعيين الكاتب والفنان المسرحي القدير عبدالعزيز السماعيل رئيسا للفرقة الوطنية للمسرح السعودي. والذي على ما أعتقد هو وحده من وجد في مبادرة الوزارة معنى حقيقيا لهذه الفرقة التي يجهل طبيعة عملها أغلب المسرحيين السعوديين من واقع صفحاتهم الشخصية في السوشيال ميديا، بالإضافة إلى نتائج الاستطلاعات التي أجريت معهم في الصحف المحلية.

الحديث ليس عن الفرقة الوطنية وأهميتها وما يمكن أن تقدم للمسرح والمسرحيين في سبيل إنعاشهم، فهو حديث هامشي في متن كبير للمسرح نفسه الذي مات على خشبته قبل مبادرات الوزارة.

نعم، قد تستطيع الفرقة الوطنية التي ستخصص لها ميزانية ضخمة لأن تحيي مهرجانا محليا، أو عربيا، أو ربما عالميا، لكنها لن تستطيع أن تحيي المسرحيين، وأن تعيد إلى المسرح روحه. هي مبادرة لها بلا شك أهميتها، لكنها تخص الوزارة وليس المسرح، وعلينا أن نفرّق بين الأمرين.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش