ملحمة «حديث الصحراء» لمنذر بن ابراهيم في افتتاح المهرجان الدولي للخيام بحزوة: يا باحثا عن الحقائق أنصت الى بوح الصحراء/ مفيدة خليل #تونس

 

 

 

الصحراء بعمقها وجمالها تناديك فهلا لبّيت النداء، كثبانها الساحرة وصفرتها المبهرة وانعكاس الشمس على حبيبات الرمل، صوت

الريح يصنع موسيقاه وتمايل الشجيرات الصحراوية على موسيقى الطبيعة، أشعة الشمس الحارقة التي تصنع سرابا مذهلا، جميعها تشدك إليها لترحل في عوالمها وتكتشف اسرارها وترحل في عمق حكاياتها، تنهل من تاريخ قبائلها وتستمتع بأساطير أهلها وتنتشي بموسيقى البدو وشاعريتهم، فهلا صاحبتنا قليلا لنتجول في ربوع حكايا بني غريب لتنصت لحديث الصحراء.

«حديث الصحراء» هو اسم العرض الملحمي الذي افتتح فعاليات الدورة الخامسة والعشرين لمهرجان الخيام الدولي بحزوة، حديث الصحراء عرض ملحمي ينقل بطولات سكان قبيلة بني غريب ورجال الصحراء في ملحمة التحرير الجزائرية ويغوص في تاريخ دونته الذاكرة الشفوية ليكشف عن مدى الوحدة والتلاحم بين الشعبين التونسي والجزائري، ملحمة تذكر بالبطولات التي احتضنتها الصحراء ملحمة من اخراج منذر بن ابراهيم وتمثيل جمال ساسي وجمال المداني وايناس حفيظي وثلة من ابناء واطفال وبنات الجهة.

الصحراء خلف كثبانها تخفي قصص قوم كتبوا التاريخ
الصحراء تبوح بأسرارها، تحكي قصصها لزوار المدينة الحدودية، هنا بعيدا جدا عن العاصمة تونس قراب 485 كلم وقبل كليومترين عن مدينة «الطالب علي الجزائرية» توجد المنطقة الحدودية حزوة تفتح أحضانها لقاصدي الصحراء تخبرهم عن قصصها وتاريخيتها، خيامها نقلت قصص الأولين ورمالها وشربت من دماء الشهداء الذين ضحوا بالدم لأجل تونس والجزائر.

حديث الصحراء عرض ملحمي لم يأت من فراغ هو رحلة ملحمية تاريخية تجمع الموسيقى والمسرح وفنون الفرجة وظفها جميعا منذر بن إبراهيم ليخبر الجميع انّ الصحراء التي عشقها قبلة للحياة، وسكان الصحراء ليسوا مجرد بدو رحّل وسلبيين بل هم قادة وهم جنود بواسل.

ساحة كبرى، امتداد البصر فقط امامك ايها الزائر كثبان رملية وشجيرات الرتم والشعّال والشيح تقاوم قسوة الطبيعة وتتمسك بالحياة، الخيام المنصوبة تؤرّخ لمرور البدو من هنا قبل استقرارهم وبناء المنازل.

خمس خيام ستكون عنوانا للعرض الملحمي، موسيقى الناي الرقيقة تكون فاتحة العرض كأنها اهزوجة الحنين الى حدث جميل مضى، صوت الراوي الذي جسّده الممثل المبدع جمال المداني ينطلق قويا قوة رجال بني غريب ليحدث الجمهور عن سحر الصحراء ويقول «للصحراء جمال وسلام، هواء نقيّ منعش، ومايزيد في بهائها الكثبان الرملية، امتدادها يدفع بك ان تسافر، انها الصحراء تخفي خلفها قصص قوم كتبوا التاريخ» قبل ان تنطلق ملحمة رجال الصحراء وتبوح الكثبان بقصص بعضها دونها التاريخ وبعضها دونتها الاغاني والاشعار الشعبية، فهلا واصلت القراءة لنكتشف الملحمة.

بني غريب والحرب الجزائرية: في الصحراء تولد البطولات
يرتفع صوت الموسيقى، الموسيقى الحربية كأنها إعلان عن حرب ما، حرب نفسية ستخوضها وأنت تشاهد كل ذلك الجمال، الفرسان بأزيائهم المميزة والممتعة، المهاري في سرعتها والرجال الملثمون، فجأة تسمع تهدّجات نفس شخص ما، احدهم يصارع الموت أو يغالبه، انه منصور الشخصية الرئيسية في الملحمة، الوسيط الذي يحمل «الديناميت والقنابل اليدوية» من قفصة ليخفيها في المناطق الحدودية قبل ان تسلم للمجاهدين الجزائريين في حرب الاستقلال.

أحداث الملحة تعود إلى فترة ما بعيد استقلال تونس، وبعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، الملحمة هي مواصلة لأحداث ملحمة «بني غريب» التي قدمت في الدورة الفارطة، فالأحداث التاريخية التي عاشتها القبيلة تستحق أن تقدم في أعمال عديدة توثق لبطولات صنعها سكان الصحراء.

للموسيقى سحرها، للبادية بريقها وموسيقاها الخاصة تلك التلوينات الرقيقة التي تسافر بك الى عوالم الخيال أحيانا ومرات تغوص بك في تفاصيل الشخصية، المرحول يوثق لحياة البدو يصحبه صوت الشاعر يفتخر بانتمائه للبدو ويقول:
«ياشعر ماتنسى سطر ذكرنا حني ناس طبع البادية تربينا»

ليواصل غزله بالمرحول والخيام وتفاصيل الحياة البدوية.
تتصاعد الأحداث فيسقط منصور في الصحراء بعد ان تلاعبت به شياطين الصحراء التي نراها باللون الأسود وحركاتها المتسارعة، شياطين هي تعبيرة عما يسكن الصحراء متى انعدمت حياة الانس، لكنه ينهض ليصل إلى قبيلة بني غريب ومن هناك ينطلق المخطط لإيصال الديناميت الى المجاهدين الجزائريين، ويتم اللقاء بين قائد تونسي واخر جزائري لوضع خطة لمهاجمة الدبابات الفرنسية وتحدث المعركة التي يسقط فيها شهداء عديدون ومنهم صالح بن محمد السعيدي و محمد بن لمجيد النويصري و مبارك بن مبروك السعيدي والتيجاني الفضيلي وأحمد بن بلقاسم السعيدي و عبد الله بن مبروك السعيدي و مسعود بن محمد نويصري و مبروك بن صالح سلامة، وعلى صوت الطبول تقرع بقوة تتساقط الجثث وفجأة تنخفض موسيقى الطبول ليرتفع صوت أنين الناي ليعلن انّ هناك بداية جديدة دوما فلازال هناك اثنان صامدان من صغار السنّ وفي بقائهما رمزية الانبعاث من جديد لمواصلة الدفاع عن حق الشعوب في الحرية.

حديث الصحراء ملحمة جمعت كل الفنون تقريبا من الموسيقى الى الشعر الى المسرح والكوريغرافيا، ملحمة قدمها ابناء الجهة مع ممثلين محترفين هم جمال ساسي وجمال المداني وايناس الحذيري ملحمة رحلت بالجمهور الى بعيد الاستقلال صورت لهم تفاصيل حياة البادية وبعثت الحياة في بطولات رجال اختاروا الموت لاجل ان تحيا تونس والجزائر مستقلتين.

حديث الصحراء عمل ملحمي هو إحياء للشهداء وتذكير ببطولاتهم، هو غوص في قصص البدو ودورهم في الحركات الوطنية كما انّ الملحمة رحلة ثقافية في الموروث الشفوي لبني غريب رحلة تنقل التاريخ بالفنّ فالفن تأريخ ووحده الفن قادر على تنوير العقول ونبش غبار النسيان عن الذاكرة الجماعية.

انا البدوية: للات النساء
الصحراء أنثى والمقاومة أنثى رمالها الساحرة أنثى وحتى قسوتها مؤنثة والبطولة أنثى والأنثى في الصحراء سيدة المكان فخيمتها أنثى وحتى عمادها يمكن ان يؤنّث متى تمّ الحديث عن المرأة البدوية، التي تعترضك بكامل بهرجها وزينتها بتفاصيل اللباس الموشى بكل ألوان الحياة تلك هي المرأة البدوية الجميلة والقوية وصاحبة الموقف.

امام الخيام المنصوبة في ساحة المهرجان كنّ كما النجمات المتلألئات سيدات المكان، اشتركن في الحلي التقليدي المبهر، رائحة العنبر وعود القرنفل ينتشر شذاها فتزيد العرض سحرا،وهنّ يقدمن جانبا من ملحمة جداتهنّ سيدات الثورة اللواتي كنّ سند المقاومين فكن يخبئن السلاح ويتجرأن على إيصاله إلى الفلاقة دون خوف ومن قوة الصحراء استمدت نساء بني غريب قوّتهنّ.

ولانّ حديث الصحراء مواصلة وتسلسل تاريخي لأحداث قدمت في عرض سابق، للمرأة دورها في العرض الحديث الذي عمد فيه المخرج إلى التجديد من خلال تسليط الضوء على قصص العشق البدوية ونقل قصة حب وتضحية جمعت مريم بمنصور، مريم الشامخة نجدها ضعيفة تهمس إلى حبيبها وتعده بالوفاء والموت معه لأجله ولأجل الوطن، والتركيز على تفاصيل قصة حب ونقلها يعدّ جرأة في مجتمع لازال محافظا.

تتواصل الرحلة، تتواصل القراءات الشعرية ومعها رواية الراوي لازال لمريم دورها في بطولات بني غريب، ومن الأسطورة أيضا نقل منذر بن ابراهيم حكايا وظفها في العرض من خلال مشهد أول الملحمة يقدم لسبعة صبايا يحمن حول منصور التائه ينقذنه ويخبرنه بصوت واحد «منصور يلزم تفيق مازال قدامك واجب يلزم تاديه» وفجأة يختفين في برّ الريغات وهي حكاية من الأساطير الشعبية تقول باختفاء سبعة صبايا في الصحراء وحين تمّ اقتفاء اثرهنّ وجدوا انهن اختفين في نبتة الشعّال ويظهرن كلما تاه شخص في الصحراء وفي الملحمة يوظفهنّ المخرج ايجابيا ليكن مساندات لشخص يبحث عن حرية وطنه.
ومن رمزية قوة الأنثى ودعمها لفكرة الحياة تمّ تطويع الاسطورة وتطويع العديد من الاغاني الشعبية التي أرّخت لدور المرأة في حركات التحرّر الوطني فالمرأة البدوية مناضلة شرسة وذكية كما باحت ملحمة حديث الصحراء في عمق الصحراء التونسية في حزوة مدينة الحب والبطولات.

افتتاح المهرجان الدولي للخيام بحزوة
حزوة تفتح أبوابها للحالمين
طريق طويلة، أكثر من عشر ساعات بالحافلة التي اكلت الطريق، رحلة تشاهد فيها كلّ تغيرات الطقس وتشاهد كل التغيرات الجغرافية والخصوصيات الطبيعية والحضرية انطلاقا من العاصمة ببناياتها الشاهقة واكتظاظها إلى حدّ الوصول الى حزوة إلى مدينة لازالت منازلها مترامية وأينما وليت النظر قابلتك الرمال ممتدة ترحّب بمن يأتون للتمتع بجمال الصحراء وهدوء المدينة الحدودية أولى المنافذ على واد سوف الجزائرية.

مدينة صغيرة، منازلها مترامية هنا النخيل يحيط بالمدينة فهي اوّل المدن في الجمهورية التونسية المنتجة للتمور الايكولوجية، هنا حزوة جدرانها تزينت بابهى الالوان ومنذ المدخل تعترضك تلك الكتابة باحرف فرنسية يتوسطها قلب «احبك حزوة»، غير بعيد توجد ساحة المهرجان حيث انتصب نزل ايكولوجي يستقبل زوار المدينة الحدودية.

وحزوة المدينة الايكولوجية هي المنتج الاول للتمور البيولوجية وطنيا، وتقع حزوة، في ولاية توزر قرب الشريط الحدودي مع الجزائر على بعد 55 كلم إلى الغرب من مدينة توزر عاصمة الولاية.

هنا تجمّلت تزينت الصحراء لترحب بضيوفها الباحثين عن الجديد، الخيام وعددها خمسة وعشرون انتصبت لتنقل للمتفرج تفاصيل الحياة البدوية، الخيام ضمت معارض لكل الصناعات والحرف اليدوية التي تنتجها نساء البدو عبر السينين، يتوسط الخياة العلم التونسي شامخا يرفرف وصوت يقول «فلا عاش في تونس من خانها».

النسوة جميعهنّ ترتدين اللباس التقليدي بكل الوانه وزينته، الخلخال والخلال و البخنوق والحرام الملوّن جميعهن تحضرن في اللباس التقليدي وأغلبهنّ تخفين العيون حياء تماما كما كانت تفعل جداتهنّ.

في هذا المعرض المفتوح تاريخ الصحراء وحكاياتها، سعف النخيل الذي حوّل الى قفاف ومظلات يدوية تقليدية وعصرية، الديكورات المصنوعة اساسا من النخل وغيرها، كلما تقدمت قليلا سمعت صوتا نسائيا يقول قصيدا او يغني أغنية غزلية او تذكر راحلا، فالنساء هنا سلاحهنّ الغناء به يستمتعن ويروحن عن انفسهنّ، هنا لازال للبداوة حضورها لازالت لشيم البدو تفاصيلها، الوشم يزين الجباه واليدين، صوت الخلخال متى تحركت المرأة يصنع موسيقى تعاند صوت صفير الريح في رمال الصحراء، هنا حزوة بكل الوانها تجمّلت لاستقبال زوارها الذين يحملهم حبّ اكتشاف حكايات الصحراء وتقاليدها وهنا تجدك امام مقولة ابراهيم الكوني «في الصحراء تولد كل قصص الحب فالصحراء موطن للحب والبداية».

ساحة المهرجان يتوسطها بئر وفي ذلك عودة الى التاريخ فحزوة كانت رمال مترامية وحين وجدت فيها عين ماء تنقل بنو غريب واستوطنوها وبنوا ابارهم هناك فالماء عنوان الحياة في الصحراء لذلك اغلب القاب المدينة «السعيدي»و تقع في جوار حزوة من الجهة الجزائرية قرى صغيرة مثل بير أشلين وبير الخيم وبير الحمري وبير مويلش وبير العوابد وبير الكوش وبير ثابت آبار تؤكد أن الصحراء ارض للخصب وللحياة.

جدران حزوة تتجمّل
تجمّلت المدينة بابهى الالوان والشعارات والتعبيرات، مجموعة من شباب الجهة تحت مسمى حملة زيّن بلادك اشتركوا في كتابة ابهى الالوان على جدران دار الشباب ونادي الاطفال ومعهد حزوة، حملة تكتب اجمل التعبيرات الفنية وقد انطلقت منذ عام وليست وليدة مابعد الانتخابات.

الفنان التزام
ممثلان محترفان، يعرفهما الجمهور التونسي جيدا الأول احبه الجمهور منذ دور «حفة» في الخطاب عالباب والثاني علق بذهن التونسي بشخصية «سعيد» في مسلسل حسابات وعقابات، هما جمال ساسي وجمال المداني، الاوّل يلتقيه جمهور حزوة للعام الثاني في عرض ملحمي والثاني يشارك للمرة الأولى ويلتزم بالبروفة والتحضيرات رغم الوعكة الصحية التي تعرض إليها ليبدع رغم الوجع في أداء شخصية الراوي، جمال ساسي وجمال المداني ممثلان التزما بتقديم العرض رغم عدم وجود الدعم المادي لكن إيمانهما بأنّ الثقافة التزام ودفاعهما عن فكرة ثقافة القرب كان حافزا ليشاركا ويبدعا في ملحمة حديث الصحراء.

منذر بن ابراهيم:
الصحراء كتاب تاريخ مفتوح أنهل منه ولا انتهي
شاب طموح ومغرم بالفنون، درس السينما واختص فيها، قدّم العديد من الأفلام عن الجنوب تحديدا، ولعه بالتاريخ دفعه ليخرج أعمالا ملحمية تخبر الجمهور بقصص الصحراء وحكاياتها، مدافع شرس عن سكان الصحراء ودورهم في حركات التحرر الوطني في تونس والجزائر، من ملحمة بني غريب إلى حديث الصحراء والضاوية وملاحم أخرى ينقل بطولات أهل الصحراء، فالثقافة وعاء للتاريخ والشاب لن ينصت إلى محاضرة أو درس تاريخ لكنه سيشد إلى عرض فرجوي لذلك أحاول تقديم تاريخ جهتي بالفنون كما يقول محدثنا الذي عشق التاريخ وعشق تفاصيل صحرائه فأراد أن ينشر هذا الحب لدى كل من يشاهد

أعماله الفرجوية.
ويضيف محدثنا انّه ينهل من التاريخ ويحاول ان يعرف الاخر بتاريخ اهل الصحراء وحكاياتهم، كما انّه يعرف جيدا مدى قوة المرأة البدوية ودورها الايجابي في المقاومة المسلحة، فهي ليست سلبية وبعدها عن المدن الكبرى لم يكن دليل ضعف بل دليل قوة ومن كتب التاريخ والجلسات مع المؤرخين والباحثين في قصص الصحراء يستلهم نصوص اعماله قبل ان تقدّم الى الجمهور في شكل فرجوي تتحد فيه عوامل الفرجة والمتعة الفنية وتصل الرسائل مباشرة الى الجمهور.

____________

المصدر / المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش