“معطف” غوغول المثقوب يستعيد ألقه في عرض سوري راقص

 

“المعطف” أثر أدبي يشكل حالة مفصلية في تاريخ الأدب الروسي الواقعي في القرن التاسع عشر، وألّف هذه الرواية نيكولاي غوغول في العام 1842، وصارت مذ نشرت في أواسط القرن التاسع عشر أثرا إبداعيا عالميا، فظهرت في فيلم سينمائي أميركي عام 1915، ومن ثم في أفلام في إيطاليا وبريطانيا وسواهما من البلدان الأوروبية، كما قدّمت مسرحيا في العديد من البلدان وبأكثر من لغة، خاصة في المسرح الراقص، ولعل آخرها تلك التي قدّمها الممثل والمخرج السوري حسين خضور بأوبرا دمشق.

دمشق – “كلنا خرجنا من معطف غوغول”، فكرة أطلقها الكاتب الروسي الشهير إيفان تورغييف، مؤكدا على تقديره لرائعة الكاتب الروسي الراحل نيكولاي غوغول “المعطف”، وهي رواية قصيرة ألفها عام 1842 في شكل أدبي تميز فيه ووضع فيها مكنونات إنسانية عميقة في شكل ساخر ومتهكم، يهاجم البيروقراطية والترهل الوظيفي والفقر الذي كان موجودا في الإمبراطورية الروسية حينها.

المعطف الرمز

في سوريا، تصدت حديثا مجموعة من المسرحيين السوريين إنتاج (دار الأسد للثقافة والفنون) لمعالجة هذه الرواية العالمية، حيث قدموها من خلال عمل مسرحي راقص، يحمل الكثير من الجرأة في تقديم رؤى فنية عالية المستوى ومختلفة التوجه، إذ ربما وجد هؤلاء في الوضع الوظيفي للكثير من العمال في سوريا والوطن العربي ما يتقاطع مع ظرف أكاكي من شقاء، فعمدوا إلى تقديم هذه الرواية بعمل مسرحي متكامل من إخراج حسين خضور وأداء نوار الدبس وحسين خضور (الممثل والمخرج) عن كيروغرافيا ورقص لنورس عثمان.

أكاكي أكاكيفيتش باشماشكين، هو في الرواية الأصلية، موظف بسيط في مديرية مدنية لخدمة المواطنين في مدينة سان بطرسبرغ عاصمة الدولة الروسية، يمتلك خطا جميلا، فيتم توظيفه ناسخا، وهو الذي يهتم بعمله لأقصى درجة، ويتماهى معه.

الـ”معطف” السوري حفل بجدية كبيرة

ويعيش أكاكي في بيت قذر وبارد وحيدا مع فقره الشديد وأحلامه المهترئة، لا يهتم به الآخرون، بل ينظرون إليه نظرة دونية، وهو لا يتأثر بذلك ويتابع حياته بهدوء ووحدة.

والمعطف في الرواية ليس مجرد جماد، إنه رمزية عن الاحتياج الذي يطلبه الإنسان في حياته ولو في حده الأدنى، هو مجرد دليل على مدى العوز الذي يعيش فيه أكاكي، فهو وبحكم فقره الشديد لا يشتري معطفا آخر، بل يعمل على رتق كل فتق جديد يحصل فيه، إلى أن يصبح المعطف بالغ السوء، فيرفض الخيّاط رتقه، ويخبره بأن عليه تفصيل آخر جديد.

وبعد حسبة مالية مرهقة، يقرّر أن يلغي وجبة العشاء ويوفّر إشعال شمعة في كل ليلة، كي يستطيع بعد فترة أن يفصّل معطفا آخر، لكنه يسرق منه فورا من قبل اللصوص، ليموت لاحقا هما وكدرا من تفاصيل حياته البائسة، ويدفن مهملا منسيا لا قيمة له.

لكن روحه التي هي جزء من الحكاية لا تزال على ذات الحلم، فتبدأ بسرقة معاطف الناس في المدينة، فتتراءى في شكل شبح لا يهدأ حتى يسرق معطف أحد المُتنفّذين.

هذه الحكاية العالمية عن الروتين الإداري والتفاوت الطبقي قدّمته، كما أسلفنا، فرقة “دار الأسد للثقافة والفنون” في أوبرا دمشق وسط حماس كبير من جمهور المسرح السوري لحضور هذه التجربة المتميزة التي تذهب بهم بعيدا في مزج الأدب الواقعي بالرقص.

المعطف في الرواية رمزية عن الاحتياج الذي يطلبه الإنسان 

ويبدأ العرض السوري بمشهد للبطل وهو يستيقظ صباحا للذهاب إلى عمله، ثم نتابعه وهو يصل لمكتبه وصرفه ساعات ومن ثم سنوات عمره في ذلك العمل الروتيني القاتل، ثم تتالى الأحداث، وتتصارع رغباته مع مشكلاته، لنصل إلى ذروة الحدث التي يتصارع فيها البطل أكاكي (نورس عثمان) مع المتنفّذين في مدينته، والذين يسرقون منه حتى حلمه بأن يكون له معطف جديد يحميه من البرد الذي يعاني منه في ليالي روسيا الباردة.

مشهدية الرقص التي قدمها العرض كانت واضحة، وتخدم فكرة النص، كونها لم تعمد إلى تقديم حالة من الإبهار البصري والحركي، الذي غالبا ما يشوّش على مضمون الفكرة، فكانت المشهدية الكاملة للمسرحية متناسقة العناصر من حيث الحركة والضوء والمقاطع الموسيقية التي رافقت العرض على امتداد زمنه.

صراع وجود

كان الرقص المقدّم بعيدا عن النمطية التي صارت طاغية في المسرح السوري الراقص المعتمد على ثيمات مكررة وممجوجة، كذلك كان للجهد البصري المتعلق بالضوء مساحة هامة في العرض، كونه قدّم بتناغم جيد مع الديكور، الذي اتسم بالواقعية والبساطة، وكتلة منطقية من المكوّن الفني في ظل حبكة درامية متماسكة، شابها الطول أحيانا في بعض المشاهد، حيث إنها كانت زمنيا أطول من اللازم لإيصال فكرة، وربما كان السبب في ذلك كون العرض منتميا إلى المسرح الراقص الذي يتطلب المزيد من الوقت لإتمام الحركة الراقصة وإشباعها.

في المحصلة حفل الـ”معطف” السوري بجدية كبيرة، ظهرت في كل تفاصيله من حيث الرقصات والسينوغرافيا والديكور البسيط والمؤثرات الصوتية التي جعلت من العمل نصا جسديا منطوقا دون الكثير من الثرثرة.

 

https://alarab.co.uk/

نضال قوشحة

كاتب سوري

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش